السبت، 23 يوليو 2016

دعني أحلق

دعني أحلق بين زرقة السماء وصفاء المحيط.

دعني أحتضن الجمال وأعيش بين النجوم.

دعني أحلق في كتف الفضاء وفي عمق الشهاب

دعني أسرد آهاتي وأعزف موسيقى الشجن.

دعني أحلق في موجات الضياء وأعانق القمر

دعني أهمس في أذن الدجى وأقتبس نور اللياح.

دعني أحلق كي أناجي الثريا فوق هامات الذرى.

دعني أحلق كي أنسى وخز الحب وألم الصبا.

دعني أحلق كي اعزف ترانيم العشق وألحان الهوى.

دعني أمارس مهنتي في كبد السماء.

دعني أروي قصتي في فلوات السحاب.

دعني أذكر لوعتي فمشاعري كالمطر.


دعني يا صديقي فالحرية عبق أعشقه منذ الأزل.

الأربعاء، 20 يوليو 2016

محمد سليمان تبيع .. ملك الصوت ومحبوب الجماهير

فقد التراث الفني والوطني والمسرح الموسيقي الصومالي عملاق الطرب وملك الصوت الشجي، ولوحة فنية لم تفقد وسامتها وبريقها المعهود حتي في أحلك الظروف وأصعب المناخات، صارع العملاق الأمراض في المستشفيات الألمانية وابتهلت الجموع ومحبوه لشفائه ولكن كانت إرادة الله أنفذ، ولم يمت في وسط أهله وفوق التراب التي شهدت تألق هذا القامة الفنية، ولم يفارق الحياة بين الشعب الذي ثمل ترجيع الحروف في متاهات أوتاره الكلاسيكية وصوته العندليبي الذي تغلغل في وجدانهم، ولكن عزايئ الوحيد أنه لقي بإكرام يليق به شعبيا ورسميا، وشيعه مئآت من الصوماليين يتقدمهم الوزير الأول للحكومة الصومالية.
ولد صاحب اللحن العبقري والصوت الطري عام 1943م في بادية مدينة هرجيسا الواقعة في الشمال الصومالي وترعرع في مدينة بربرة التاريخية التي اشتهرت بعدة اشياء منها القصة التراجيدية التي دارت بين أشهر العشاق في القطر الصومالي علمي بوطري ومعشوقته الأنيقة هدن، تعلقت الجماهير الصومالية لفنان الشعب من خلال صوته ولحنه وكلماته ذات الطابع الرومانسي فسموه ملك الصوت ومحبوب الجماهير، وأبرز الفنان غناء إنسانيا راقيا وسيمفونيات تجسد لأغاني حقبة جميلة من التراث الصومالي، ولم يستطع أحد أن يصل درجة نبض الغناء لمحمد سليمان تبيع بفضل عبقرية اللحن وطراوة الصوت وعذوبة الأغاني، ورحيلة المؤلم شكل نوعا من الألم والأسى رغم إيماننا التام للقضاء والقدر.
موسيقى تبيع وأغنيته الندية تباشر القلوب والمشاعر، وكل أغنية من أغانية الأوبرالية تصادف مناسبات ومشاعر وقلوب متعلقة بحب "الثروة الفنية" كما أطلقت عليه الصحافة السودانية في الثمانينات من القرن المنصرم، حينما أبدع وأمتع وأبهر الحضور، وأحتل المركز الأول في مهرجان الخرطوم المسرحي بموهبته الغنائية وإمكانياته الفنية الهائلة، وقامت جميع الجماهير الحاضرة في المسرح لتحية "ملك الصوت والطرب" حينما شبعوا من المقاطع الغنائية المتناسقة المزدانة بعذوبة الأوتار وطراوة الألحان.
شد إنتباه الشعب بحضوره القوي وتمثيله المتميز للأدوار المختلفة في الأمسيات الفنية والمسارح الغنائية، وكانت الجموع المتعطشة تحضر ليالي الفن الأصيل ورناته الوترية في المسارح والمنصات التي تعح عمالقة الفن وملوك الطرب، الذين ملؤا الدنيا ببهاء حروفهم وشعورهم الوطني وفنهم الهادف ومسرحياتهم المعبرة وألعابهم الفلكورية المستوحاة من التراث الصومالي العريق.
كان شخصية محمد سليمان تبيع خجولة لا تحب الصدارة والثرثرة الفارغة كما قال معاصروه، كما كان وطنيا خدم للفن والأصالة والتراث الصومالي من خلال فنه وحنجرته الذهبية، وقدم للجمهور التي أحبت شخصيته ولصقت صوره علي جدران القلوب وعتبات المنازل الكنوز الموسيقية الكامنة في التراث الصومالي، وموجات الأغاني الواسعة التي تحترم العقول والعادات وتثري الروح والعواطف والمشاعر.


حسن أدم سمتر إمبراطور الفن في الصومال

يعتبر الفنان العملاق حسن آدم سمتر الذي ولدعام 1953م في مدينة دينسورDiinsoor الواقعة في إقليم باي من الجمهورية الصومالية من عمالقة الطرب وأرباب الفن في القطر الصومالي أو إمبراطور الفن في الصومال كما يحلو لعشاق العندليب.

