الخميس، 7 يوليو 2016

الأدب الإفريقي


في ليلة غاب عنها القمر ومليئة بأغان مشحونة من السهر والبحث عن رموز قارتنا الجميلة حط بي الرحال إلى مجاهيل الحياة وأعماق إفريقيا السمراء، وهرول بي قطار السر إلى عالم جميل حيث الأحلام كبيرة والأماني عالية وشدو الألحان ذات الإيحاءات الثقافية تصدح من بعيد لتثير في نفسي مشاعر جامحة نحو الكتابة ولتبعد السبات عن مقلتي المجهدتين طيلة ساعات الليل وصدر الصباح الأول.

حاولت التحرر من كبت السهر إلى طريق الأحلام والتنزه على عقول البشر والتنقل إلى سحيق الأسفار وعمق الكتب وجعلت معانقة الورود وقراءة الأفكار المستنيرة عبر بطون الكتب عنوانا لسهرتي، تارة أرتدي الصقيع في عواصم الضباب ومرة تزكمني الروائح الكريهة مع عشوائيات المدن وتارة ألبس حلل الحرارة وحبات العرق مع سكون الليل وهدوئه السرمدي، وعشت تلك الليلة معنى الحياة بكل أطيافها وظلالها وأنغامها الخالدة.

ما أجمل رحلة المنافي السرمدية مع عقول العباقرة والترحال عبر الأثير أو التنقل في أرجاء الكون عبر حفيف الأوراق وصرير القلم وخاصة مع رفقة الرواد وأيقونة الحياة في العالم، ومن استحق أن نكتب أسماءهم بماء الذهب بل بماء العيون الذين وهبوا للبشرية عصارة أفكارهم وخلاصة تجاربهم.

وبما أن السهر قال كلمته والساعات الجميلة لا تتكرر وصفو الحياة نادرا ما يتراقص أمامنا اخترت أن لا أصاحب هذه الليلة غير النجيب اللبيب ومن طبع على كل جبين سطور الفخر وخاصة في قارتنا السمراء الغنية بالقامات الأدبية والعلمية التي كرست جهدها لكي تكون القارة من أكثر القارات علما وأغزرها معرفة وأجملها عقولا.

اتجهت نحو ضوء خافت قرب مكتبتي وبدأت البحث عن الكتب والأسفار المميزة التي يمكن أن تعوضني نومي الضائع هذه الليلة فاخترت أن أبدأ رحلة جميلة تنقش الذكريات على شغاف القلب مع عميد الأدب الإفريقي حزقيال مقاليلي ذلك المناضل الكبير والكاتب القدير الذي سخر قلمه للمساهمة في تحرير شعبه وكرس جهده لتوعية الناس ودعوتهم إلى التمسك بعاداتهم الإفريقية الأصيلة وتحرير وطنهم المحتل وتقوية النسيج الاجتماعي لشعبه الجنوب الإفريقي كي لا يضيع تحت وطأة المحتل ووقع الجوع الذي يلتهم الأجساد ويفرك البطون ويحصد الأرواح، ونال بنضاله وسعيه الدؤب إلى التحرير الفكري والعلمي لمجتمعه بضيق شديد ومطاردة من المستعمر ونال أيضا أن يكون رمزا وطنيا للشعب وشخصية عظيمة قاومت المحتل العنصري البغيض.

لم يكن المناضل قابعا على سجون الروايات الضيقة بل ألف كتبا وروايات تشحع المسار الذي انتهجته ثورة الشعب، وأعماله التي تزخر بالإبداع والتشويق للأدب الإفريقي وعاداتهم لا تحتاج إلى تقديم ولكن المهم هو أن تعلم أنه كان يركز دائما على المواضيع المهمة التي أولاها تصادم الحضارتين الإفريقية الأصيلة والغربية الدخيلة التي يفرضها المحتل مع وسائلها البراقة التي تعتمد دغدغ الشاعر تارة والتخويف والتهديد تارات أخري، وليس الحزقيال وحده من عالج هذا الموضوع الحري أن يسكب المداد حوله بل الصراع الدائم بين الحضارتين والقصص ذات طابع الكآبة والحزن كان الأكثر شيوعا في الأدب الإفريقي عبر تاريخه الطويل وشكّل زاوية مهمة من زوايا الأدب الإفريقي في مختلف عصوره.

