الثلاثاء، 1 أبريل 2014

على حافة المجهول.


لم تكن تلك الليلية من ليالي الربيع البارد في جكجكا لتمر دون أن تمنحني لذة التعامل مع الليالي الإفريقية الخانقة ذات الإيقاعات المتباينة الرائعة أحيانا والصاخبة أحيانا, وشعورا خارقا يلهب الحشى ويعكر المزاج ويبلد الذهون، وتفكيرا عميقا تتسمر العيون من أجله في الجدار المقابل كمن يطالع صفحة الكون عن كثب أو ينظر ما وراء المرئيات بعيني زرقاء اليمامة، أو كمن يحتسي الشوق في الزنزانات المظلمة ويترقب القادمين من النور وحاملي النبأ الأهم واللحظات الأجمل في حياة كل سجين عان من الظلم والقهر والإضطهاد النفسي والجسدي حينا من الدهر.

لم تكتحل جفوني بالكرى، بل أهداني الليل وابلا من الإستفهامات المحيرة وتشويشا عاطفيا وسهرا يغذي حدائق قلبي أسئلة تدمي الجفون وتنهك العقول وتسارع الإيقاع المعرفي والإدراكي لديّ، الأسئلة المحيرة كانت ترسلني إلي عمق الأفكار والرؤى عبر التحليلات المتعددة والتأويلات الكثيرة، لأفهم ما يدور في الكون تارة، والحث إلى طريق الفجر والمستقبل وعدم الإستسلام حتى الرمق الأخير تارة أخري.

وفي خضم هذا المعركة الضارية والتساؤلات الأخلاقية لايتوقف نهر التذمر، ولا يكون خاليا من رنات التوجع والأماني التي لم تتحقق، بل أصبحت آمالا فارغة وخدوشا لا تندمل، وسطورا مبهمة منسوخة علي ورقة الكربون التي لا تضيف هيبة الحياة ولا رونق المعيشة ـ حسب المقاييس والمواصفات والموازين العصرية ـ سوى العتاب والتعلق علي المجد التليد، والتباكي علي اللبن المسكوب والإرث الضائع الذي فقد من يحترمه ويحسن التعامل معه ويسهر لحفظه.


وفي ظلال الحيرة والتجول علي الأرصفة الباردة وربي المعاناة والعودة إلي المربع الأول ذات الضباب والندى في كل حين، تهاجمني إستفسارات كثيرة للواقع وللحياة, وإستفهامات عديدة تردني في أودية التخمين والظنون وموارد الغيمات الدخانية التي تحجب الرؤية وتجعل الحقيقة بعيدة والواقع يبدو سرابا في وسط الصحراء العتمور, والأماني أكواما من الزفرات الشجية المختبئة خلف أبواب الضمائر الميتة والإرادة المعوجة.
أحاول فك طلاسم الأرق وتبديد سحب السهاد! فأسأل قلبي مالذي جعلك تسهر يا قلبي المكلوم؟ وما سر الأرق يا عيوني المجهدتين؟، فأجد جوابا تملأ نصف الكوب وتحول الوضع إلي ليل دامس، وحنادس الظلام المعنوي تزحف علي مناطق الأمل ذات الأعشاب المرتعشة فتجعله لوحة قاتمة، كيف ننام والأقوي يغزو علي الضعيف بمجرد أطماع وعظمة الجنون. نزوات شيطانية تجبره علي البطش والنهب وتشريع القوانين المجحفه التي تحافظ قوته وهيمنته الدائمة علي البسطاء والمساكين!.

كيف أخلد إلي النوم وأمتنا وفي ثروتها المتعددة ومواردها الكثيرة وكنوزها المختلفة وعقليتها الجبارة يموت الواحد منها جوعا علي الأرصفة فتكفنه الثلوج وتشفقه الطبيعة، في حين أن الإنسان يسلب حريته ويأكل رغيفه ولا يلقي له بال!، كيف أتلذذ فوق الأسرّة والأرآئك والمقاعد الوثيرة والجهل يقود الجميع وراياته خفّاقة في كل الميادين ونحارب العلم والمعرفة! بحيوية مفرطة ونشاط عجيب.

كيف أهنأ بلذة النوم وأمتي لم تشبع بعد في التقسيم والتجزأة والتنكيل، ولم تفهم النظريات الجديدة لتقسيم الأرض والعباد، والخرائط الجديدة للعالم التي تبناها الغرب وجعله في رأس أولوياته، بل بدأت تطبيقاته على بلدي الصومال قبل عقود والسودان قبل سنوات، وبلاد الرافدين وتمزيق أوصال جمجمة العرب إلي أكراد في الشمال وعرب سنيين في الوسط والشيعة في الجنوب شئ واضح وبادى للعيان!.

