السبت، 25 فبراير 2017

بين إهانة المعابر وفقدان الأوطان (3-3)


لم أنس أرضي حيث كنت في الإشراقات الدافئة أستمتع شدو الطيور وزغاريدها في الغابات الحاضنة بالقرود والأفاعي والنمور الإستوائية، وفي الصباح الباكر يتعالى صوت الأطفال وهم في حلقاتهم القرآنية يرددون بالأيات، الأطفال في الريف الصومالي مقسمون بين الرعي والزراعة والتعليم، كنا نغدو بأجسامنا ونظراتنا الطفولية إلى مزارعنا الملئية بالخضرة وألوان الحياة، في القسم الشرقي التي لاتبعد كثيرا عن الساحل كنا نزرع الذرة والفاصوليا والسمسم، وكنا نزرع الموز والمانجو والباباي في الجانب الجنوبي المطل على النهر.

الأراضي الساحلية بين قريتي والمدينة كانت مركزا للجنود الإيطاليين منذ أن سنّ برلمانهم قانون الصومال الإيطالي (Somalia Italiana) عام1908م، وكانوا يستخدمون المنطقة كقاعدة عسكرية منذ أن اشتدت وطأة النضال الموجهة إليهم، كانت المعارك كثيرة والتنكيل مستمرا والمقاومة تتجدد في كل جيل، وعلى بعد 12كم شمالا وفي الجسر المرتبط بين المدن والسهوب الساحلية وقعت معارك عنيفة بين الثوار وبين المحتل الإيطالي، كانت المعارك عنيفة تسطو عليها البنادق والسيوف والمدافع، وبعد مرور أكثر من قرن مازالت الميادين تشهد بسالة النضال وعظمة المواقف.

غادر الأروبيون الأراضي الصومالية وانتهى غدرهم ولم ينتهي الألم، بل امتد في رحاب الزمن وربوع الجغرافيا حتى سيطرت حركات السفه السياسي على ربوع الوطن مما أجبر الكثيرين الفرار إلى المهجر بحثا عن الذات وقدسية النفس التي حرم الله إلا بالحق، جئت أوروبا أحمل مزيدا من الطموح والشوق ولكن إختلاف الأديان والثقافات تحول بيني وبين الأهداف المرسومة على دفتر الأماني وما أكثرها في الغربة!.

على شاطيء الثلوج جلست أتأمل على قسوة الحياة والتناقض المناخي بين هذه المنطقة وبين قريتي، هنا من الصعب أن يعيش الدّب فما بالك بإنسان جاء من أقصى القرن الإفريقي حيث تتوهج الشمس طيلة أيام السنة، التكيف في الحياة الباردة وكثير من الوجوه التعيسة والملامح التي غطتها البرودة الممزوجة بالأنين كان تحديا ينسيني وخز الطبيعة ونوبات السعال المتصاعدة عن الخيمات.
الليل هنا متشابه مطلي بالظلمة والزمهرير ولا فرق بين الليالي المقمرة أو تلك التي هيمنها الدجى. النجوم الإفريقية المسطحة على هامات الدروب السماوية، وحميمية النسائم الإستوائية تغتال الأسى في رحم الغيب، أما ليل المخيم فهو عبارة عن شبح يطاردنا ويبعدنا عن حيوية الحياة.

في العنابر الجنوبية حيث الجناح الأسيوي تزوجت كامبودية سمينة من ميانماري أسمر، نشب خلاف حاد بين الجاليتين حيث كانت الفتاة من أسرة بوذية متطرفة تأبى مخالطة الأديان الأخرى، بينما كان الولد مسلما هرب من بورما بسبب الإبادة الجماعية ضد الأقلية الروهينغية، التطهير العرقي التي تقوده إمرأة حائزة على جائزة نوبل للسلام،! ويا لعار الجوائز المسيّسة والتكريم المبني على المحاباة، ويا لعار العالم والسقوط المدوي للأخلاق، المسألة الروهينغية عرّت الأخلاق الفاسدة للطغمة الحاكمة في ميانمار والعالم بكل أصنافه ودوله ومعتقداته، حيث يمارس ضد هذا الشعب الأعزل أسوأ انواع الظلم والتهجير القسري والإبادة على مسمع العالم بل وبمباركة دولية أحيانا.

الحب لغة عالمية وإرث إنساني، ومن المفارقات أن الحب لايعترف الحدود ولا القيود وإلا فكيف يحب الضحية الجلّاد؟ وكيف تنشأ الأحاسيس بين قلب ملأته الأسى وانهكه التعب والبحث الدوؤب للأمن والإنسانية ولقمة العيش في القرن 21م؟، هرب من أجل أغلبية بوذية متسلطة تلغي التعددية والمواطنة وتربط الدين بالإنتماء وتحارب التنوع الثقافي والعرقي، كان قبل إسبوع يحدثنا بلغته المحلية ويترجمها أراكاني آخر بسويدية ركيكة، حدثنا عن المحرقة والإبادة الجماعية وموجات البطش الموجهة لتلك القومية التي ذنبها الوحيد أنها مسلمة!.

أتعبني التفكير فاستسلمت لكرى أرسلتني إلى النهر والأزقات الضيقة بين الغابات قبل أن أصحوا بضجة رهيبة تتصاعد من الخيمة المجاورة التي يسكنها إرتري باذخ الطول كث الشعر هاديء الملامح، جاء قبل شهرين يحمل أمنية تتمدد في قلبه بمرور الزمن ومرارة تركت على نفسه رسوبات من القلق والتشاؤم، صفعة مؤلمة تلك التي تحدث للأجيال المناضلة بعد إنتظار طويل، الجموع الإرترية التي ضحت المهج والأرواح من أجل الاستقلال كانت تمني النفس إنتهاء الإستعمار الأسود وكابوس اللجوء وليالي التشريد في دول الجوار وكل أصقاع العالم، ولكن بعدما ذهب الإستعمار وجاء الاستبداد تحولت الحياة إلى جحيم لايطاق واختفت الأماني وراء سراب الدولة الشمولية التي مارست العنف وكل ما يعف عنه الوحوش، وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهند.