بدأ حياته الفنية صغيرا عندما اجتاز جميع الإختبارات والإمتحانات الصعبة للهئيات الرسمية وحملت أغنيته الشهيرة "مثل غيمة المطر"Sida Hogosha Roobka  إلي الشهرة والأضواء وهزت جنبات المسرح، وأعجبت الجماهير هذا الصوت الطري والإمكانيات الهائلة للفنان الشاب الذي شقّ وسط الفن الصومالي كسرعة الضوء، وبعد فترة وجيزة ترقى في السلك الغنائي الصومالي حتي تربع فوق هامته وحيدا، وأصبح علما من أعلام الفن الصومالي الذي يعرفه الجميع بسبب الكم الهائل من الأغاني الجميلة والكلاسيكيات الوترية التي جعلته أيقونة الغناء في الصومال.

حسن أدم سمتر أو حسن الباشا كما يحلو لعشاقه أن يسموه أسّسّ مدرسته الخاصة في الغناء والطرب ومنح للمسرح الصومالي نبضا قويا وتدفقت بسببه الحيوية في شرايين الفن الصومالي من جديد، وفي حياته الحافل بالإنجازات والأغاني الكلاسيكية المصاحبة للنشوة والعنفوان والتمايل والتمثيل الذكي والصوت القوي الذي يهز المشاعر ويطرب الأجسام ترك بصمات واضحة وقوية في تأريخ الفن الصومالي، حيث يعتبر أكثر فنان صومالي تسجيلا للأغاني حيث البوماته وكليباته الغنائية فاقت المئآت ما بين الأغاني القصيرة والطويلة والرومانسية والوطنية التي تتحدث عن الملاحم البطولية والأيام الغر للشعب الصومالي.

ولقد جادت حنجرت  الفنان المبدع حسن آدم سمتر أعذاب الأغاني والمقاطع ذات اللمسات الإنسانسة الطافحة، والمشاعر الرومانسية المزركشة بالعادات والأعراف والتقاليد الصومالية، حيث قرن إسمه في داخل الفن الصومالي بالمتعة والأصالة، وأصبح صوته مرادفا لأجمل النغمات الكلاسيكية الصومالية، ومن منا لا يعرف ملحمته التأريخية وأغنيته التي أصبحت أشهر أغنية صومالية علي الإطلاق، ويبدو الفنان في هذه الأغنية كما لو كان ينظر إلي مآلات الأشياء، وأن هذه الأغنية هي التي ستخلد إسمه حينما كان التصفيق يلهب أكف الحاضرين وبحت حناجر الجماهير من أجل الصوت الهادر، وهام القلب لأدائه الرائع وحبال صوته الندي، وتعبت الأجسام من التمايل والطرب، وفي وسط حضور مذهل من عشاقه ودون رجفة الخوف نثر درر كلماته علي خشبات المسرح وجاد للحضور أريج العشق الفواح وكلمات معبرة لقصة حقيقية محزنة ماتت بين كاكي الجيش ونياشين العساكر وبين عناد وتغنج الأنثي الصومالية الوادعة علي حضن نهر شبيللي الخالد في بلدوين الحبيبة.

لقد أفاضت أغنية بلدوين Baladweyn دموع العشق العالقة علي الجفون، ووزعت الهمسات القشعريرية علي الحضور، وشغر المحبون أفواههم ولهى لسريالية الأغنية وكلماتها التي تحمل لهيب الشوق وجمرات الشجن، وحينما وصلت الأحداث الدراماتيكية للأغنية إلي منتهاها بطريقة تراجيدية غريبة تنهد الجميع وتأسفوا عن الحظ السئ للفنان، وجحْد النقيب الذي أمر العاشق بالرحيل  ومغادرة المدينة وفيها عشقه السرمدي، ونتذكر كيف وصف الفنان شعر الحبيبة المتدلي علي ظهرها والقرى المتناثرة علي السهول في جو ربيعي مميز، وصعود الجبال والأشجار التي تتعالي كالسنديان، وكيف أن توسلاته لم تشفع له كما أن دعاءه علي عربات الجيش لم تكن مقبولة، حيث غادرت الكتيبة في الصباح الباكر وهو ينظر إلي الحي القريب من الجسر لقلقتوLiqliqato التي كانت الحبيبة تسكن عنده.

لقد رسمت هذه الأغنيبة وبريشة فنان مبدع تباريح العشق وملامح الحبيبة والحكايات التراجيدية والنهاية المحزنة للقصة، وعنجهية النقيب والدجي الذي داهم المحب عندما إعتقد أن حبه يبدد ظلام العتمة ويمنح أكاليل الزهور، ووصل صداها المشرقين وتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل، وعندما عرض في المسرح الوطني نسي الجميع ـ من فرط نشوتهم ـ مقاعدهم وأكتظت الساحة بالعشاق الذين إنتابتهم نوبة الهوى المؤلمة وأثار شجن الأغنية في نفوسهم مكامن الصبا الصامتة.

ومن الأغاني التي أبدعها هذا الصوت المتفرد أغنية سيلو Saylo التي فازت المرتبة الأولي في وزارة الثقافة والتوعية للجمهورية الصومالية في بداية الثمانينات، وكان المطلوب أغنية جمعت أنفاس العشق وهمس الكلمات وشموع الأمل ولوعة الهيام ولوحة بلورية ناصعة البياض للطبيعية الصومالية، وتضع نصب أعينها التناول العجيب للطبيعة الرعوية والزراعية للإنسان الصومالي وتأريخه وحضارته وأنماط الحياة الخاصة لهذا الشعب.