لم يكن الأدب الإفريقي المبدع قاصرا علي هذين الموضوعين رغم أهميتهما وكونهما العمود الفقري في الأدب الإفريقي، وليس كل الأدباء سلكوا نفس الطريقة بل قد تختلف المواضيع وتتباين الأفكار ويتمرد البعض عن الجغرافيا والقوانين القبلية المحكمة في القارة والحنين الإفريقي المسكون مع سحيق الشخصية الإفريقية، ليأخذك إلى قلب العالم والعواصم الإفرنجية، وتدرك طريقة تناوله وتقديمه لبلاد الصقيع والضباب مدى عشقه السرمدي لثقافتهم وولعه الشديد بتقاليدهم مع حفظه تراث قومه وعادات قارته، مما كون تمازجا غريبا وتناغما رائعا يجعل الحضارتين يتفقان مع شخصيته وينفصمان مع الواقع والتاريخ وحتي المستقبل.

كان الكاتب الإفريقي في معظم أحواله قنديلا في حنادس الظلام يحارب الاتكالية والانهزامية أمام الأعداء ويحارب بقلمه وفكره ترسبات الاستعمار وكان نبراسا للأمل يشع منه نور اليقين والإيمان الراسخ حتى لا يدب اليأس في القلوب، ولم يكن الكاتب الإفريقي يقتصر ويلازم ردهات التآليف والكتابة بل كان يشارك المواجهات والنضال المسلح وتصميم الثورات وتخطيط الكفاح ضد المستعمر ويكشف صفحات المحتل الكالحة فها هو تشينو أتشيبي يهاجم في روايته الأولي (الأشياء تتداعي) التي صدرت عام 1958م الاستعمار البريطاني لنيجيريا ويوضح الأساليب السلبية والفاسدة التي اتبعها المحتل لإدارة افريقيا إبان وجوده وخلْق أذناب له ذوي عقلية استعمارية وبَشرة إفريقية عند خروجه، مما جعل تشينو أتشيبي قامة إفريقية ورمزا وطنيا ومناضلا في نظر الشعب ومجرما يبث السم والحقد في عين الفاسدين وفي نظر المحتل! ولم تكن مواقفه الشجاعة وحدها ما جعلته محبوب الجماهير بل كان غزير العلم واسع المعرفة يتمتع بقريحة لا تلين وجودة في التأليف حيث ترجمت بعض أعماله إلى خمسين لغة وبيع منها ما يزيد علي عشرة ملايين نسخة.


والقصص الإفريقية ذات المصادر الوطنية والتي تبرز محاسن القارة وتنوعها التاريخي والحضاري والأنثربولوجي والتي تشير أيضا إلى ما يدور في المجتمعات من أعمال غير لائقة تجعل الإنسان يتفاعل وينسجم معها أيما انسجام، لذا لا يوجد أروع من أن تكون مع حديث ودّي مع من يستطيع أن يرسم ابتسامة فوق وجهك المستدير، ولا أدري من ترتاح النفس عنده ويستأنس القلب بأدبه وشخصيته الرائعة أكثر من سنجور ملك القافية والسياسة معا، والذي يعتبر من الواجهات الأدبية المرموقة في أفريقيا.

ولقد أمضيت وقتا ممتعا بقراءة أفكاره وآرائه الجريئة وحبه الشديد للإفريقانية وتفاخره بالزنجية التي كان يري عليها إرثا حضاريا لا يمكن أن يفرط فيه، وحقا هو أديب لا يكل منه الصديق ولا يمل عنه الأنيس، وبالطبع هو واحد من أبرز الشخصيات في أفريقيا تربع علي عرش القوافي في السنغال كما أصبح رئيسا لها ومزج الأدب بالدبلوماسية ودخلت الإفريقانية في مكنونات جسده وكان يقول: “علينا أن نستوعب الثقافة الغربية دون أن تستوعبنا، ويجب أن نحرص على ألا نذوب في الغرب، ولابد من الرجوع إلى تراثنا الإفريقي، وحضارتنا الإفريقية الأصيلة” وقال إن "الأفريقانية هي مزيج من الزنوجة والعروبة، وإن تعاطف الشعوب الإفريقية مع العرب يعود إلي ما قبل التاريخ وإن الأفارقة لا يرون العربي غريباً عنهم”.