الجمعة، 10 فبراير 2017

من سكون الغربة إلى راحة الوطن 



عشت في الغربة أطيافا متعددة، أتعلم أقرأ وأكتب، وأحتضن زاوية المقاهي والقصص الجميلة، أشتاق لشذا الأهل وحناجر السمراوات وهنَّ يغنين على وقع الرقصات الشعبية والألعاب الفلكورية، وكنت أراقب وضع الوطن وهيستريا الشعب وتقلبات السياسة عن كثب، أسير على درب التعليم أتعثر فأنهض ولا أجد من يساعدني أو يواسيني أو يشارك معي إيقاعات الحياة والمتاهات الكثيرة للغربة والضياع سوى الأصدقاء.
وفي كل مغيب على أعتاب الغربة وعلى امتداد السنين والمعاناة، كنت أتذكر الأمسيات الوادعة على أكتاف الوطن برسمه السماوي وتشابكه الجميل ووصفه البديع، أتذكر ضفائر الشمس الخجولة التي تتستر وتختفي وراء الظلام، وخلف الجبال الملصقة بشفق المغيب كعذارى يسقين الحيّ أويسرحن شعرهن بليل صومالي مترع بالشعر والميثولوجيا والأمثال الشعبية وأحاديث الغزوات والفروسية.
كنت أغني كما يغني الشعراء الحالمون بمجد بلدي الذي اشتهر بينابيع الحب والجمال قبل أن تحل عليه نكبات الحروب وعبثية الصراعات ولعنة الكانتونات والتقسيمات الجائرة، وأردد وأنا أعزف ألحان التوجع "غنّي بذكري يابلادي" وكـأني زهرة حمراء في حقول الوطن تدركها العيون بلا عناء، وفي قمة النوستالجيا كنت أخاطب ملعب طفولتي ومسرح حداثتي والشبح ذات الجسد الممشوق والبشرة السمراء الجميلة الذي كان يعتريني في جنح الظلام.
كان قطار الزمن المعكوس يأخذني إلى الرمال الحريرية، والزوارق التي تتمايل على عباب الأمواج، وكنت أحسّ بفرجة الفرحة كلما استحضرت الأيام الخوالي والحكايات المثيرة، وفضول الأعراب، وعيون الشيوخ الغائرة في وسط التجاعيد، والنظرات الشاحبة للوطن. وكانت الرائحة الزكية للتاريخ تفوح كروضة محاطة بسياج الجمال على ضفاف نهر شبيللي التليد.
جمالية الماضي وسريالية الليالي المتألقات كانت ترخي حبال الرحمة للنفس التي تعيش منطقة رمادية، وتدخل السرور في القلوب التي أنهكها التعب، وفي وسط سكون الغربة كانت مخيلتي المخدرة بحب الوطن والتآئهة بعشق أمتي، وملامح أمي التي تذكرني بطيبة أهلي في الوطن الكبير ووُد أمهاتنا اللاتي يحرقن أجسادهن ونفوسهن ليضئن الشموع وينرن الدروب تتعلق بالماضي بكل تفاصيله الدقيقة وألوانه الصارخة وتناقضاته الكبيرة.
معزوفة المشاعر العتيقة كانت تجعل أيامي ساعات طاؤوسية نثر الحب فيها أنغامه الشرقية الهادئة على أحاسيسي البلورية، ونسيم الصّبا المنعش يبلل عطر الشوق في جسدي، وتمر أمامي كلوحة زجاجية شفافة هوس الطفولة للساحرة المستديرة، وشجارنا الصبياني القاتل عند كل هدف يمزق عذرية الشباك، أو كل تمريرة بينية متقنة تفك شفرات المدافعين المتكتلة في المنطقة المحظورة، وكل ركلة طائشة ترسل الكرة إلى المدرجات كسبا للوقت، أوكل مراوغة مبهرة لفنان داخل المستطيل الأخضر يعزف الإبداع الكروي على الضفة الغربية للمحيط الهندي.
لم أنفصم عن تراثي وتقاليدي العريقة، ولم يترك الزمن طابع الحداثة في نفسي، لأني عشت في صغري في بئية محافظة ذات أثر روحي كانت الدين نبضها الأكبر، فكانت نفسي تندمج مع المسجد العتيق في حيّنا والصوت الشجي للمؤذن الموقر الذي تراجيع صوته تشبه صوت مؤذن الحي في مدينتنا، جدران المسجد، والأوراد بعد الصلوات المكتوبة بطريقة جماعية تفيض جمالا، والسبحة في أيدي المسنين، وحتى دورات المياه للمسجد كانت ترسلني إلي سحيق الذكريات في مسجد سوق ويني(Suuq weyne) الشامخ في كسمايو، ولم يكن صوت المؤذن هو الشيء الوحيد الذي تشترك مدينتنا العريقة مع العاصمة العملاقة، بل طريقة الأعراس، وزغردة الحرائر،واللوراي القادمة من أدغال خط الاستواء محملة البضائع والخضروات، وعشوائية المدن، وزحمة الطرقات، تحركت في وجداني ذكريات أبت أن تتصالح مع نفسي الكلاسيكية أو أن يمحوها دجى النسيان في عالم الغربة.
وبين الخيال الفانتازي والليالي الصامتة من حولي والغربة التي تقيدك على رصيفها، كنت أقطع الزمن مع أصدقائي في الدراسة وزملائي في رحلات الحياة، وممن عاشو معي على بساط التعليم وفي صروح المعرفة، وكنت أنفث الأحلام في كنف الحكايات والأساطير الموغلة في التراث الشعبي، والليالي الملاح والأحاديث الشبابية الساذجة وعلى وقع النبرات الصوتية التي تعاني من المنطق المعاكس للحياة والألحان الحزينة للترحال والنوى.
كنا شبابا يحتضن ذكريات الحب المليئة بالتراجيديا، لأن الحب لا يتماسك أمام عاصفة الفراق والجفاف العاطفي الذي غالبا ما يكون الإبن الشرعي للفراق، بل يتساقط الحب في أغلب الأحوال كأوراق الأشجار التي عصفت بها زوابع الخريف.
وللأصدقاء والأحبة دوما مكانة خاصة في قلبي، وأنا منذ أن تورطت حسن النية والطيبة أوقل إن شئت (السذاجة والحب في عالم تقوده المصلحة ويسوقه الجشع)، اخترت أطيب وأحسن مكان في ردهات قلبي ليكون عنوانه "للأصدقاء فقط"، وممنوع الإقتراب إليه ومخصص للزملاء، سواء كانو ممن عرفتهم عن كثب وعن طريق العالم الواقعي أو جمعتنا الحياة صدفة وبدون مقدمات وتفرقنا ونحن نذرف الدموع ونتسارع مع الزمن، ونحاول أن لا ينسي أحدنا على الآخر، أو جمعتنا التكنولوجيا والعالم الإفتراضي في بحوره وفي وسطه المشحون بالشعور المتناقضة والأقنعة المزيفة.
أخص بالذكر أصدقائي الذين اقتسمنا تكاليف المعيشة وسامرنا كثيرا في ردهة البيت الذي كنا نسكنه بجو من الألفة والتناغم، وحياة قوامها الإخاء والوفاء، نجلس تحت الفضاء في سطح العمارة نستمتع بكل ما للحظات الصداقة من المزاح والتسلية، وكبابي الشاي الممزوجة بالقهقهات تدور كحلقة متصلة بيننا.
أجواء السمر المشحون بالأحاديث الجذابة وذكر النساء وحديث النساء له شجون ووقع خاص يثير الشعور ويلهب الخواطر هنا في الغربة، وهناك وفي المنافي البعيدة لابد للمشتاق أن يتذكر النظرات القاتلة والتغنج المميت والدلال الأنثوي التقليدي. ولاشيء يعادل لذة التعامل مع عطر ذكر الأنيقات سوى القراءة الماتعة حين تلاطفك نفحات الفجر الفواحة.
أصدقائي أثروا في حياتي وكانوا مصدرا لإلهامي، وكانت حياتنا ملتصقة ومتصلة طيلة السنوات التي عشنا معا، وكان تشجيعهم يذكي في نفسي جذوة الكتابة والمثابرة، وأمثال عبد الرزاق محمد عمر الذي أصبحت حياتنا مرتبطة منذ نهاية القرن المنصرم عندما كنا أطفالا يغدون إلي مدارسهم، كان شعلة مضئية في حياتي، دمث الخلق رقيق المشاعر كريم السجايا أمهرنا في المراوغة داخل المستطيل الأخضر وأكثرنا حماسة في جميع الميادين، ولا أنسى آدم حسين عثمان(حمرى) مشجع من الطراز الأول للبلوغرانا(برشلونة)  والصديق الحميم لمجلة سوكر الرياضية، شخصية مهذبة ما لم تخرج عن النص، حياته المرتبة وشخيره المزعج ومزحته القاتلة التي تحول المجلس إلى صخب ولغظ وضحكة مجلجلة طالما خففت عنا ألم السهر.