ويعتبر أغنية " الفراشة المخططة balan baalis qalimo leh" التي يتغني بها عندليب الفن في الصومال وملك الغيثارة والحيوية في الأغاني الصومالية عنقود الذهب لأعماله الكثيرة وأعماله الكلاسيكية المتعددة، وفي هذه الأغنية بالذت أبدع في تصوير الكون والحب والطبيعة والإنسان عبر معزوفته الشجية وترانيم صوته الخالد، وألحانه الوترية التي ترسل الجموع إلي حبور الكلمات ومسرات الفن الأبدية، كما نسي إلي الأبد في طياتها لحظات الألم وساعات الجراح، دون أن ينسي الفنان الخيط الدقيق من الحب والإعجاب الذي يربط الفنان بالشعب، ذالك الخيط الذي يجعلنا نتهافت علي أعماله ونطرب سماع صوته ونترقب أغانية قبل صدورها.

ولم ينس أيضا الشاعر الذي تدفقت عن قريحته هذا الأغنية الساحرة المسحة السحرية من العشق والجنون، والقالب الجمالي والأدبي والإغتراف من نهر اللغة ومتحف التراث الشعبي الصومالي الذي زاد رونق الأغنية ورفع قيمتها، ودقة التصوير والتشبيه، وفن نحت الحروف والكلمات والمشاعر الصادقة لتخرج الأغنية من حيز الجماد والمشاعر المكبوتة إلي حورية تنمقت يد الجمال عليها نهمس في أذنها ونشم عطر خصلاتها التي تعبث علي جبينها الصبوحي،  وسَكَب الأداء في قالب الأغنية روحا صامدة تتكلم وتتفاعل معنا وتعطينا مفاتيح السعادة ومشاعل النضارة.

على مشارف مدينة إفريقية


في وسط الرذاذ ونبضات سحر المطر وفي عز نهر الأحلام الذي دآئما ينتهي بشرفات الحياة والمشاعر التي ترسم على وجوهنا إبتسامة عابرة أو رعشة غامضة أو قهقهة طائشة، كنت أراقب القمر عبر نافذتي المطلة على الأحياء الشعبية لأنظف مدينة في إفريقيا في حين مازال المطر ينهمر وعيون السماء تبكي بغزارة نادرة وبرودة العتمة تدق العظام  وتمنحنا صقيعا جعل كيغالي تضاهي هذه الأيام عواصم الضباب ومدن الثلوج. وقفت قرب نافذتي الزجاجية التي تتراقص إحتفاء بقطرات المطر وألحان الربيع أطالع سحب الشوق المتدفقة من الغمائم وصفحات الذكرى الناصعة كبقايا بلورة الغيم.
زوابع البرودة زرعت وخزها في كل عظم ولحم وشحم من جسمي، وهزّت متعة الإثارة ركود الليل، وسكون الأجواء حركت المشاعر باسلوب ناعم متأنق قد يرتقي بعض المرات إلى صاخب حسب المزاج والأهواء، وفي قمة البرودة والسرحان أزم شفة السكون وأرقص على أهداب الزمن بخيلاء  ويمنحني الليل لذة جمالية خاصة تبعث الإحساس من مرقده، وتجتاحني مسحة تدق وتر القلوب وتجعلني في هدوء العتمة  أحنّ إلى الليالي المعبأة بالأفراح والحبور الطاغي على تعابير الجبين كقناديل البحر.
هنا الصباح مطرز بالحب وإبتسامات العذرى ودفء الوصال وشحوب الإنسان في إفريقيا، والأسواق مترعة بمطر الإحساس والأمنيات الأرجوانية للشعوب المقهورة التي خرجت من الحروب والتنكيل والمشانق إلى الحرية والعدالة ومحاربة الفقر والجهوية والمحسوبية. في هذه الأجواء المفعمة بلذة الطبيعة والرومانسية وألم المنافي والإرادة الحقيقية من الخروج الواعي للوضع المزري تقودني النوستالجيا إلى خلجات نفوسنا الغاربة نحو مرافئ الشوق مما يجبر عليّ أن أتقلب فوق السرير كالملدوغ وأسافر عبر خطوط القلوب الوهمية إلى سحيق الزمن وأهبط علي مدارج المدن القابعة في عمق ظلمات الحروب العبثية والقلوب الجرداء المصابة بالجفاف العاطفي والجراحات المفتوحة التي صارت صديدا بطول المدة وعمق الجرح.!
***
المدينة تشبه سمراء رشيقة في جو إفريقي غائم ورغم ذالك لم أسامر مع أطياف الجمال ولم أستمتع همسات الزهور وإبتسامات الأحبة ولم انثر عطور الإلفة والتواصل في ليلتي، بل كنت سارحا بين هذيان الغربة وهرطقات الكتابة والسقوط بسذاجة في حب السهر، ,كنت أتحاشى عن ضوء الصباح وضجة المدينة وكنت أود أن أرمي نفسي إلى أحضان السرير قبل أن يؤلمني صوت الشروق  وتصدمني زقزقة الطيور التي تغدوا على وقع الأشجان والتوكل إلى جهات الأرض بحثا للأرزاق!.
وحين يقول الصباح كلمته التي لا ترحم لولهان مثلي يطبق  الكون هلامه علي ذاكرتي وأبتلع كل أحلامي وآمالي المتعلقة بلذة النوم، وعلى وقع التذمر أصحوا علي عجل وأنظر الأشياء بعينين مغمضتين أجهدهما السهر وأضناهما الأرق وأناجي تباشير الضياء وأتودد النجوم المتدثرة بالصفاء وسواد الغيوم المتراكمة على هامات الأحياء الغارقة في الهضاب والأشجار.
***
الساعة البيولوجية للغربة لا تنسجم أبدا مع ما تعودناه في ديارنا وساعاتنا البيولوجية الموقوتة في وسط الديار وفي تخوم المرابع المزدانة بعبق البوادي والدقة، فساعة الوطن منسجمة مع الطبيعة وصديقة لراحة الإنسان، أما ساعة المنافي فتعاني من الإضطراب وعدم تنظيم إيقاع دورانها ودقة عقاربها التي تدور إلى العكس أحيانا!، مما يغير الحياة ويبلد المزاج ويجعل الليل والنهار مختلطان ولا ينفكان أبدا كساقي حبيبان في عز النشوة أو أغصان أشجار في لحظة الوفاء.
يرتفع طرديا معدلات الشوق كلما أتوغل أرخبيل الذكريات والمدن المحاذية لصخب الطبيعة وصوت السمراوات الضامرات وحركاتهن الرقيقة، وكلما أرسلت مرسال الشوق إلى المشرق الإفريقي الحاضن للتراث والأهازيج والقوافي والأفئدة أوأصبحت ضيفا ـ ولو بالخيال ـ على حفل  في أقصى غرب وطني التاريخي وبوقع الطبول وصيحات النسوان وزغردتهن أعود إلى واقعي حيث صقيع البرودة وشجو الغربة وملامح تشبهني رغم إختلاف الأديان والألسنة والأفكار فأغني فوق تلال المدن الإفريقية الحالمة وأعزف على العود بصوت خافت ومشاعر مكبوتة خلف جدران صادئة، ومزاج متبلد قابع وراء الجبال وفي وسط البحيرات الإفريقية أو قل إن شئت بداية النيل.

