الأربعاء، 30 أبريل 2014

إستقالة عطوان والسّديري...وغربة الصحافة*

لايوجد شئ أصعب من فراق من بات مألوفا لديك وتحاول معه كل لحظة تناسي الهموم والهروب من معاناة الحياة إلي جمالية الكلمات وبهاء الأحرف والإيقاعات الشجية لصرير أقلامهم وحفيف أوراقهم، والإحتماء بقلبه الرحب وهروب الغموم بقلمه الوفيّ للوطن وكلماته الحامية حمى الجغرافيا، وضميره المستيقظ لصيانة التاريخ وحفظ أحداثها وسجلاتها الخالدة وصفحاتها الناصعة البياض وسطورها الكريهة والقاتمة في بعض الأحيان.

ولا توجد أصعب من مفارقة من تتحدث معه يوميا، وتفضفض في رحابه علي وقع الأحزان والأسى، بل وتناقش معه الأحداث ولو بالخيال ويشاركك في تجاربه في الحل وفي الترحال، ويوميات حياته الملئية بالعظة والعبرة والتجارب المتنوعة، ويكتب لك تنقلاته وتاريخه، ويحل ألغاز الزمن ويخوض دهاليز الحب وردهات السياسة بقلم جرئ بقدر ماهو جميل، وقلب جسور وإحساس مرهف ونظرة ثاقبة للأشياء وللأحداث، ويرسم وجهك ضحكة عابرة أو إبتسامة خالدة أوقهقهة مسائية مترعة بالبهجة والحبور بأسلوبه الرائع وإختياراته الموفقة وتراكيبه المنمقة وبعباراته ذات الموسيقي الشجية والنغمات الوترية التي تطفح السرور علي أركان الجسد، والنشوة في ردهات القلوب القانية وتغلي الدم في العروق كصورة بانورامية أنيقة تشبه لوحة رسمتها ريشة فنان مبدع. .

صدمتُ حين قرأت علي مضض خبرين في غاية الحزن والأسي علي الأقل في نفسي الضعيفة التي لا تقوى وداع الأحبة وتقطف الحزن في حديقة الوداع، وتذرف الدموع لذكري الأصدقاء ممن ترجلوا عن دنيانا إلي دار البقاء، أوممن فرقنا الزمن وأبعدني النوى عن جنابهم والإيناس في حضرتهم، ويزيدني مرور زرائب الذكريات وطيف الأصدقاء القدامي علي طرقات ذاكرتي الموغلة في الكلاسيكيات القديمة الرابضة في سحيق الأصالة المتمسكة بكل ماهو قديم أمثال كلاسيكيات روك هودسون الملئية بالحب والإخلاص والوفاء في زمن الغدر والغطرسة والتكبر، شجنا وولهاَ وتعلقا.


ومن لحظتها وأنا أعاني ضربة مزدوجة أتتني حين غرة عن منهلين ثقافيين إكتسبت عنهما تجربة كتابية وصحفية صقلت كثيرا عن موهبتي الكتابية البدائية، وحقيقة هما شخصيتان في غاية الروعة والجمال كنت أتابعهما علي شغف واقرأ مقالاتهما بحب ونهم شديد، وكنت أستمد عنهما طاقة هائلة وحيوية نادرة وتصورا جيدا وخلفية رائعة لكل مايجري في الكون والأحداث التي تشكل حديث الساعة في عالمنا المعاصر، والوقائع التي تمس عصب الحياة، والتطورات الإيجابية التي ترسل الجموع إلي المسرات أوالتي تدخل قلوب الجميع في دهاليز الأحزان التي لا ضفاف لها .

الأولي والأنكي هي إستقالة د.عبدالبارئ عطوان عن تحرير ورئاسة القدس العربي ذاك الصرح الصحفي المبدع والثقافي البهيج الذي ولد شامخا في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم في عاصمة الحريات والفلسفة الإبداعية لندن عاصمة الضباب والعراقة في الغرب الأوروبي الحالم.

شكلت القدس العربي في تاريخها الحافل بالمهنية والمعايير الصحفية إمبراطورية إعلامية عربية تصدر في وسط الغربة وفي حفيف المنافي وتفوق توزيعا وحضورا من الجرائد المحلية الصادرة من الدول العربية رغم قلة مواردها المالية وحظر دخولها وتوزيعها  أكثر من بلد عربي بأسباب مختلفة وغير منطقية في أغلبها، ووصلت في ريادة الصحافة العربية  المقروؤة حسب رأيي لنهجها العادل وبساطة روادها وتواضع رؤسائها، وكونها وضعت في نصب أعينها تخفيف آلام الشعوب الناطقة بالعربية بل التبني علي مواقفهم وعرض مشاكلهم للعالم، مما جعلها موقف حب وتقدير وصوت الأغلبية الصامته التي لا تجد من يسمع صوتها في خضم هدير العالم وتقلباته الكثيرة.

