الأربعاء، 6 يوليو 2016

بين حياتين

تحت قبة الليل كنت أراقب أفول القمر عبر نافذتي الغارقة في البرودة والعتمة، في حين مازال المطر ينهمر وعيون السماء تبكي بغزارة وشجن الذكريات توهب لنا رعشات ليلية رهيبة في أطول ليل أبى أن يتصالح مع الذات بسبب الثنائيات الوجودية في الكون وحياتنا التي تخضع لتصادمات حضارية وثقافية ورحلات فكرية وجسدية تجعلنا نضيع في الخط الفاصل بين متاهات تلك الثنائيات المحكمة في حياتنا، وفي خضم رحلة البحث عن الذات أو تحقيق الأحلام ترحل الأعمار سريعا كلمح البصر وتبقى الذكريات ملاذنا الذي يمنحنا خيالا جامحا نحو الأصالة والتحرر من القيود الفكرية والحياتية والثقافية.
في هذا الليل البهيم ليست الذكريات وحدها ما تجعلني أعتصر الألم وأتجافي عن الرقاد، بل ركبت موجة الحنين إلى مرابع الوطن وعندما اقتربت إلى مسارح الصبا كان زبد الوديان في زمن الفيضانات وصوت الضبع في هدأت السحر، وورقة البردى المتساقطة بفعل الرياح، وصوت المؤذن المميز لمسجدنا العتيق وصخب الشاحنات القادمات من بعيد وصوت الرصاص في أزقة المدينة وأعين القطط اللامعات في الظلام يجبرني أن أهرول إلى الحس الشاعري والسهاد ولم أتمالك عن قلمي ليبكي بكاء غيّر التفكير والأمزجة وجعل ليلي مشحونا بالنوستالجيا.
لم أجرب عاصفة هوجاء من الشوق كالتي ضربت تلك الليلة أكباد عمري ورجعتْ شريطي إلى الثلث الأخير من العقد الثامن من القرن المنصرم وبداية الهزيع  لأول من العقد التاسع لأقف أمام مبارك الإبل ومراح البقر قرب جداول الماء وعند الجبال المتناثرة في الغرب الجغرافي للوطن، والغريب أني غالبا ما كنت أحفظ مزاجي العالي أمام التيارات الجارفة التي يصعب التكهن بمسارها، ولم تكن تؤثر عليّ العواطف مهما كانت قوية ولكن أعترف أن الأخيرة كانت أعنف موجة من الشوق وأصدق شعور تجاه الوطن، ولا أدري من أين جاءت لي موجات الشوق وذبذبات الحنين في عز تبلدي الذهني وفي خضم نسياني العجيب لحياتي هناك قرب أريج الزهور وعبق الورود، وبعد النسيان التام لأسماء إبلنا الذي كان يفوق مائة إلا قليلا، والذي كنت في صغري أعرف آثار أقدامه وصوته ناهيك عن جسمه وعلاماته المميزة، ولا أعرف كم مرة تذكرت بناقة شقيقي الشقحاء التي لم تكن أجمل منها في إبلنا حينما كنا نتفرج على السحب العابرة فوق هاماتنا، ولا أدري كم أذرفتُ الدموع وغنيت وأنا مترف بالحزن منذ أن انفصلنا حياة البداوة بالتراضي عندما يئس كل واحد منا على إقناع الآخر وفشلنا التكيف معا.
في صغري كان بريق عيني يخبر بنمط مختلف وكان في ذاكرتي الصغيرة شريط لونه غير لون الريف، وكنت نشطا كخلية النحل مما جعل الأهل والأصحاب ينظرون إلى بعين خاصة، وبحيويتي وحصافتي كان الجيران يقولون للوالد رحمه الله: أنني لست من طينة أهل القرية وحياتها لا تليق ممن أظهر النجابة في بواكير عمره، بل كانو يتمنون بقلوبهم النقية وعقولهم السليمة أن أكون خليفة القادم لأبي الذي اتسم بالعلم والحكمة وبعد النظر والحلم والعدالة عندما يفصل بين الخصوم بحكمته.