أفجوي والطبيعة الباذخة


أفجوي مدينة الجمال والبساتين والحكاوي والتراث الصومالية حيث اشتهرت المدينة بطبيعتها الخلابة وألعابها الشعبية وطابعها التاريخي والثقافي التي احتفظت به المدينة رغم سنوات الحروب والتهجير التي حولت لوحة الصومال الجميلة إلى لوحة كالحة وكئيبة، كما تعتبر أنها من إحدى أهم المدن في الجنوب الصومالي بكونها سلة الغذاء والجمال وموطن الفلاحين الذين هم عصب الحياة في وطن يعتمد على الرعي والزراعة.

موقعها المتميز ولمساتها الخاصة إضافة إلى التخطيط الجيد والمباني القديمة جعل أفجوي مدينة لها تأثير خاص في الوجدان الصومالي لذا نجد اسمها يتردد في الأمثال والقصص والفن الصومالي بكافة أنواعه. قبل الإستعمار الإيطالي الذي سيطر على المدينةفي بداية القرن العشرين كانت قبلة السياح لكونها تتمتع بكافة المرافق السياحية والحيوية ما جعلها مدينة يقصدها الجميع في العطلات الرسمية والأعياد الدينية والوطنية.

تركت المدينة انطباعا جيدا على مشاعري وتعلقت بجمالها وبساطة الحياة في أحيائها العتيقة منذ زيارتي الأولى عام 1998م، أحببت إبتسامة الأطفال وهم يلعبون أسفل الجسر وتمنيت أن أتمدد في داخل الأكواخ الحالمة على ضفاف نهر شبيلي، وركضت وحيدا صوب الحقول والحدائق المنتشرة على طول أفجوي الموغلة في جمال الجغرافيا والمترعة بنشوة الرقصات الشرقية الهادئة.

في الزيارة الأولى كانت المدينة تشبه قرية إستوائية تكاسلت الشمس في أفقها، وتغفو على ضفاف الجمال والغابات الكثيفة لذا كانت زيارتها من إهتماماتي الخاصة منذ أمد بعيد، وبعد عقدين من الزمن تقريبا قصدت صوب معبد الجمال والمدينة الفاتنة بحماسنها وغنائها وتفردها الشعبي حيث تحتضن المدينة القبائل الصومالية والعربية إضافة الى الجاليات الأخرى التي كانت المدينة تضمهم منذ أن إستقرت هذه الشعوب في التربة الصومالية.

ذهبت مع رفاقي إلى أفجوي المدينة الآسرة التي إستمدت تاريخيا حيويتها وإستراتيجيتها من موقعها المتميز لكونها البوابة الجنوبية الغربية للعاصمة مقديشو التي تبعدها حوالي 30كم، وتزود أفغوي مقديشو بمعظم إحتياجاتها من الخضروات والفواكهة لذا تشكل نبض مقديشو ورئة مهمة تتنفس منها العاصمة.