وليست الذكريات وحدها ما تجعلني أتجافي عن الرقاد وأقضم النوم كسندويتشه بائسة علي يد كادح أو في أضراس جائع، بل حنين الذكريات لا يبرح في أعماق قلوبنا، وأحزان الفؤاد ترافقنا في رحلتنا إلى  أدغال العالم ومدنها المطلة على المنافي فيحول الحياة إلى جحيم يجبر علي الخاطر أن ينكسر وعلي الإرادة أن تستسلم وتهون رغم التجلد والمقاومة.

الثلاثاء، 19 يوليو 2016

الصومال والطريق الصحيح

لم ينعم الشعب الصومالي في عقدين من الزمن بالأمن والإستقرار، ولم يعش تحت حكومة صومالية حقيقية تمثل كافة الشرائح والأقاليم، وترضي جميع ألوان الطيف الصومالي، بل كانت الحكومات المترهلة اصلاً، والضعيفة مضموناً، المشكّلة من قبل الأمم المتحدة، والمجتمع الدولي، والمنظمات القطرية، والدول ذات التأثير الأكبر والمباشر للصومال، حكومات واهية ليس لها أهداف وطنية واضحة، ولا أجندات إستراتيجية قصيرة أوبعيدة المدى لإنقاذ البلاد من الفوضى التي عمت كافة أنحاء الوطن.
بل كان جل إهتمامهم إرضاء أسيادهم من المجتمع الدولي ودول الجوار، لأن السياسات المتبعة في تشكيل الحكومات الصومالية كانت فاشلة وتقوم بإقصاء الكفاءة الوطنية والممثلين الحقيقين للشعب من العلماء، والمثقفين، والوطنيين الأحرار، والشباب، وكان المعيار الأوحد في إختيار الحكومات المتعاقبة في الساحة مدى ولائهم للحكومات والمنظمات والدول الغنية التي تكفل لهم رواتبهم، وبالتالي أصبح آمال الشعب الصومالي في إيجاد حكومة صومالية قوية تستطيع سيطرة الأمور المتفاقمة والوضع المزري للبلاد سرابا بعيد المنال في ظل حكومات فاسدة تنتج الفقر والإهانة والحروب الأهلية.
ولكن تشهد السّاحة الصومالية في الآونة الأخيرة تغيرات كثيرة ومستجدات متلاحقة بوتيرة سريعة أسرع مما توقعه أكثر المتفائلين تفاؤلاً ، وصادفت التغيرات بتوقيت فريد أضفى عليها طابعاً إيجابياً متمثلاً بصحوة ألهبت مشاعر المخلصين من ابناء الوطن وأججت مشاعر الوطنية في نفوسهم وفجرت الغريزة الكامنة في أعماقهم وغيرت الهمسات الداخلية وحديث النفس إلى حديث الفضائيات والتجمعات والمنتديات الصومالية.
توقيت شعر كل إنسان صومالي أن الإحتراب والقبلية وبث سموم التفرقة كلها عوامل تؤدي إلى الهوان وجرح الكرامة، وأن التفرقة وتجزأة المجزأ أصلاً وحمل شعارات مزيفة وبلقنة الصومال لم يعد كافياً لقتل روح الأخوة والترابط ووحدة الصف والوجدان. وأدرك الشعب ولو متأخراً أن مصلحة الجميع تكمن في الترفع عن سفاسف الأمور والتفكير الجيد والتقاسم العادل للثروة والسلطة وأنهم يستطيعون العيش فيه تحت المعادلة الشهيرة "لا غالب ولا مغلوب"، وأن السياسات الهوجاء التي إتبعناها والإختيارات الملتوية لم تكن إلا سراب وبرميل بارود إنفجر وتضرر الجميع بقوته وجبروته، وأن من حق الجميع أن يعيش تحت الظل الوارف للعلم الصومالي ودولة تسيطر جميع الصومال وتجمع الشتات وتضمد الجراح وتواسي المجروحين.