حقا يعتبر منهج سنجور وتحليله للقضايا الإفريقية فكرا مستنيرا ومتقدما، لذا أحببت أن أتجول معه في أفريقيا التي اعتَبرها حضارة وفن وقيم وتاريخ يجب الحفاظ عليها، وبدأتُ رحلتي الوجدانية الشائقة من شرق القارة وتخوم المحيط الهندي إلى غربها الموغل في مشارف المحيط الأطلسي مرورا ببلدان إفريقية عديدة ومنطقة البحيرات إلى شمال أفريقيا وصولا إلى السنغال وقد تجولت معه جميع مناطق السنغال بدءا من دكار درة المحي الأطلنطي إلي سانت لويس في أقصي الشمال السنغالي وتعرفت على عرقياتها العديدة وعاداتها العجيبة وعرفت أيضا أن السنغال متعددة اللغات، وأكثر اللغات شيوعاً هي اللغة الولفية والفرنسية هي اللغة الرسمية، ورغم ذلك فهي لغة يتكلم بها الأقلية ومن عرقيات البلاد الولف وتوكولور وسيرير وجولا والمندينكا ولغاتهم شديدة التعقيد كطباع السنغال وسمرتهم الشديدة.

ولم يكن السنجور وحده من حاز باهتمامي فقد تعلقت منذ صغري مع أدبيات وروايات الكاتب الكبير وأيقونة الأدب الإفريقي نور الدين فارح وكنت أعجب كيف ساق الكلمات وحرر السطور من روايته الأولي (من ضلع معوج) التي تعالج قضية إنسانية تحرك الضمير ولم تنته آثارها حتى اليوم فقد تناول في تلك الرواية قصة فتاة في غاية الجمال ترعرعت ْونشأتْ في بيت والدها كما تنمو الأغصان في وسط الغدير ولكن أفراحها لم تكتمل حيث أهلها رتبوا لها زيجة برجل أكبر منها ربما بنصف عمرها أو أكثر! لظنهم أن الزيجة صفقة تجارية وأن الفتاة أغلى السلع وأهمها وهنا تبدأ المعاناة حينما تحاول الفتاة الهرب من جحيم الزواج لفيحاء الحرية بعيدا عن الزوج المرتقب الذي يقض مضاجعها وينذر بخطر داهم ومشاكل صعبة في حياتها.


لقد نبغ نور الدين من بيئة صومالية ليس لها تاريخ كبير في التأليف والكتابة، وسطع نجمه من خضم المعاناة وتحت الركام الصومالي فبدأ تأليف الكتب وسهلت لغته العالمية أن ينال جوائز عالمية أهمها جائزة نيوستاد الأدبية وهي جائزة عالمية ومرموقة تمنح كل سنتين وتعد ثاني أهم جائزة بعد نوبل، ولقد عارض نور الدين فارح النظام العسكري في الصومال مما جعله هاربا من قبضة الحكومة الصومالية العسكرية آنذاك، وعاش خارج الوطن أكثر من عقدين من الزمن، ويعتبر روايته عن الحروب الدموية بين الصومال وإثيوبيا درّة أعماله ومن هيأتْ له النجومية ليكون روائيا عالميا يشا إليه بالبنان، يدافع عن حقوق الشعوب الإفريقية ويعارض الأساليب الهمجية والإفراط في نشوة القوة أو تقديس الذات، ورغم حبي الشديد لمؤلفات الكاتب وأعماله المتميزة لم يتسن لي أن أتعرف عليه عن كثب بل أعماله المنتشرة عبر العالم جعلتني أتوق للقياه وأسعى إلى مرافقته لا عبر قطار الحروف وحفيف الأوراق فحسب بل من أمنياتي المشروعة أن أقابله وجها لوجه لأعيش لحظات من نوع آخر مع شخصية فذة رفعت اسم الصومال عاليا في المحافل القارية والدولية.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...