كيف لا يسيطر عليّ حزن صامت وعميق والإنسانية في خطر وتسير نحو الهاوية بخطى ثابتة، وبلاد المسلمين ملتهبة من أقصاها إلي أقصاها، وتتعرض ليل نهار إلي حروب ضارية ومشاريع للإبادة وطمس للهوية، ونهب الخيرات وتزوير التاريخ وليّ عنق الحضارة والتراث، والتجارة في مشاريع الكراهة والإقصاء والأجندات الهدّامة التي تفني البشر وتهدم مباني الإنسانية وتجرم أصحاب الضمائر الحية أوترسلهم إلي قعر السجون وبرد المنافي ولفح الغربة.

فلسطين أصبحت تغرد خارج السرب ومنذ زمن بعيد بعدما تقاعست العرب عن نصرتها، وأفغانستان منسية، وتركستان محتلة، وبورما مغيبة، وشيشان ضائعة والدول الكبيرة معرضة للخطر والتمزيق!، كيف لا أسهر ولدغة عقرب الفقر تبكي المحرومين والشرفاء، وبراثن الجهل يتعرض للكادحين والسواد الأعظم من أمتي، وعصافير الجوع تزقزق في بطون البسطاء وسنوات الشقاء والكفاح طالت كسنين يوسف!.

كيف يفيض أحاسيسي بالجمال، ومشاعري تكون نابضة بالحب وأطفالنا يموتون في كل لحظة إما جوعا أوقلة المرافق الصحية في بلاد ترقد المعادن في بطونها وتطفح الخيرات في سطحها، أو تلتهمه المدافع وتمزق الرصاصة الغادرة جسده الطري ونفسه البرئية، ولايجد ما يسد رمقه أوتوفره أدوية للتطبيب أوالرغيف مع وفرة الكرامة وصون ماء الوجه وحمرة الخجل.

تحسين مستوى المعيشة والمشاريع الإنمائية والخطوات الإيجابية والموجات العمرانية والغزو علي الفضاء والمعرفة تكاد تكون معدومة في أجنداتنا وأولويات أوطاننا!، وهنا وفي عقر دار المسلمين يموت المسلم جوعا ويدك البرد عظامه علي الطرقات وجاره يأكل ويتجشأ ويشرب الغازات بعد الحوامض، ويأكل الفواكهة بعد الخضروات، واللحم المشوي بعد اللحم المفروم وشتى الأطعمة والأكلات, ولا ينظر ولا يلقي نظرة علي جاره وأهله, عقله ما يدخل في بطنه وتفكيره ما يخرج في دبره!.

نعيش في عالم منزوع الرحمة إلا ما رحم ربي، وأجساد الأيتام تشبه ألواحا زجاجية للرسم الفلكوري بعدما فقدوا آباءهم في هدير الظلم وأزيز المدافع، وطحنتهم العنجهية وغطرسة المتجبر والحروب العبثية التي تقودها الأنانية والجشع، ولم تجف الدموع عن مقلة الثكالى بعدما فقدوا فلذة أكبادهم وقرة أعينهم وريحانة حياتهم ومعيلهم، ورحل أنيسهم إلي العظمة والمجد والخلود وارتقت أرواحهم الطاهرة عند ربهم يرزقون .

والأطفال لم يفهمو سبب الغدر والمعاناة، عيون برئية تحتال الفقر ببسمة عريضة، وأجسام طرية ترك الواقع عليها جروحا لا تندمل، وزهورا في مقتبل العمر واجهو معترك الحياة بأيادي طرية وجباه ناعمة وعقول صغيرة، خانهم الحظ وأهداهم الزمن حيرة واضحة وصدور عارية لا تحمل سوى زي مهمل وقصبات الضلوع وأمراض فتاكه لا تجد أيادي حانية، وأماني جريحة، وربما بضع عبرات خبأتها الجفون لمآسي السنين وأحزان الزمان، وإبتسامة لا تستطيع الشفاه أن تحملهما إلي الوجود لأنها خالية عن طعم المرح والسرور الطفولي وآثار الفرحة والحبور!