كانت الأجواء صيفية ساخنة وأرتفعت الرطوبة في الجنوب الصومالي إلى أعلى مستوياتها، لأن الشمس كانت تجري تلك الأيام على خط الإستواء الذي يمر بالنصف الجنوبي من الصومال، كان الحر يشتد والرطوبة تزداد والعرق يتصبب كلما توغلنا في السفر الذي تحول أخيرا وعندما وصلنا إلى عين الجمال وإبتسامات جميلة مارسناها على وقع رقصات الأغصان وصوت الأوراق التي تعزف أجمل الألحان.
في وسط مروج أفجوي الخضراء وعلى حافة أحد الحقول الزراعية التي كان العمال منهمكون بحرثها، إلتقيت بمزارع مسن يبدو على جسمه بقايا قوة وعضلات كانت مفتولة في زمن الصبا والشباب، جاء من أقصى الجنوب الصومالي حيث المدن التي أعرفها جيدا وقضيت فيها سنوات الطفولة وأنضر أيام عمري، تحدثنا كثيرا عن القرى الناعسة على ضفاف نهر جوبا العريق بدءا من جلبJilib زهرة المدائن الواقعة على سهول نهر جوبا التي أسرتني منذ أول زيارة بجمالها قبل 15 عاما، مرورا بكمسوما Kamsuma سرة المدن وهمزة الوصل بين الإقليمين التوأمين جوبا السفلي وجوبا الوسطى، مرورا بكلانجيKalanje ومريري Marereyمصنع السكر الذي كان أكبر مصنع سكر في الصومال وثاني أكبر مصنع في القارة السمراء، وتطرقنا على مزارات المتصوفة عن بلد الكريم BaladAlkarim، ومانموفو Manamofa، وبارسنجوني Barsanguni، هذه القرية السياحة التي ينصفها خط الإستواء، وبإمكان الإنسان أن يعيش فيها لحظة تاريخية نادرة الحدوث، حيث يستطيع أن يضع رجله اليسرى على النصف الشمالي من الكرة الأرضية ورجله اليمنى على النصف الجنوبي من الكرة الأرضية.

لم أكن أتوقع أن أجد على ضواحي أفغوي الرائعة وفي وسط أناقة الأزهار التي تكاد أن تتكلم وتبوح بكل مالديها لمرهفي الإحساس وأصحاب القلوب النقية من أتحدّث معه عن القرى النائية، والمدن الصومالية العريقة، والأرياف التي أعرفها كثيرا وبعضها كنت أتردد عليها في صغري وأيام المراهقة الجميلة.

حاول العم إبراهيم رغم قصر يده والبساطة التي تظهر عليه أن نكون ضيفا على أسرته وأن نذهب معه إلى البيت، ولاغرو فالأرياف الصومالية التقليدية التي تحمل طابع العراقة والأصالة التليدة التي لم تتلون باللون الأحمر بسبب نافورة الدماء التي سالت، ولم يتغير طباع ساكنيها بفعل الحروب العبثية والصراعات العقيمة التي تاه الشعب في دروبها الطويلة ومتاهاتها القاتلة أكثر من نصف قرن من الزمان، تبقي وفيّة لتقاليد الصومال العريقة وأصالة شعبها الكريم المتسامح الذي يرى عدم إكرام الضيف من أقبح العادات التي يفعلها الإنسان على مر العصور.

وجدنا في الأماكن النائية وفي العمق الزراعي لأفغوي شعبا متسامحا كريما، ورياحا لطيفة تلامس وجه النهر الهادئ، وسهولا نهرية ملئية بالأسرار والخيرات، وإبتسامات برئية لأطفال يسرحون البقر على المراعي الخضراء، وأزهارا متعددة الأنواع والأشكال والألوان، وجداول رقراقة تناجي عناقيد المانجو، وأغصانا تحن وتشتاق لبعضها، وحقول السنابل التي تلاطف أوراق الموز برقة ولين كأنه فنان أوبرالي مترف بالأحاسيس العتيقة، وترعات تحيط بأشجار الباباي التي تئنبالحمل الثقيل.

هناك وفي جزيرة مزدانة بالخضرة الداكنة وقفنا نخلد ذكريات الأيام ونوثق صدى الساعات الطوال التي قضيناها مع صحبة الأماجد والرفاق الكرام، وهناك وعلى ذرى الطبيعة ووقع صوت العصافير التي تترنم كمعزوفة شرقية حالمة، وزقزقة الحمائم المزهوة بالخضرة، والبطاريق المتبخترة، والدروب الخضراء المتقاطعة، والمروج التي تتزاحم على جنبات الطريق، والأزقةالضيقة التي يعبرها القرويون بدراجاتهم وتقودنا نحن إلى قرية هرر التي تبعد قرابة 15كم شمال أفغوي، كانت الوجوه تتلألئ، والأفواه مبتسمة، وفوق الأغصان الملتفة التي إتحدت وتعانقت كأنها تحس بدفئ الحب ومرارة الفراق وفي وسط زحمة الأعشاب الملتصقة بالنهر كان تغريد القمرية يطرب العقول، وكأنها تردد أغنية الشوق والهوى لصاحبة الصوت الطري هبة نورا وحنجرتها الذهبية تردد رائعتها المشهورة:
(Doob qalanjadiisi gabay)
"عازب خيب آمال حبيبته"

يوميات جيولوجي (3-3)


الدراسة:

دراستنا في مجمع السبلوقة الناري كانت تركز ثلاثة أشياء مهمة بالنسبة لكل جيولوجي في بداية مسيرته العلمية ورحلاته الجيولوجية:
1: الدراسات الحقلية.
2: التخريط أو الخريطة الجيولوجية.
3: التطبيقات الجيوفيزيائية.