لا أتذكر كثيرا أطلالنا ومرابعنا النائية؛ لأن الدهر أكل على ملامحها وشرب على تفاصيلها، ولكن ما أعرفه هو أنه في موسم المطر وفصل الزراعة وحين تدر المواشي باللبن ويكثر الغزل والرقصات الشعبية على وقع الأصوات المبحوحة لكثرة الطرب ولذة الوصال، وحين تعم الزغاريد كانت العرائس تزف في موكب احتفالي مهيب تزينه الأهازيج ودعوات المسنين، وكانت مناسبة تاريخية يمارس الكبير والصغير طقوس العرس وأدبياته في تاريخنا، كما أنها كانت فرصة سانحة لإلتقاء الأحبة وتبادل الآراء مع رفقاء الحي وأتراب الحارة.
في ذلك الزمن لم تكن عودي قوية، بل كنت غضا طريا في مقتبل العمر، ولم أكن ممن تحركه الأهازيج وتثير هواجس العشق والغرام في نفسه، ولكن كانت بالتأكيد تلصق في وجداني علاقة حميمية وتطبع على قلبي جماليا داخليا. ولعل من الأسباب الريئسة التي جعلتني أحب الشعر وأدمن على سماع اللعبة الشعبية الأولى في القطر الصومالي "طانتو" هي ترسبات تلك الحقبة البعيدة في حياتي، وأن تعلقي الواضح بموضة الأصالة وضعفي أمام تياراته وتذكري الدائم للأطلال والضحكات الصافية للأطفال كان شغفي على هذه الحياة وأنماطها وبساطتها الموغلة في الثقافة والتراث.
محبتي لتلك الأيام لاتزول وشغفي بها فاق كل التصورات، ورغم أني إنهزمت أمام زحف المدينة ورحلت من مسقط رأسي إلي هدير الآلة وأنا طفل في مهد الصبا، إلا أني "أغالب الشوق والشوق أغلب"، وما زلت أفتقد وأنا في نهاية عقدي الثالث الجداول التي كنت العب بها وأضحك فيها مع الزملائي وأترابي في الحي ونحن منسجمون مع جمال الطبيعة نتلذذ بخرير مياهها ونطارد عصافيرها ونرمي الحجارة على سحليتها.
ومازالت بيوتنا المتواضعة المصنوعة من العيدان العجفاء والطين ترسم لوحة الفراق في مخيلتي، وصوت الشيخ وهو يرتل القرآن ويقرأ الأوراد الصباحية في الفجر ويدعوا الله أن يحفظنا من مآسي الدنيا وملاقاة من يحملون على أكتافهم مشاريع الكراهية تهز طبلة أذني، ولا زالت تراودني الأسى عندما أتذكر صوت القصيد وغيمة الأحلام، وكيف ودعت منبع الرجولة وموئل العز ومركز الفخر، حيث تتجدد الأصالة لتروي الأجيال جيلا بعد جيل.
دخلت المدينة وعشت في خنادق الحروب الخاسرة وأصبحت ضيفا على التشريد والتبعثر الجغرافي، وبعد سنين أصبحت مراهقا صعب المراس لا يخاف من المستقبل ولا يعرف المستحيل في دنيا البسيطة، شعاره في الحياة "إما مغامرة جريئة أو لا شي"، و يطوف البلدان متخفيا في جناح الليل أو في شبح الخوف. وكنت شابا يعشق الحرية وتعجبه الرجولة والفضاء الرحب كما عاش أجدادي الأوئل قبل أن يقسم الإستعمار الوطن التاريخي لشعبي ومنح أرضي كهدية لدول الجوار النصراني بسبب دينهم أولا ومحاربتهم ضد الحركات الجهادية في القرن الإفريقي وفي مقدمتهم ثورة القائد الكبير أحمد بين ابراهيم القرين وثورة الدراوييش بقيادة السيد محمد عبدالله حسن تلك الثورة التي هزت عرش الصليبيين في شرق إفريقيا وجعلتهم أضحوكة العالم وتحت رحمة المجاهدين مما أجبر على المماليك النصرانية أن يستنجدوا الإمبراطوريات النصرانية وخاصة البرتقال.
وتسللت عبر الحدود مع القادمين من بعيد وبدون من يغطيني من البرد والجوع والخوف، ودخلت الزنزانات الإنفرادية والمحاكمات الهزلية ونمت على الرصيف، واجتاحني الخوف وأنا على تخوم المدن التي أقصدها لعدم امتلاكي الأوراق الثبوتية وجوازا معترفا يسمح لي التنقل بطيب خاطر ودون أن أرتدي لباس الذل ألوانا.
