الأربعاء، 20 يوليو 2016

على مشارف مدينة إفريقية


في وسط الرذاذ ونبضات سحر المطر وفي عز نهر الأحلام الذي دآئما ينتهي بشرفات الحياة والمشاعر التي ترسم على وجوهنا إبتسامة عابرة أو رعشة غامضة أو قهقهة طائشة، كنت أراقب القمر عبر نافذتي المطلة على الأحياء الشعبية لأنظف مدينة في إفريقيا في حين مازال المطر ينهمر وعيون السماء تبكي بغزارة نادرة وبرودة العتمة تدق العظام  وتمنحنا صقيعا جعل كيغالي تضاهي هذه الأيام عواصم الضباب ومدن الثلوج. وقفت قرب نافذتي الزجاجية التي تتراقص إحتفاء بقطرات المطر وألحان الربيع أطالع سحب الشوق المتدفقة من الغمائم وصفحات الذكرى الناصعة كبقايا بلورة الغيم.
زوابع البرودة زرعت وخزها في كل عظم ولحم وشحم من جسمي، وهزّت متعة الإثارة ركود الليل، وسكون الأجواء حركت المشاعر باسلوب ناعم متأنق قد يرتقي بعض المرات إلى صاخب حسب المزاج والأهواء، وفي قمة البرودة والسرحان أزم شفة السكون وأرقص على أهداب الزمن بخيلاء  ويمنحني الليل لذة جمالية خاصة تبعث الإحساس من مرقده، وتجتاحني مسحة تدق وتر القلوب وتجعلني في هدوء العتمة  أحنّ إلى الليالي المعبأة بالأفراح والحبور الطاغي على تعابير الجبين كقناديل البحر.
هنا الصباح مطرز بالحب وإبتسامات العذرى ودفء الوصال وشحوب الإنسان في إفريقيا، والأسواق مترعة بمطر الإحساس والأمنيات الأرجوانية للشعوب المقهورة التي خرجت من الحروب والتنكيل والمشانق إلى الحرية والعدالة ومحاربة الفقر والجهوية والمحسوبية. في هذه الأجواء المفعمة بلذة الطبيعة والرومانسية وألم المنافي والإرادة الحقيقية من الخروج الواعي للوضع المزري تقودني النوستالجيا إلى خلجات نفوسنا الغاربة نحو مرافئ الشوق مما يجبر عليّ أن أتقلب فوق السرير كالملدوغ وأسافر عبر خطوط القلوب الوهمية إلى سحيق الزمن وأهبط علي مدارج المدن القابعة في عمق ظلمات الحروب العبثية والقلوب الجرداء المصابة بالجفاف العاطفي والجراحات المفتوحة التي صارت صديدا بطول المدة وعمق الجرح.!
***
المدينة تشبه سمراء رشيقة في جو إفريقي غائم ورغم ذالك لم أسامر مع أطياف الجمال ولم أستمتع همسات الزهور وإبتسامات الأحبة ولم انثر عطور الإلفة والتواصل في ليلتي، بل كنت سارحا بين هذيان الغربة وهرطقات الكتابة والسقوط بسذاجة في حب السهر، ,كنت أتحاشى عن ضوء الصباح وضجة المدينة وكنت أود أن أرمي نفسي إلى أحضان السرير قبل أن يؤلمني صوت الشروق  وتصدمني زقزقة الطيور التي تغدوا على وقع الأشجان والتوكل إلى جهات الأرض بحثا للأرزاق!.
وحين يقول الصباح كلمته التي لا ترحم لولهان مثلي يطبق  الكون هلامه علي ذاكرتي وأبتلع كل أحلامي وآمالي المتعلقة بلذة النوم، وعلى وقع التذمر أصحوا علي عجل وأنظر الأشياء بعينين مغمضتين أجهدهما السهر وأضناهما الأرق وأناجي تباشير الضياء وأتودد النجوم المتدثرة بالصفاء وسواد الغيوم المتراكمة على هامات الأحياء الغارقة في الهضاب والأشجار.
***
الساعة البيولوجية للغربة لا تنسجم أبدا مع ما تعودناه في ديارنا وساعاتنا البيولوجية الموقوتة في وسط الديار وفي تخوم المرابع المزدانة بعبق البوادي والدقة، فساعة الوطن منسجمة مع الطبيعة وصديقة لراحة الإنسان، أما ساعة المنافي فتعاني من الإضطراب وعدم تنظيم إيقاع دورانها ودقة عقاربها التي تدور إلى العكس أحيانا!، مما يغير الحياة ويبلد المزاج ويجعل الليل والنهار مختلطان ولا ينفكان أبدا كساقي حبيبان في عز النشوة أو أغصان أشجار في لحظة الوفاء.
يرتفع طرديا معدلات الشوق كلما أتوغل أرخبيل الذكريات والمدن المحاذية لصخب الطبيعة وصوت السمراوات الضامرات وحركاتهن الرقيقة، وكلما أرسلت مرسال الشوق إلى المشرق الإفريقي الحاضن للتراث والأهازيج والقوافي والأفئدة أوأصبحت ضيفا ـ ولو بالخيال ـ على حفل  في أقصى غرب وطني التاريخي وبوقع الطبول وصيحات النسوان وزغردتهن أعود إلى واقعي حيث صقيع البرودة وشجو الغربة وملامح تشبهني رغم إختلاف الأديان والألسنة والأفكار فأغني فوق تلال المدن الإفريقية الحالمة وأعزف على العود بصوت خافت ومشاعر مكبوتة خلف جدران صادئة، ومزاج متبلد قابع وراء الجبال وفي وسط البحيرات الإفريقية أو قل إن شئت بداية النيل.

وليست الذكريات وحدها ما تجعلني أتجافي عن الرقاد وأقضم النوم كسندويتشه بائسة علي يد كادح أو في أضراس جائع، بل حنين الذكريات لا يبرح في أعماق قلوبنا، وأحزان الفؤاد ترافقنا في رحلتنا إلى  أدغال العالم ومدنها المطلة على المنافي فيحول الحياة إلى جحيم يجبر علي الخاطر أن ينكسر وعلي الإرادة أن تستسلم وتهون رغم التجلد والمقاومة.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...