*جيولوجيا حقلية
الحقل:-Field
هو تعبير عام لأي مكان خارج المعمل أو في العراء حيث يستطيع الجيولوجي عمل القياسات والدراسات وتسجيل الملاحظات الأولية وجمع الصخور والمعادن والأحافير(Glossary of Geology by Bates).
والعمل الحقلي (Field Work) من الضرورات الحتمية لأعمال التخريط الجيولوجي المختلفة والتي قد تشمل الاتي:-
1: الخرائط الطبوغرافية الاساسية Topographic Base Maps
2: الخرائط الاستطلاعية الجيولوجية Reconnaissance Geological Maps
وهي خرائط المنطقة المجهولة وبمقياس رسم حوالي 1:250000 وبعض هذه الخرائط عبارة عن خرائط تصويريةPhotogeological Maps. حيث يتم رسمها اعتمادا على معلومات حقلية قليلة وتفسير الصور الجوية
3: الخرائط الجيولوجية الاقليمية Regional Geological Maps وهذه خرائط بمقياس رسم ما بين 1=50000 إلى 1=100000
4: الخرائط الجيولوجية المفصلةDetailed ومقياس رسمها حوالي 1=10000
5: الخرائط المتخصصة وهذه خرائط متصلة جدا 1=1000إلي 1=25000
وأيا كان نوع الخرائط الجيولوجية المطلوبة فإنه تخصص فترة زمنية لأعمال التخريطMapping في الحقل لوحظ أنها دائما تقل أو تساوي فقط الوقت اللازم لإجراء الاعمال الحقلية اللازمة.
ويتطلب أمر إجراء الدراسات الحقلية:
1:التعرف على الظواهر الجيلوجية المختلفة في الصورة الجوية باستخدام عناصر التفسير.
2: توجيه الصورة الجوية بالنسبة للأحداثيات الجغرافية.
3: إيجاد و التعود علي مقياس رسم الصورة الجوية.(2)
(2)http://sudangeo1.ahlamontada.com/t873-topic

** تعريف الخريطة الجيولوجية
هي عبارة عن تجسيد بياني على سطح مستوى للوحدات الصخرية والبنيات الموجودة على مساحة ما ويتم رسمها باستخدام الخطوط والرموز والأنماط وربما الألوان. وهي عادة تصف تركيب الصخور وتقارن بين الوحدات من حيث الموقع والزمن. وقد تحوي أيضاً مقاطع عرضية وجداول للبيانات المقارنة:

الخرائط الجيولوجية:
تؤمن الخرائط الجيولوجية معلومات حول الصخور والبنيات الموجودة على سطح الأرض. وتحتوي هذه الخرائط على معلومات حول الملامح الكيميائية والفيزيائية للصخور وحول علاقاتها المكانية والزمانية ومحتوياتها المحتملة من المعادن.
وتشمل التطبيقات العملية للخرائط الجيولوجية:
ــ استكشاف وتنمية الثروات المعدنية ومصادر الطاقة والمياه
ــ تقويم إستغلال الأراضي والتخطيط لحماية البيئة
ــ التقليل من مخاطر الزلازل
ــ التنبؤ بالمخاطر البركانية

(3) ــ تقليل الخسائر الناتجة عن الإنزلاقات والإنهيارات الأرضية
(3)http://www.sgs.org.sa/Arabic/earth/Pages/NewExplosion.aspx
الجيوفيزياء التطبيقية:
وتعني إستخدام الطرق الجيوفيزيائية في تحديد هدف معين تحت سطح الأرض، مثل المياه الجوفية، والمعادن الاقتصادية، والأجسام المدفونة بأنواعها،والبترول والغاز ومعرفة التركيب الجيولوجي للطبقات تحت السطحية، وما تحتويه من كهوف أو صدوع أوفراغات وفي مجال التطبيقات الهندسية.
وهذه الطرق تنقسم إلى: الطرق الجاذبية والمغناطيسية والكهربية والكهرومغناطيسية والسيزمية والرادارية (4) 

لم تكن رحلتنا علمية فحسب بل كانت رحلة مزدوجة علمية دعوية، ومن نافلة القول أن يدرك القارئ أن جامعة إفريقيا هدفها الأول هو تخريج وإعداد داعية إسلامي يحمل هم الدعوة وتبليغها للناس، سواء كان الخريج صحفيا أو طبيبا أو مهندسا أو تربوياً، وهكذا كانت الدعوة ونشر الإسلام من صميم برامجنا نشرح للناس سماحة الإسلام وفرائض الدين وأركان الإيمان ونتجول في الأحياء والأسواق والمساجد لنشر الإسلام، ورأينا بأم أعيننا مجتمعا جائعا للدين محتاجا للدعوة الإسلامية يحب العلم والعلماء وكل ما له صلة بالدين الإسلامي.
لقد رجعنا بفوائد جمة ومعرفة غزيرة من تلك الرحلة وخاصة حياة المعسكر مع وجوه جديدة وطلاب عشنا معا في أروقة الجامعة فقط، وأهم ماتستفيد في المعسكر هو الدقه والتنظيم الفائق والانضباط القوي والحياة المغايرة لما ألفنا في بيوتنا واختلاط ومعرفة واحتكاك بالطلاب من جميع الدول والأجناس والمبيت معهم جنبا إلى جنب في العراء والفضاء الرحب أو الغرف المتواضعه، والتقاسم معهم اللقمة وشظف العيش بقلوب راضية وثغر مبتسم.

الرحلة النيلية والوداع الأخير

في اليوم الأخير وقبل أن نودع قريتنا ـ ودائما الوداع قاسي ـ ومعسكرنا الذي كوّن معنا علاقة حب ذهبنا رحلة برية قصيرة إلى النيل مع مجموعة من الأصدقاء الذين أكن لهم محبة تزاحم الرواسي، قصدنا النيل والسرور يطفو على وجوهنا، وصلنا عيون الجمال حيث تتهادي المياه بأنسيابية عجيبة لا يخلو منها خرير لطيف يصاحبه حفيف ناعم للأوراق وزقزقة عندليبية للعصافير، وبعد إستشارتنا للمرشد السياحي الموجود في المنطقة إخترنا أجمل منطقة في النيل التي هي عبارة عن جزر متفرقة علي طول النهر وتشكل سلسلة طبيعية وتلال خضراء مطلة علي الشاطئ حيث تنسجم الطبيعة بالحضارة.

ومن مميزات المنطقة أنها قريبة جدا للشلال والخانق، والخانق وهو أضيق مكان في النيل ولا يتعدي عرض النيل في هذا الخانق بضع مترات ـ والنيل هبة الله للسودان ومصر تاريخه مرصعة بالحضارة والثقافة،منبعه آية في الجمال ومجراه أعجوبة في التناسق ومصبه وسيله الهادرمعجزة خالدة، وعبوره بأقسي الطبيعة وأصعب الجغرافيا وفي وسط الصحاري والجبال والكثبان بكل شموخ واعتزازشاهد على بديع صنع الله، ومما يزيد الدهشة ويوقفنا أمام النيل مقرين بعظمة صنع الخالق أن جميع أنهار العالم تجري من الشمال إلى الجنوب ما عدا نهر النيل فهو الوحيد الذي يجري من الجنوب إلى الشمال!