ما يحزنني حقا هو توقف عموده الشامخ أكثر من عشرين سنة، رغم أنه وعدنا بتواصل دائم عبر المواقع البديلة وخاصة مواقع التواصل الإجتماعي، وعبر إصدارات جديدة وكتب قيمة ومقالات شبه يومية لا تنقطع، وخاصة في عز الأزمة التي نعيش في ظلالها وتلاطم أمواج المصلحة الآنية ونسيان مصلحة الجماهير والوطن في الدول الإسلامية والعربية.

وبعدك لا تكون القرآءة في القدس العربي ذات نكهة تحررية تغرد خارج سرب الإستعمار والصهاينة، ولا تكون مفعمة بالعزة وتنضح بالكرامة والنخوة، وحينما تحجم عن المقابلات الرسمية لا تشبه اللقاءت التلفزيونية والمحاورات الإذاعية والمقابلات الصحفية أدبيات المناضل تشي جيفارا التليدة، ولا تواضع غاندي المدهشة، ولا إخلاص وحب مانديلا في زمن القهر والحرمان وسنوات الضياع في السجون العنصرية.

وبالتأكيد خسرت الصحافة المقرؤة عامة والقدس العربي خاصة قامة إعلامية عربية نادرة، وإبنا بارا نذر عمره للصحافة وللقدس العربي وبناها لبنة لبنة وحجرا علي حجر بعرق جبينه وقوت يومه، وضحي من أجلها الغالي والنفيس، ولم يشتغل في عمره المديد ورحلته الملئية بتراجيديات الحياة التي جمعها في كتابه الجميل "وطن من كلمات"من قمع المحتل ومعاناة الإنتقال والهجرات وإرهاب المستعمر والشوق والحنين إلي الوطن وسطور الألم في أرض الغربة وبلاد الصقيع وفي أرض الأعراب والحر اللافح  والهجرات المتعددة من بلد إلي آخر بحثا عن حياة تليق بالإنسان، سوي الصحافة تعلّما وتعليما وكتابة وتناولا وتقديما وتحريرا.

بعد اليوم سنفتقد صدق المواقف والشعور الإيجابي للوطنية والإيمان القوى بقدوم فجر الحرية لجميع الشعوب المقهورة، ووشك إختفاء وغياب ليل الظلم والإضطهاد إلي الأبد.وسيفقد الشعب من ينحاز إلي قضاياه العادلة ويسعي لنصرته في خضم معاناته من القريب والغريب، وسنفقد أيضا التحليلات العميقة للأحداث المهمة والواقائع المؤثرة والنوازل المؤلمة.

من يصطف إلي جانب الأمم الضعيفة لكي تنال حقها المشروع في العيش والحياة الكريمة وممارسة الحياة بحرية تامة وكرامة موفورة، ومن يقف صف المظلوم دائما ويواجهة الغطرسة بحروف ملتهبة وكلمات هادرة وإنفعالات تجعل تعابير الوجه أشد من الطلقات النارية في قلوب الظالم وعيون المستبدّ.

أما الضربة الثانية فهي توقف الأستاذ مشعل السديري عن الكتابة في الشرق الأوسط مجلة العرب وصوت الأغلبية كما يقولون، رغم تحفظي التام لذاك الوصف وهذا الإطراء خاصة عندما أصبحت الشرق الأوسط آلة في أيدي الدول البترودولارية الراديكالية التي تحارب الحرية وتغذي العنف والإرهاب النفسي والجدي والإعتقالات التعسفية للأحرار في كل الميادين، ووقفت ضد إرادة الشعوب الثائرة، وأصبحت منبرا ينقث سم القهر وليّ عنق الحقيقة.

وحقيقة لا أتصور بدون نكتهِ التي كانت تطال الجميع وشطحاته وتخيلاته العميقة والساذجة للأحداث في آن، وكتابة تجاربه ورحلاته التي عمت المشرقين بقلم ساحر جذاب وأسلوب أدبي مبهر وخيال رفيع سلس وكلمات بهية تترك أثرا في نفوس القرّاء.

أزهدَ الولوج في المواضيع الحساسة والإصطياد في المياه العكرة، وترك القوس إلي بارئها والخلق إلي الخالق والحكم إلي زبانيته، وتركَ قارب السياسة بكثرة ركبانه وتشنجاته، واتجه إلي ملء القلوب حبا وحبورا والمساهمة الفعالة لرسم الأمل في ظل الحرمان والدموع والدمار وتبلد الضمير وموت الهمم، فأتحفنا بمقالاته الساخرة وكتاباته الأدبية وضميره الإنساني الذي كان يشكل تسلية للبائس وأنيسا للمحروم- وما أكثرهم في ديار العرب والمسلمين- ورفيقا وفيّا للغريب أكثر من عشر سنوات.

أقول وفي الحلقوم مرارة جزي الله عنا قدرما أدخلتما السرور في قلوبنا ونصرتما العدل والإنسانية حيثما كانت، وعزائي الوحيد هو مواصلة الرحلة مع باقي المحبين أمثال: الأستاذ سمير عطا الله وخالد القشطيني وسمير عزوز والأفندي والكوكبة المشرقة من الكتاب والصحفيين إن شاء الله.#
*ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتبت هذا المقال في شهر يوليو عام 2013م ولم أتمكن بنشره بأسباب خارجة عن أرادتي

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...