كان مجتمعنا ومنذ 1991م يعاني من الإنقسامات والتشريد وأستسلم للمشاكل والحروب، ولكن من الواضح أن المنظار الذي كان ينظر إليه الشعب قد طرأت عليه تغيرات جذرية، وأن الوعي الثقافي والحس الوطني قد إرتفع، واصبح الشعب مدركاً لما يجري حوله يستوعب ويحلل المواقف، ولم تعد الكلمات البراقة والكلام المعسول والوعود الوردية والكانتونات الصغيرة، والشعارات المزيفة من محتواها تنطلي عليه بقدر ما يعول أن يجد الحل الأمثل لمشاكله الكثيرة وآلامه المتعددة، وأن يجد قائدا ملهماً مخلصاً يرسم لهم الطريق السليم، ويؤمن بحق الشعب  في الحياة، وياخذ بايديهم الي دروب الامن والنمو الاقتصادي.
الشعب الصومالي محارب بطبعه لا يكل ولا يمل ولا يستسلم رغم كل الظروف بفضل عقيدته الإسلامية وطبيعة معيشته وخلفيته التاريخية، وبما أنه يملك كل مقومات الحياة الكريمة والعيش الرغيدة بات ضرورياً أن يدرك العقل الصومالي أنه مهدد بالإنقراض وأنه على وشك المسح من الوجود، وواجب المرحلة هو التدارك والسعي الحثيث لإستعادة المجد والكرامة مستفيداً الأجواء المهيأة والمناخ المناسب من التغيرات التي عمت العالم.
وبما أن الصومال يموج بحروبات إرهابية وحالات حادة من التناحر والإقتتال وإحتقان شعبي ضخم، وتتزاحم فيه الدول الخارجية والهئيات الأممية والحركات الإجرامية وأصحاب المصالح والتيارات والمذاهب، وفشلنا أن ندرك الوضع بالحوار والتقارب والتلاقي والتفاهم وأن نوقف الصراعات المستمرة ، بدت الحاجة أكثر إلحاحا لفتح أفق جديد من الوطنية وانتماء لهذا الوطن ومحاولة إعادة شمله من جديد.
يجب على الشعب أن يتخطّى زمن بيع العقول من أجل اللقمة والقبلية والكراهية والتضحية من أجل اصحاب المشاريع المشبوهة إلى زمن الوحدة ومخاطبة العقول والتقدير المبني على العلم والوطنية والتسامح، ولابد أن يأخذ العلم والعقل مكانتهما الطبيعية من أجل وحدة الشعب وتقوية وشائجه ولحمته وتنمية عقوله ومن أجل إيجاد مجتمع تسوده مبادئ الإستقرار والعدالة. مجتمع راقي يقبل الآخر ويقوم بتحسين الجبهة الداخلية بالحريات والمساوات والعدالة الإجتماعية ومكافحة الفساد والمحسوبين، وتلميع الصورة الخارجية بمحاربة الصور النمطية والحالة السئية التي تركزت في أذهان العالم،كما يجب أن نستفيق من الغيبوبة الطويلة والنوم العميق لتصحيح المسار وتدارك الموقف، وأن نخرج من الذل والهوان والخوف نحو الأمن وإعادة المجد ووقف نزيف الجرح الذي لم يندمل منذ عقدين من الزمن.

الخميس، 7 يوليو 2016

الأدب الإفريقي


في ليلة غاب عنها القمر ومليئة بأغان مشحونة من السهر والبحث عن رموز قارتنا الجميلة حط بي الرحال إلى مجاهيل الحياة وأعماق إفريقيا السمراء، وهرول بي قطار السر إلى عالم جميل حيث الأحلام كبيرة والأماني عالية وشدو الألحان ذات الإيحاءات الثقافية تصدح من بعيد لتثير في نفسي مشاعر جامحة نحو الكتابة ولتبعد السبات عن مقلتي المجهدتين طيلة ساعات الليل وصدر الصباح الأول.

حاولت التحرر من كبت السهر إلى طريق الأحلام والتنزه على عقول البشر والتنقل إلى سحيق الأسفار وعمق الكتب وجعلت معانقة الورود وقراءة الأفكار المستنيرة عبر بطون الكتب عنوانا لسهرتي، تارة أرتدي الصقيع في عواصم الضباب ومرة تزكمني الروائح الكريهة مع عشوائيات المدن وتارة ألبس حلل الحرارة وحبات العرق مع سكون الليل وهدوئه السرمدي، وعشت تلك الليلة معنى الحياة بكل أطيافها وظلالها وأنغامها الخالدة.