يوميات جيولوجي (3-2)



منطقة الدراسة
منطقة السبلوقة تقع في الأطراف الجنوبية لولاية نهر النيل السودانية وعلى بعد 90كم شمال الخرطوم، وهي منطقة جيدة للدراسات الحقلية الجيولوجية وفيها الشلال السادس الذي يعد من المناطق السياحية في السودان. ويؤمها الزوار والسياح لتنوع مكوناتها الطبيعية وقربها النسبي للخرطوم.
التتابع الجيولوجي لحبيس السبلوقة Geological Succession Of Sabaloka Inlier:-
أوضحت الدراسات الجيولوجية السابقة أن منطقة السبلوقة تتكون من أربعة وحدات صخرية رئيسة مختلفة التكوين والتركيب، يمتد عمرها من عصر ما قبل الكامبري (
pre Cambrian) إلى الحين الحديث، وهذه الوحدات تشمل من الأقدم إلى الأحدث عمراً حسب ماحددته الدراسات السابقة:
• معقد صخور الأساس Basement Complex
• معقد السبلوقة الناري Sabaloka Igneous Complex
• تكوين الحجر الرملي النوبي Nubian Sand Stone formation
• الرسوبيات الحديثة السطحية Recent Deposits(1)

وما إن وصلنا إلى المكان المقصود حتى نزلنا من السيارة كسرعة البرق وبدأنا نتسلق الجبال ونكسر العينات ونصدم الأحجار الكبيرة في عز الظهيرة ونأخذ القياسات المطلوبة من خطوط المضرب واتجاه الميل وسمك الطبقات ومقاومتها، ولاقينا في تلك الجولة مالا يطاق ومشاق لا يحصى، وكلما نتعب وتضعف عزيمتنا نعلل النفس بالأماني والمآلات الطيبة، وبعد الفتور والإعياء نستحضر الفوائد الجمة التي سنجنيها من تلك المشقة وأستذكر قول إمبراطور الشعر العربي المتنبي: لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يفقر والإقدام قتال.

ولكن وبحق لم تكن المسافة الطويلة، ولا حر الشمس في عز الظهيرة، ولا الظمأ المستحكم والجوع الشديد، تضعف عزيمتنا وتلين همتنا في مواصلة مسيرتنا نحو التدرب والإستفادة القصوى من الزمن والأساتذة الموجودين معنا في الحقل والأجهزة الحديثة المتوفرة ولأول مرة في جامعتنا، بل كان الأمل يحدونا نحو الاستفادة ونحو أن نكون يوما من الأيام رواد هذا العلم الجليل، هذه العوامل شكلت حافزا قويا وخلقت في دواخلنا قوة وإيجابية ومحركا فعالا لتلقي العلوم، والسعي الدؤوب لمعرفة المنطقة وتخريطها ودراستها، وقيد جميع المعلومات وكتابتها في دفتر الملاحظات، ورصد كل شاردة وواردة لنصل إلى مبتغانا.

ومما يحرك الجهد ويقوى العزيمة ويضاعف الاجتهاد ويأبى الاستكانة والاستراحة للنفس كوننا طلاب أجانب (وافدين) كما يسموننا السودانيون، وأمامنا أجهزة وأساتذة أكفاء ومنطقة مثالية للدراسة، وجو مهيأ للتدرب لا نجده في بلادنا المنكوبة، إضافة إلى ذلك كان في بالنا أننا من دولة مزقتها الحروب وأنهكتها المجاعة وأضعفها الظمأ، وشعب في أمس الحاجة إلى من ينشله من براثن الحروب والصراعات العبثية، إلى واحة الأمن والأمان وإلى شاطئ السعادة، ولا يوجد شيء أحسن من العلم كي نواجه المثلث المرعب في حياة الإنسان (الجهل والفقر والمرض).

وفوق هذا تجبرك الغربة وندرة هذا العلم في بلدك إلى بذل المزيد ومضاعفة الجهود، بسبب هذه العوامل وأخري كثيرة كان يتحتم علينا دائما ان نبذل مزيدا من الجهد والجدية لنحمل علوما بإمكانها إنقاذ حياة شعبنا الذي يموت من قلة المياه وهو يعيش على ضفاف الأنهاروالأراضي الغنية بالمياه الجوفية.

وليست قلة المياه وحدها ما يعانيه شعبنا، فهو يعاني من قلة اليد والعوز والمجاعة، وهو يعيش فوق بركة من النفط وآبار من الغاز الطبيعي، ومن المفارقات العجيبة أن شعبنا يتسول على فتات الموائد ويعيش لاجئا في كل البلدان، وقد حباه الله بأرضٍ تنوء بمعادن مختلفة وأحجار كريمة وخيرات طافحة وخامات اقتصادية نادرة وأراضي شاسعة صالحة للزراعة، ناهيك عن الثروة الحيوانية والسمكية التي لا تحصى ولا تعد.

يوميات جيولوجي (3-1)


تحركت الحافلة التي كانت تقلنا إلى السبلوقة من أمام مبني كلية العلوم بجامعة إقريقيا العالمية، في الساعة الثانية ظهرًا بعد اتنظار طويل وتأخر شديد، سببته عوائق تراكمت ومصاعب طفيفة في شكلها ولكنها معيقة وصعبة في مضمونها، تعودنا عليها في الدول الإفريقية والنامية جميعا، ولكن انقرضت وتركتها الدول المتقدمة التي تقدر قيمة الوقت وكرامة الإنسان. لم نكن نتوقع هذا التأخر الشديد والانتظار الطويل والترقب الممل، لا سيما ونحن جئنا في الصباح الباكر آملين أن نتحرك عند الساعة الثامنة صباحا ولكن طال انتظارنا وبدأ الفتور يخيّم على الأجساد والتذمر على الجباه واجتاحت موجات من عدم الرضى ملامحنا، وبعد همسات ارتفعت وتحولت إلى جدال ساخن بين الطلاب لبحث سبب هذا التأخر تعرفنا أن التأخر أمر طارئ وخارج عن السيطرة، وأن الأساتذة والمساعدين كلهم على أهبة الاستعداد ولا ينتظرون سوى الضوء الأخضر للتحرك.

