الجمعة، 11 أبريل 2014

الحلم الضائع (1)



إشتد البكاء وتصاعد الأنين الممزوج بالألم في البيت المجاور، وأرخي الحزن ظلامه وغيومه السوداء علي الأسرة التي أصبح بيتهم كهفا يسكنه الأشباح بعدما قادت الأمواج فلذة كبدهم بعيدا  في غياهيب المحيطات، واغتال الموت أملهم في وسط البحار. يقطر القلب دما قانيا مع الدموع المنهمرة التي تزداد مع مسيرة الزمن بهستيريا غريبة ودراماتيكية عجيبة، إجتمع الناس حول البيت يتسآءلون سبب البكاء في هذا الليل البهيم الذي أسدل الظلام خيوطه علي الكون، بعضهم جاؤ لتأدية واجب العزاء وبعضهم قادهم الفضول وحب الإستطلاع، حاول الجميع مؤاساة الأسرة ونسيانهم ألم الفجيعة المهولة، وفي وسط الذهول والنحيب تقدمت مُسنّة تتكؤعلي عصاها وتسير ببطء شديد تتهادى يمنة ويسرة، قبلت الحضور بوجه مستدير وبخصلات بيضاء تحمل أصداء السنين، وذاكرة قوية وبريق عجيب يشع عن عينيها المغمورتين بحواجبها المرخية قائلة:

(هنا وفي الوطن الملتهب والمدن الشاحبة الغارقة بالظلام الدامس والظلم المبين قوافل الفارين من قسوة الحياة وتقلبات السنين وجور الإنسان لا تنتهي أبدا، نملك وطنا معطاء وشؤاطئ نظيفة، وثروات إقتصادية كبيرة وموارد بشرية هائلة، وتقف مدننا بشموخ وكبرياء علي الساحل الجميل والغابات الكثيفة لشرق افريقيا، ولكن لا نملك عقلية تدير الوطن، وتأنّي نستفيد منه عنفوان الطبيعة والسواحل الطويلة والأراضي الزراعية الشاسعة، نتضور جوعا فوق البرك الملئية بالنفط والغاز الطبيعي، ونموت عطشا علي ضفاف الأنهار الجارية والمياه الجوفية التي لاتقدر ولاتحصى، وتغمرنا المياه ونموت فوق عرض البحر بحثا عن حياة أفضل، وتتكسر أحلامنا علي الضفة الأخري للمحيطات، ونتلوي ألما ويزداد جرحنا عمقا يوما بعد يوم.

في بيوتنا العامرة بالمآسي والقصص العجيبة يافعون مهوسون بالهجرة إلي خارج الديار ولو في الدول المجاورة التي تهدر الكرامة وتلطخ صفحة الإنسانية المشرقة فوق تربتها، وفتيات كعمر الزهور يتلفعن ظلال الحيرة والجنون إلي السفر، وشيوخ همتهم الفرار من أدران الجيحيم إلي بر الأمان وشاطئ السعادة مهما كان الثمن، وأولاد في مقتبل العمر يتسللون عبر الحدود والأسلاك الشائكة المكهربة والصحاري العتمور والفيافي والمفاوز إلي أرض الحلم والحدائق الغناء وحيث يجد الإنسان إحتراما يليق به.

أفلاذ أكبادنا يواجهون الموت بصدور مفتوحة وأجسام عارية وعيون برئية، وإبتسامة صفراء ماكرة في وسط البحار أو حافة الأدغال والأحراش المنتشرة فوق البسيطة، أوفي خضم الأمواج المتلاطمة بإصرار محير وبلادة مقصودة بقدر ماهي غريبة.

يهربون من سياج الحروب ومن بطش الأمراض وألم الفقر بأجسادهم النحيلة ونظراتهم الغارقة بالألم، ويضيع عمرهم بين أحلام شاخت وأوضاع مأساوية نام الجميع فوق نارها، ويموتون تحت برق الطمع وبريق الجشع، يقطعون الطريق والدروب الممتدة المتقاطعة والتي تطول فيها العبور ورفوف المشقة والأزقات الموحشة، ويشقون عباب الماء نحو ما وراء البحار وفي بلاد الضباب في موسم الهجرة إلي شتى الإتجهات الجغرافية، ينشدون الحياة علي أنياب المنية والحياة الكريمة في مخالب الموت!.)