ما أجمل رحلة المنافي السرمدية مع عقول العباقرة والترحال عبر الأثير أو التنقل في أرجاء الكون عبر حفيف الأوراق وصرير القلم وخاصة مع رفقة الرواد وأيقونة الحياة في العالم، ومن استحق أن نكتب أسماءهم بماء الذهب بل بماء العيون الذين وهبوا للبشرية عصارة أفكارهم وخلاصة تجاربهم.

وبما أن السهر قال كلمته والساعات الجميلة لا تتكرر وصفو الحياة نادرا ما يتراقص أمامنا اخترت أن لا أصاحب هذه الليلة غير النجيب اللبيب ومن طبع على كل جبين سطور الفخر وخاصة في قارتنا السمراء الغنية بالقامات الأدبية والعلمية التي كرست جهدها لكي تكون القارة من أكثر القارات علما وأغزرها معرفة وأجملها عقولا.

اتجهت نحو ضوء خافت قرب مكتبتي وبدأت البحث عن الكتب والأسفار المميزة التي يمكن أن تعوضني نومي الضائع هذه الليلة فاخترت أن أبدأ رحلة جميلة تنقش الذكريات على شغاف القلب مع عميد الأدب الإفريقي حزقيال مقاليلي ذلك المناضل الكبير والكاتب القدير الذي سخر قلمه للمساهمة في تحرير شعبه وكرس جهده لتوعية الناس ودعوتهم إلى التمسك بعاداتهم الإفريقية الأصيلة وتحرير وطنهم المحتل وتقوية النسيج الاجتماعي لشعبه الجنوب الإفريقي كي لا يضيع تحت وطأة المحتل ووقع الجوع الذي يلتهم الأجساد ويفرك البطون ويحصد الأرواح، ونال بنضاله وسعيه الدؤب إلى التحرير الفكري والعلمي لمجتمعه بضيق شديد ومطاردة من المستعمر ونال أيضا أن يكون رمزا وطنيا للشعب وشخصية عظيمة قاومت المحتل العنصري البغيض.

لم يكن المناضل قابعا على سجون الروايات الضيقة بل ألف كتبا وروايات تشحع المسار الذي انتهجته ثورة الشعب، وأعماله التي تزخر بالإبداع والتشويق للأدب الإفريقي وعاداتهم لا تحتاج إلى تقديم ولكن المهم هو أن تعلم أنه كان يركز دائما على المواضيع المهمة التي أولاها تصادم الحضارتين الإفريقية الأصيلة والغربية الدخيلة التي يفرضها المحتل مع وسائلها البراقة التي تعتمد دغدغ الشاعر تارة والتخويف والتهديد تارات أخري، وليس الحزقيال وحده من عالج هذا الموضوع الحري أن يسكب المداد حوله بل الصراع الدائم بين الحضارتين والقصص ذات طابع الكآبة والحزن كان الأكثر شيوعا في الأدب الإفريقي عبر تاريخه الطويل وشكّل زاوية مهمة من زوايا الأدب الإفريقي في مختلف عصوره.

لم يكن الأدب الإفريقي المبدع قاصرا علي هذين الموضوعين رغم أهميتهما وكونهما العمود الفقري في الأدب الإفريقي، وليس كل الأدباء سلكوا نفس الطريقة بل قد تختلف المواضيع وتتباين الأفكار ويتمرد البعض عن الجغرافيا والقوانين القبلية المحكمة في القارة والحنين الإفريقي المسكون مع سحيق الشخصية الإفريقية، ليأخذك إلى قلب العالم والعواصم الإفرنجية، وتدرك طريقة تناوله وتقديمه لبلاد الصقيع والضباب مدى عشقه السرمدي لثقافتهم وولعه الشديد بتقاليدهم مع حفظه تراث قومه وعادات قارته، مما كون تمازجا غريبا وتناغما رائعا يجعل الحضارتين يتفقان مع شخصيته وينفصمان مع الواقع والتاريخ وحتي المستقبل.

كان الكاتب الإفريقي في معظم أحواله قنديلا في حنادس الظلام يحارب الاتكالية والانهزامية أمام الأعداء ويحارب بقلمه وفكره ترسبات الاستعمار وكان نبراسا للأمل يشع منه نور اليقين والإيمان الراسخ حتى لا يدب اليأس في القلوب، ولم يكن الكاتب الإفريقي يقتصر ويلازم ردهات التآليف والكتابة بل كان يشارك المواجهات والنضال المسلح وتصميم الثورات وتخطيط الكفاح ضد المستعمر ويكشف صفحات المحتل الكالحة فها هو تشينو أتشيبي يهاجم في روايته الأولي (الأشياء تتداعي) التي صدرت عام 1958م الاستعمار البريطاني لنيجيريا ويوضح الأساليب السلبية والفاسدة التي اتبعها المحتل لإدارة افريقيا إبان وجوده وخلْق أذناب له ذوي عقلية استعمارية وبَشرة إفريقية عند خروجه، مما جعل تشينو أتشيبي قامة إفريقية ورمزا وطنيا ومناضلا في نظر الشعب ومجرما يبث السم والحقد في عين الفاسدين وفي نظر المحتل! ولم تكن مواقفه الشجاعة وحدها ما جعلته محبوب الجماهير بل كان غزير العلم واسع المعرفة يتمتع بقريحة لا تلين وجودة في التأليف حيث ترجمت بعض أعماله إلى خمسين لغة وبيع منها ما يزيد علي عشرة ملايين نسخة.