وعندما كبرت كان الوطن يلتهب والأمة ممزقة والكرامة مهدرة، ولم يكن الوطن فناء يجمعنا وأما رؤوما حينما عرفت معني الوطن، بل قُدر لجيلي التعيس أن يعيش بلا هوية وبلا تاريخ وبلا كرامة ولادولة تعيننا على مواجهة السلبيات وتصدنا عن مآىسي الحضارات والقيم الوافدة، ولم يكن ثمة حكومة تغرز قلوب المواطنين حب الوطن وعشق التربة والحفاظ على بقايا سراب من آمال الطفولة التي تومض في مخيلة الأطفال.
وأصبحت المني والأماني أحلاما لا تتحقق وجسرا يربط بين جيلين، جيل عاصر البداوة وأحبها وجيل أدرك الإنفصام التام عن البداوة وعاش في سراديب المدينة، وصار الجميع يجنح نحو المدن ورفاهيتها رغم وجود أخطار محدقة لم نكن نعرف في مرابعنا الأصلية.
وفي نزيف سنوات عمري المتلاحقة شارفت التربع على ربيع الشباب ومازلت أتمسك وأضع على حدقات عيوني رمزي المعبر لآمال الطفولة التي كادت أن تتلاشي مع تفرق جميع الإخوة تحت ضغوطات الحياة وتقدم العمر، وعندما أنظر من كان السعادة تسكن في روحهم الحبيبة وفي دفء وجودهم تبدو الحياة وكأنها ضرب من المآسي، ولكن عندما أتأمل إنسياب الحياة وسلاستها رغم كل المعوقات والمنغصات يرتفع ترمومتر الأمل في قلبي وترتفع معه معدلات السعادة والإنتظار ليوم طال إنتظاره.
رمانة الحياة هي الإلفة والإجتماع والعيش مع الأحبة، أما وفي قصة حياتي التي كانت ومازالت سيمفونية صراع فلها معنى آخر،كنا أربعة إخوة ودائما ما أحب أن نشبه بالجنرالات العظام بكامل زيهم العسكري، وكنت عنيدا كأن نياشين العسكر مرصعة فوق مناكب قميصي المصنوع من الكاكي الرمادي الملفوف على جسمي النحيل، وكنا كأعمدة البيت أو أركان الصرح لا يستغني واحد منا عن الآخر، بل كنا كفرسان رهان يتصارعون في حلبة مكشوفة أو ميادين مغبرة، نتسابق ونمارس الحياة بأبهى صورها في مرابعنا وفي ديارنا الأولى.
وفي المدينة كنا نلهوا ونلعب الكرة ونشكل نصف فريق، وننظم هجمة مرتدة سريعة لخفة حركتنا ورشاقة أجسامنا الصغار التي لم تحمل اللحم بعد، وغالبا ما نسجل الأهداف بأريحية محسودة وبعض المرات كانت تنتهي هجمتنا بلا تسجيل للأهداف ولا تمزيق عذرية الشباك!، لأن تعاملنا مع اللمسة الأخيرة كانت سئية للغاية بسبب الأنانية المفرطة لهجومنا وعدم دقة التمرير والتحضير والتباطؤ الشديد لصانع لعبنا.
وبعد صراع ثنائي رهيب ومعركة حامية الوطيس بين جينات الأولى والأجسام الغريبة التي هاجمت سلوكي الجديد، تعلمت كثيرا بمدرسة المدينة وسلوكها، وأخفقت مرات بمجاراة سرعتها وتملق سكانها وتلوين حياتها وتغير أنماطها كسرعة البرق الذي كان يلوح في الأفق عند الصبا، وكانت حياتي فيها تشبه المباريات التي كنا نفوز ونخسر أو نرضي بالتعادل، ولا أنكر إستفادتي الكبيرة من المدينة وفرصها المتعددة، ولكن أقصد أن حياتي لم تكن تسير بسلاسة كما كنت في الماضي ولم يبهرني يوما بهرجة الحياة وزخرفة المدينة، بل عشت متمسكا بالحلم الجميل والعودة الحميدة إلى العش الأول وإلى الأدغال حيث موسيقى الأعشاب تعزف أجمل الألحان.