 هناك فساد وعربدة بمسميات شتي رنانة، وفسق وفجور بأسامي جميلة، وقبح أخلاقي ولؤم نفسي كساها المجرم هالة من الجمال، وهناك نوادي ليلية للسكارى وأوكارا للإجرام وعنابرا للفاحشة، وموجات من الإغتصاب يكون ضحيتها غالبا فتاة في عمر الزهور إغتصبها الجن الأزرق، ولوّث سمعتها وطهرها شيطان أخرص أحمر العينين أسود النفس كث الشعر يده في الزناد وعينه علي الحرام وقلبه يحترق، وسكن الشر في سحيق قلبه وعشعش الإجرام في مختلف جسده.

ترك الرحمة ونزع في قلبه الشفقة!،  ينهب الأموال ويهدر الكرامة ويمزق العفاف ويقتل الأنفس ويعبث في الأرض فسادا!، ولكن إلى متى يواصل العربيد همجيته القاتلة وفظائعة المروعة وخطواته اللانسانية تجاه البشر والحضارة والدين؟ وإلي متى يواصل الإزدراء والتشريد والقتل الجماعي الذي يدفع البشر إلي الفناء والأرواح الطيبة إلى الأزهاق وذبول رحيق الأمة الوضاء وزهور الوطن؟.
أما آن للضمير أن يصحو والنخوة أن تحيا والشهامة أن تعود؟، والإنسانية أن تنتصر وتقوم من سباتها العميق, وتنفض العزة عن نفسها غبار السنين وأصداء الماضي لتقول: لا للظلم لا للقهر لا للإضطهاد لا للتميز العنصري لا للإهانة والديكتاتورية!؟

أم نظل عبيدا للبيادة والمجرمين، ومغفلين حيارى يطبقون الخمسة علي الإثنتين في دنيا الإجرام، وفي عالم ملتهب يقترب كل يوم إلي حافة المجهول والهلاك والرزايا؟
كيف نعيش في عالم لا يجد المظلوم من ينصفه، والجائع ما يسد رمقه، والخائف مكانا آمنا، والسجين إلي الحرية! في عالم كثرة فيه المصيبة والجهل وعم الخور في كل أصقاعه، في عالم يأكل القوي الضعيف وينهب الكبير الصغير، وأصبحت القوة هي السياج الوحيد التي تحمي الحمى وتصون الأعراض وتذب عن الكرامة وتؤسس منارة للحياة الكريمة والعيش الرغيد؟.

عجبي - ومن العجائب جمة- إلي أين تسير البشرية؟ ومن يستطيع قيادة العالم إلي بر الأمان وشاطئ السعادة؟ ولماذا أصبحنا حملا وديعا لا نتململ ولا نتذمر من كب الملح في جرح كرامتنا والعيش في هامش الحياة وفوق الصفيح الساخن؟، ولماذا نجعل كوكبنا الجميل بأفعالنا الشنعاء وتصرفاتنا الغبية أوكارا للإجرام وكهوفا للدعارة وفيافيا للإعدام وساحات للإبتزاز وعنابرا للقهر والضيم؟، متي نستفيق ونعود إلي الدروب الصحيحية والمسالك المنجية، والعقلانية في التصرفات والتخطيط، والإنسانية في التفكير الإيجابي والإدراك السليم، وإتخاذ القرارات المصيرية بتروي وتأني؟

وهل من المعقول أن في الألفية الثالثة وفي عصر النانو والمعجزات العلمية والتكنولوجيا والإكتشافات العجيبة، وفي زمن الغزو علي الفضاء والكواكب الأخرى، وسبر غور المحيطات والأجرام السماوية البعيدة، مازالت العنجهية تقود الجبابرة، ومازال الصلف والإستبداد يبرق أمام المتغطرسين، ويحثهم ليل نهار إلى إرتكاب مزيد من الجرائم والإبادات التي تهلك الحرث والنسل وتعدم الحجر والشجر ولا تترك الجغرافيا والتاريخ والماضي التليد!.
ومازال الأمم تواجه شبح الفناء والإنقراض والإحتلال، ويعم الخوف والكراهية ويرجع صدى الإغتصاب في كل حين وعلي مسمع العالم والأمم التي تدعي ظلما وبهتانا أنها تحمي الضعفاء وتنصف للبسطاء وتعيد النصاب إلي أهله وترجع الحق للكادحين.

ومازالت البشرية تعاني من التنكيل والإحتقار والإزدراء وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات ،وتقبع في الزنزاناة المظلمة بلا جريمة، وفي قعر السجون والمنافي بلا جريرة،ومازال حقها مهضوما وحقوقها مهدرة وكرامتها مهانة تحت كل سماء وفوق كل أرض!.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...