الأربعاء، 6 يوليو 2016

بين حياتين

تحت قبة الليل كنت أراقب أفول القمر عبر نافذتي الغارقة في البرودة والعتمة، في حين مازال المطر ينهمر وعيون السماء تبكي بغزارة وشجن الذكريات توهب لنا رعشات ليلية رهيبة في أطول ليل أبى أن يتصالح مع الذات بسبب الثنائيات الوجودية في الكون وحياتنا التي تخضع لتصادمات حضارية وثقافية ورحلات فكرية وجسدية تجعلنا نضيع في الخط الفاصل بين متاهات تلك الثنائيات المحكمة في حياتنا، وفي خضم رحلة البحث عن الذات أو تحقيق الأحلام ترحل الأعمار سريعا كلمح البصر وتبقى الذكريات ملاذنا الذي يمنحنا خيالا جامحا نحو الأصالة والتحرر من القيود الفكرية والحياتية والثقافية.
في هذا الليل البهيم ليست الذكريات وحدها ما تجعلني أعتصر الألم وأتجافي عن الرقاد، بل ركبت موجة الحنين إلى مرابع الوطن وعندما اقتربت إلى مسارح الصبا كان زبد الوديان في زمن الفيضانات وصوت الضبع في هدأت السحر، وورقة البردى المتساقطة بفعل الرياح، وصوت المؤذن المميز لمسجدنا العتيق وصخب الشاحنات القادمات من بعيد وصوت الرصاص في أزقة المدينة وأعين القطط اللامعات في الظلام يجبرني أن أهرول إلى الحس الشاعري والسهاد ولم أتمالك عن قلمي ليبكي بكاء غيّر التفكير والأمزجة وجعل ليلي مشحونا بالنوستالجيا.
لم أجرب عاصفة هوجاء من الشوق كالتي ضربت تلك الليلة أكباد عمري ورجعتْ شريطي إلى الثلث الأخير من العقد الثامن من القرن المنصرم وبداية الهزيع  لأول من العقد التاسع لأقف أمام مبارك الإبل ومراح البقر قرب جداول الماء وعند الجبال المتناثرة في الغرب الجغرافي للوطن، والغريب أني غالبا ما كنت أحفظ مزاجي العالي أمام التيارات الجارفة التي يصعب التكهن بمسارها، ولم تكن تؤثر عليّ العواطف مهما كانت قوية ولكن أعترف أن الأخيرة كانت أعنف موجة من الشوق وأصدق شعور تجاه الوطن، ولا أدري من أين جاءت لي موجات الشوق وذبذبات الحنين في عز تبلدي الذهني وفي خضم نسياني العجيب لحياتي هناك قرب أريج الزهور وعبق الورود، وبعد النسيان التام لأسماء إبلنا الذي كان يفوق مائة إلا قليلا، والذي كنت في صغري أعرف آثار أقدامه وصوته ناهيك عن جسمه وعلاماته المميزة، ولا أعرف كم مرة تذكرت بناقة شقيقي الشقحاء التي لم تكن أجمل منها في إبلنا حينما كنا نتفرج على السحب العابرة فوق هاماتنا، ولا أدري كم أذرفتُ الدموع وغنيت وأنا مترف بالحزن منذ أن انفصلنا حياة البداوة بالتراضي عندما يئس كل واحد منا على إقناع الآخر وفشلنا التكيف معا.
في صغري كان بريق عيني يخبر بنمط مختلف وكان في ذاكرتي الصغيرة شريط لونه غير لون الريف، وكنت نشطا كخلية النحل مما جعل الأهل والأصحاب ينظرون إلى بعين خاصة، وبحيويتي وحصافتي كان الجيران يقولون للوالد رحمه الله: أنني لست من طينة أهل القرية وحياتها لا تليق ممن أظهر النجابة في بواكير عمره، بل كانو يتمنون بقلوبهم النقية وعقولهم السليمة أن أكون خليفة القادم لأبي الذي اتسم بالعلم والحكمة وبعد النظر والحلم والعدالة عندما يفصل بين الخصوم بحكمته.
لا أتذكر كثيرا أطلالنا ومرابعنا النائية؛ لأن الدهر أكل على ملامحها وشرب على تفاصيلها، ولكن ما أعرفه هو أنه في موسم المطر وفصل الزراعة وحين تدر المواشي باللبن ويكثر الغزل والرقصات الشعبية على وقع الأصوات المبحوحة لكثرة الطرب ولذة الوصال، وحين تعم الزغاريد كانت العرائس تزف في موكب احتفالي مهيب تزينه الأهازيج ودعوات المسنين، وكانت مناسبة تاريخية يمارس الكبير والصغير طقوس العرس وأدبياته في تاريخنا، كما أنها كانت فرصة سانحة لإلتقاء الأحبة وتبادل الآراء مع رفقاء الحي وأتراب الحارة.