لم يكن التأخر المزعج متوقعا، بل كان حدثا طارئا سببه تأخر التجهيزات الضرورية للمعسكر، والتصريحات اللازمة والأوراق الرسمية لزيارة المنطقة وإجراء الدراسات الجيولوجية عليها، لأن معظم منطقة الدراسة منطقة عسكرية محظورة وفيها أكبر مخزون إستراتيجي للجيش السوداني، لذا من الصعب أن تذهب لأي غرض إلى هذه المنطقة المحظورة إلا بإذن مسبق من الوازارة المعنية وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، ومن الطبيعي جدا وككل دول العالم الثالث أن تكون مثل هذه الأمور معقدة وتحتاج إلى مراجعة وصبر كي تصل إلى مطالبك.

وقبيل خروجنا من الحرم الجامعي كان السرور والاشتياق الى السفر واضحا، وتحركت المشاعر النبيلة تجاه السفر الميمون، وصدح على الكراسي الأمامية من الحافلة أغنية شجية من الكلاسيكيات السودانية القديمة ذات الطراز الوتري فنثرت في الجو عطورا من الألفة والتواصل وبحورا من وميض الإحساس المرهون بأصالة الفن وجزالة الكلمات، والسودانيون بمجرد سماعهم للأغاني الشجية ذات اللمسات الإنسانية الرائعة لعمالقة الفن ونجوم الزمن الجميل تغمرهم موجة من السعادة العارمة قتتمايل أجسادهم وتتحرك أناملهم وتكسوا البهجة على جباههم السمراء وتقرأ علي وجوههم علامات الرضى والقبول.

وفي هذه الطقوس الخاصة والشخصية الودودة السودانية لم يكن غريبا أن يكون السفر بخلاف المنتظر سهلا جدا، بالإضافة إلى قصرالمسافة وتعبيد الطرق وسلامة المكان والتهوئة الجيدة للباص الذي كان ينقلنا إلى المعسكر، وتشوقنا الواضح للدراسات العملية والجيولوجيا الحقلية الذي هو لب الجيولوجيا وأساسه المتين، وفوق كل هذا كنا متحمسين للسبلوقة لما تركت علينا الزيارة السابقة من انطباعات جيدة ولمسات إيجابية وأيام امتد السروربساعاتها

وفي خضم سفرنا الأنيق وأثناء مداعبة النسائم الندية المحملة على رذاذ النيل في مقدمة جباهنا لم يخل في بالنا أن السفر تعليم للصغير وخبرة للكبير كما قال القدماء، ولم نكن نشعر أي تعب أو عناء في الرحلة، بل كانت رحلة غمرتها الفرحة وهيمنت عليها الأحاديث والإغفاءات القصيرة لبعض الرفقاء، وكانت رحلتنا تشبه السفريات السياحية والزيارات الإستجمامية، ولم نر طيلة الطريق ما يعكر صفونا ويخرب مزاجنا العالي ومعنوياتنا المرتفعة حتى وصلنا إلى المعسكر، ذلك المبني الشامخ في وسط الصحراء وفي الأرضية الجبلية الجرداء بعد مغيب الشمس وفي عتمة الليل البهيم.

معسكر السبلوقة

المعسكر عبارة عن مباني تقع فوق هضبة منبطحة قرب (المسيكتاب ) وهي قرية صغيرة ومحدودة السكان، والمعسكر عام للجامعات السودانية، رغم أن ملكيته تعود إلى جامعة الخرطوم أعرق الجامعات السودانية وأقدمها على  الإطلاق، ويتكون من ثلاثة مباني متجاورة ولا يفصل بينهم إلا ممرات وفناء المعسكر الرحب، المبني الأول هو عبارة عن ثلاثة غرف خاصة للطلاب ويسع كل غرفة حوالي عشرين سريرا، أما المبني الثاني وهو غرفتين تقريبا فهو مخصص للأساتذة والمساعدين، ويبقي المبني الثالث مطبخا للمعسكر، ويوجد أيضا مسافة قريبة جدا للمعسكر مبني خاص للبنات وما دام كنا ذكورا ولم يكن معنا بنات بسبب قوانين جامعتنا التي تحظر على الجنس الناعم الانخراط في مثل هذه المتاعب بخلاف الجامعات السودانية الأخرى التي تدرس حواء جنبا إلى جنب مع آدم في الجيولوجيا وفي جميع التخصصات المتعبة، لذا لم نستخدم ولم نفتح هذا المبني البعيد عنا معنويا.

ذكريات على ضفاف النيل


تمر بنا الأيام والليالي دون أن نشعر، وتقربنا السنون إلى أجلنا المحتوم ويومنا الموعود، وتحمل لنا الأعوام والساعات أخبارا سارة وأخرى ضارة ،كما يحمل العام في طياته الأتراح والأفراح والبشائر والأنذار المبكرة للأشياء الجميلة في حياتنا.

أنظرُ إلى السنوات الخمسة التي عشت في السودان فأتذكر لحظات الغربة القاتلة، كما أتذكر لحظاتها الجميلة وساعاتها القاتمة، سواء كنت في المقاعد الدراسية، أو في الحدائق العامة وعلى ضفاف النيل والمكتبات التي تعج بأصناف العلوم والمعرفة، فأتعجب كيف مرت الأعوام هكذا سريعة وكلمح البصر!، وفي خضم تيهي على وادي الإستفهامات أتساءل: هل هرولت بنا السنون؟ أم أسرعت ومرت كالبرق وكالموجات السريعة؟ أم أننا لا نحس مرور الأيام والليالي (بانغماسنا) في ملذات الدنيا وشهواتها وجمالها الفاني؟

خمسة سنوات عشتها على أكتاف الجمال ومدينة الخرطوم، وتحملت مشقات كثيرة بسبب العلم وتحصيل المعرفة، ورقصت على أهداب الزمان بخيلاء وشموخ، وعزفت العود وبنغمات رقيقة على كورنش النيل وواحات التسوق المتناثرة على شاطئه وفي أعتاب المنافي المتعبة بالأغاني المشحونة بالوجع والألم، كما أحببت الحدائق الخضراء المنسقة بالزهور عند ملتقى النيلين في المقرن الثملة بسكرة الإيحاءت الرومانسية الصادحة من أعماق الأجساد وفي صميم الأبدان، واجتاحتني وأنا متلفع برداء الغربة لطمة حياتية موجعة في دروب الحب الطويلة.