وبعد سنوات من الصراع وأعوام من الحرب الضروس بين الأصالة والحداثة وبين التقاليد الموروثة والتجديد المعاصر، وبعد مدّة عشت داخل الأوتار الحساسة للمدنية، إستطاعت المدينة أن تهزّ أوتار الحنين وأن تبث الإعجاب في أركان قلبي، ولكنها أخفقت أن تمسح ذاكرتي من الإرث الكبير لتراثنا وتاريخنا وأن تفرغ قلبي وجوه بنات الحي وحرائر القوم وطريقة لبسهن وجههنّ الصبوحي الذي تنمقت يد الجمال عليه.
عشت المدينة بكل عنفوانها وجربت عن كثب كافة أنماط حياتها، وتأثرت بمجريات أحداثها، ولم أعشق يوما بتغنج جميلاتها وأضوائها المبهرة، ولم يغويني إنفتاحها وموضتها المتعددة، بل عشت كما جئت محافظا للقيم مراعيا للتراث، متمسكا بخيط الأمل ونية العودة، وكبرت ولم تكبر معي الآمال بل ظلت لا تبرح مكانها، حيث كانت أمنيتي أن أمتلك مأئة من الإبل وبندقية وجوادا أصيلا كان عنوان الرجولة والشهامة في الزمن الجميل، وتعلمت من المدينة الصبر والمثابرة لإكتساب لقمة العيش الكريمة ومغالبة محاولاتها المتعددة لأجهاض جميع آمالي الطفولية وأحلامي في الشباب، وإكبات نار الجوى إلى مرابع الصبا وملاعبه الجمال

ذهب الصبا ودار الزمن دورته وكبر الجميع ومعنا كبرت أحلامنا وكبرت أيضا حلومنا الصغار، وتفتق الذهن واكتسبنا المعرفة التي تلين كتلة العقل الصلبة ليكون ذات قابلية أكثر لتلقي المعلومات وإرسال الطلبات، وتغّيرتُ قليلا، وخضت تجارب عديدة وعشت عواصم نائية وتنقلت بين المدن والقرى، ورافقت صحبة أماجد من مختلف الدول من جنوب شرق اسيا إلى أوروبا ومن أدغال إفريقيا إلى أحراش أمريكا اللاتينية، وتعرفت عادات الأمم والشعوب عن كثب، وعشت مع أناس لم أكن أفكر أن اسمع يوما ناهيك عن المصاحبة أو العيش تحت سقف واحد، وتغير الزمان واصبح اكثر موحشا وأكثر كلفة، وبات من الصعب أن يعيش فيه من تصلب في مواقفه ولم يواكب أحداثه المتلاحقة، ومن تجمد في مكانه فقد ينزل سريعا من قطار الكون الجامح، فعزمت أن أدور 45 درجة إلى عكس عقارب الساعة كما الحجيج حول الكعبة، ورغم ذالك الأحداث الهائلة والصراع الفكري والثقافي الذي يدور بعض المرات في مسارح مخيلتي إلا انها لا يوجد في بالي غير جموع أمتي الوفية وأن عيش طبيعيا بين عبق الزهور وشذي الأشجار، اقبل جبين الوطن وأساهم تحريك عجلته، والهمس في اذن سمراوات الخدين نجلاء العينين اللآئي لم يتلوثن بنجاسات الفكر الوارد والموضي الوهمية الواردة من وراء البحار، بل مكثن بخجلهن الأصلي وأنوثتهن الصومالية العجيبة.
ومهما يبعدني النوي في غيه فمازلت أطالع وهن يرتشفن قهوة الصباح في الفناء الرحب والنسيم الصباحي يداعب خصلات شعرهن بهدؤ وبرقة متناهية فتنثر فوق جباههن المتوهجة كحمر المغيب جمالا يفوق الخيال، وربما يحجب ضفائرهن الطائشة السمع وهن على صلة رومانسية مع حبيب غائب ينتظرن قدومه على وقع أنغام وطنية مع الفنان الثائر تبيع او العاشق الولهان موجي أو العندليبية مجول أو إمبراطور الفن في الصومال حسن سمتر.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...