في ذلك الزمن لم تكن عودي قوية، بل كنت غضا طريا في مقتبل العمر، ولم أكن ممن تحركه الأهازيج وتثير هواجس العشق والغرام في نفسه، ولكن كانت بالتأكيد تلصق في وجداني علاقة حميمية وتطبع على قلبي جماليا داخليا. ولعل من الأسباب الريئسة التي جعلتني أحب الشعر وأدمن على سماع اللعبة الشعبية الأولى في القطر الصومالي "طانتو" هي ترسبات تلك الحقبة البعيدة في حياتي، وأن تعلقي الواضح بموضة الأصالة وضعفي أمام تياراته وتذكري الدائم للأطلال والضحكات الصافية للأطفال كان شغفي على هذه الحياة وأنماطها وبساطتها الموغلة في الثقافة والتراث.
محبتي لتلك الأيام لاتزول وشغفي بها فاق كل التصورات، ورغم أني إنهزمت أمام زحف المدينة ورحلت من مسقط رأسي إلي هدير الآلة وأنا طفل في مهد الصبا، إلا أني "أغالب الشوق والشوق أغلب"، وما زلت أفتقد وأنا في نهاية عقدي الثالث الجداول التي كنت العب بها وأضحك فيها مع الزملائي وأترابي في الحي ونحن منسجمون مع جمال الطبيعة نتلذذ بخرير مياهها ونطارد عصافيرها ونرمي الحجارة على سحليتها.
ومازالت بيوتنا المتواضعة المصنوعة من العيدان العجفاء والطين ترسم لوحة الفراق في مخيلتي، وصوت الشيخ وهو يرتل القرآن ويقرأ الأوراد الصباحية في الفجر ويدعوا الله أن يحفظنا من مآسي الدنيا وملاقاة من يحملون على أكتافهم مشاريع الكراهية تهز طبلة أذني، ولا زالت تراودني الأسى عندما أتذكر صوت القصيد وغيمة الأحلام، وكيف ودعت منبع الرجولة وموئل العز ومركز الفخر، حيث تتجدد الأصالة لتروي الأجيال جيلا بعد جيل.
دخلت المدينة وعشت في خنادق الحروب الخاسرة وأصبحت ضيفا على التشريد والتبعثر الجغرافي، وبعد سنين أصبحت مراهقا صعب المراس لا يخاف من المستقبل ولا يعرف المستحيل في دنيا البسيطة، شعاره في الحياة "إما مغامرة جريئة أو لا شي"، و يطوف البلدان متخفيا في جناح الليل أو في شبح الخوف. وكنت شابا يعشق الحرية وتعجبه الرجولة والفضاء الرحب كما عاش أجدادي الأوئل قبل أن يقسم الإستعمار الوطن التاريخي لشعبي ومنح أرضي كهدية لدول الجوار النصراني بسبب دينهم أولا ومحاربتهم ضد الحركات الجهادية في القرن الإفريقي وفي مقدمتهم ثورة القائد الكبير أحمد بين ابراهيم القرين وثورة الدراوييش بقيادة السيد محمد عبدالله حسن تلك الثورة التي هزت عرش الصليبيين في شرق إفريقيا وجعلتهم أضحوكة العالم وتحت رحمة المجاهدين مما أجبر على المماليك النصرانية أن يستنجدوا الإمبراطوريات النصرانية وخاصة البرتقال.
وتسللت عبر الحدود مع القادمين من بعيد وبدون من يغطيني من البرد والجوع والخوف، ودخلت الزنزانات الإنفرادية والمحاكمات الهزلية ونمت على الرصيف، واجتاحني الخوف وأنا على تخوم المدن التي أقصدها لعدم امتلاكي الأوراق الثبوتية وجوازا معترفا يسمح لي التنقل بطيب خاطر ودون أن أرتدي لباس الذل ألوانا.
وعندما كبرت كان الوطن يلتهب والأمة ممزقة والكرامة مهدرة، ولم يكن الوطن فناء يجمعنا وأما رؤوما حينما عرفت معني الوطن، بل قُدر لجيلي التعيس أن يعيش بلا هوية وبلا تاريخ وبلا كرامة ولادولة تعيننا على مواجهة السلبيات وتصدنا عن مآىسي الحضارات والقيم الوافدة، ولم يكن ثمة حكومة تغرز قلوب المواطنين حب الوطن وعشق التربة والحفاظ على بقايا سراب من آمال الطفولة التي تومض في مخيلة الأطفال.
وأصبحت المني والأماني أحلاما لا تتحقق وجسرا يربط بين جيلين، جيل عاصر البداوة وأحبها وجيل أدرك الإنفصام التام عن البداوة وعاش في سراديب المدينة، وصار الجميع يجنح نحو المدن ورفاهيتها رغم وجود أخطار محدقة لم نكن نعرف في مرابعنا الأصلية.
وفي نزيف سنوات عمري المتلاحقة شارفت التربع على ربيع الشباب ومازلت أتمسك وأضع على حدقات عيوني رمزي المعبر لآمال الطفولة التي كادت أن تتلاشي مع تفرق جميع الإخوة تحت ضغوطات الحياة وتقدم العمر، وعندما أنظر من كان السعادة تسكن في روحهم الحبيبة وفي دفء وجودهم تبدو الحياة وكأنها ضرب من المآسي، ولكن عندما أتأمل إنسياب الحياة وسلاستها رغم كل المعوقات والمنغصات يرتفع ترمومتر الأمل في قلبي وترتفع معه معدلات السعادة والإنتظار ليوم طال إنتظاره.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...