في غربتي الأنيقة قطفت ثمارا يانعة من بساتين الذاكرة، وتعللت آمالا أيقونية ساطعة، وسامرت أطياف الجمال، وتنعمت في حضن الخرطوم الدافئ أحيانا واللافح أحيانا أخرى في عز الغربة والشوق وفي منتصف الصيف الخرطومي الساخن، وكانت الدراسة مجرد أنسي الذي يقطع لوعة الغربة في الليالي الباردة، وعندما يجتاحني لهيب الشوق كنت أردد في غربتي بإستمرار أغنيات كلاسيكية مختارة، ذات أوتار خماسية أمثال:
Tacliintaan usoo dhoofayeen uga imid dhulkaygii
Dhayal iguma aha oo waan dhowrayaayeey
"التعليم الذي سافرت وتركت وطني من أجله ليس هيّناً عليّ وسأحافظ عليه وأعتني به دوما".

خمسة سنوات كانت الكتب رفيقي في الحل والترحال والأقلام أصدقائي في كل حين، وكانت ملتحفة بتناقضات الحياة والمسالك التي يطول فيها العبور، أخبار مظلمة، وأجواء صحراوية جرداء وطقوس رطبة شتائية، وتدافع الأفكار وتنمية العقل والإدراك، وتنقلات عجيبة من نيروبي لندن أفريقيا إلى عطبرا بلد الحديد والنار، ومن جِكْجِكَا عاصمة الثقافة الصومالية الأصيلة والرقصات الشعبية الموغلة في الوجدان الصومالي إلي بحردار وموضع الجمال في العمق الأمهري وأعالي هضاب الحبشة.

عشت في الغربة والأحشاء تحترق! وعكفت فوق ربى الترقب أطالع صفحات وطني وحب شعبي المليئ بين قصبات الضلوع كأنه مرسوم على لوحة فنية تربطني بأفراد شعبي وتاريخ بلدي، فتزيدني شوقا ولذة خاصة تسكن بين العيون والرموش.

2009،2010،2011،2012،2013 خمسة أعوام مشحونة بالشوق والضنى، ومفعمة بالألم والشجن، خمسة سنوات متناقضةإبتسمتكغرة الربيع وبكت كالثكالى، ولم تكن سوى سنوات غائمة وأرقاما سديمية تائهة المعالمإضافة إلى وميض القلم وليالي المذاكرة على وقع أصوات البعوض وعصافير البطن، وأياما تئن وتتوجع ولا تؤنس وحشة الفراق وقيوده التي لا تلين، كما كانت سنوات لا تخلو عن ساعات أحسست بفرحة الفرج بعد الضيق وأياما متألقات تشع عنها الدفء والنور، ولحظات تتآلف القلوب وتندمج النفوس فيها.

هنا الزمن يمشي سريعا وكأنه يلاحق موعدا، ويمتزج التاريخ بالجغرافيا وجمال النيل الذي أصبح نهرا يرتبط في السودان بموروثات الهوية والحضارة والوجدان، في السنة الأولى من سنوات الغربة والضياع كنت كورقة متعاكسة تدور حول نفسها! كنت أناجي أشجار التمر الباسقات التي يتدلى منها الرطب كضفائر الغواني في عطبرة مع رفقة أجلاء وأصدقاء أوفياء عاشوا في "دار جعل" برفقة الكرم والشهامة، ولم تكن السودان حينها في نظرة مراهق أبعدته الحروب والصراعات العبثية عن وطنه سوى بلد غريب عنوانه النيل، وشعاره التحدي، ولسانه دارجي، وتكاليفه باهظة وصعبة.

وقُطر كثير القوانين واللوائح يصعب لمراهق مثلي جاء من أقصى الشرق للقارة يحمل تمردا على كل القوانين في جيناته وقلبا ناصعا لم تغتلْه أيادي الحقد، وتعويذة جدتي، وبقايا سبحة ويقين أستعين بها في نوائب الدهر، وحبا جارفا للعلم والمعرفة أجبره ليحط به الرحال في وسط الصحراء وفي تلك السنة وفي جناب البرلوم كنت أتذكر ملاعب الطفولة ومدارج الصبا ورمال الشواطئ الذي يشكل النبض الأكبر في بلادي.

أما العام الثاني الذي حملني طيف الغربة إلى عمق السودان والعاصمة المثلثة فقد كان عاما مترعا بالبهجة والجمال رغم الغربة! تعودت أكل الفول محبوب الجماهير وصديق البسطاء وزميل الكادحين وحديث السمار، وأصبحت ماهرا في تحضير الفتة والطعمية والجبنة والشاي وبطريقة أهلي في أقصي الجنوب من الوطن، وكونت علاقة رومانسية غريبة أرسلتني من سكون الغربة إلى دفء العشق وتربة الوطن.
إرتبطت بإنسانة لطيفة وفتاة لامعة في أوساط الطلبة الصوماليين في تلك الفترة، أنسها كان يهوّن علي كثيرا من السآمة والملل ورهبة الغربة، أحسسنا كثيرا  تدفق التعلق في أوصالنا على وقع موسيقى الجاز والألعاب التقليدية السودانية التي تصدح في حناجر السمراوات داخل  السينما والقنوات الثقافية والمسارح  المطلة على النيل العظيم، وضحكنا كثيرا من أجل الأمسيات المبللة بالحب والصباحات المتألقات في الحرم الجامعي وفوق الكراسي الدراسية، وبكينا كثيرا من أجل أحبة رحلوا عن دنيانا الفانية إلى دار البقاء، وآخرين قلبت لهم الدنيا ظهر المجن وشربوا كؤوس الحور بعد الكور أصنافا!.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...