تأثّر الجميع ورقرق الدمع عن عيونهم، وتذكر الحضور ورسمي الذي كان شابا قويا تتدفق فيه الحيوية، وبحر من الإبتسامات يضج بالجمال كالورود المتفتحة في عز الربيع، وطموحا يحضن أحلاما تفوق الخيال بعدما انهي دراسته وبتفوق كبير، ولكن أقرّ الجميع في لحظة صفاء نادر أن حظه كان سئيا جدا لأنه تخرج في زمن تذوب فيه القيم والمفاهيم الصومالية المجيدة في خضم المعارك والصراعات العبثية.

 الوطن يلتهب من أقصاه إلي أقصاه، وايام سوداء حزينة يمرها الشعب جعلت الحياة سيمفونية صراع متواصلة، لا أحد يستطيع أن يعيش حياة آمنة في ظل دولة صومالية قوية مهيبة الجانب توفر أساسيات الحياة لشعبها، فقدت الأمة بوصلة الحياة والتعايش السلمي والإحتواء العقلاني للأزمات، سادت الأنانية ومبدأ إلغاء الآخر والإستئثار التام للثروة والسلطة، قاد الجنون إلي إلغاء الشريك الذي ادى بدوره إلي إنهيار كامل للدولة ومؤسساتها ونهب كبير للحضارة وحتي للتاريخ والجغرافيا.

إنفجارات مدوية وأجسام مرتجفة وأشلاء متناثرة، وأصوات هادرة للرصاص و زخات للمدافع المرعبة، وأزيز الرشاشات الذي لا ينقطع في كل البلاد. قتلي وجرحي، أنين وصرخات، بؤر صراع ساخنة تتولد هندسيا في كل يوم بل في كل لحظة في طول البلاد وعرضه،سحائب من الحزن ورواسب من الأسى،هكذا كان أخبار الوطن قبيل تخرجه واحدة من الجامعات الوطنية المرموقة محليا بعد دراسة دامت نصف عقد من الجهد والمثابرة.

كان سمتر يطيل التفكير، وحالة الوطن واللون الشاحب للحياة والتيه الذي اصاب أمته يشكل كتبا مفتوحة يستقي منها أن الوطن يسير بطريق مجهول وبوتيرة متسارعة جنونية كسرعة الضوء في الفضاء، وفي ظل وطن شعاره النهب وإبراز العضلات علي المكلومين تبدو حياة البسطاء معادلة صفرية مع البقاء والتغلب علي أشباح الأسعار الفلكية.

قذفته الدنيا في الميدان العملي بعد الميادين النظرية التي تحتاج إلي صرير القلم ومداده، وحفيف الأوراق وعبقها العتيق والمذاكرة القوية. ببرآة الشباب وبحيوية المتخرج حديثا كانت أفكاره وتصوراته تأتي من الخيال وتعيش في وهم الشهادات وسراب الكفآءة، ولم يكن يدري أنه يعيش في وطن منهجه القطع والتفتيت، وأمة تغتال الأمل في رحم الغيب بحرفية كبيرة، وأن ميادين العمل والإنخراط إلي سوق العمل تحتاج إلي أشياء أخرى غير الشهادات الجامعية مثل القرابة والمحسوبية والوساطة والرشوة والفساد، والخبرات المتراكمة في شخصيته لاتسعفه هنا.

قلبت الدنيا له ظهر المجن، وتحولت حياته إلي درب من الأغنيات الحزينة، والحياة التي كانت تنتظره أصبحت رابية من الحرمان تشرف علي سهول من المعاناة، كل الأبواب التي ولجها من أجل تحقيق الحلم لقي منها إما إبتسامة خبيثة أوبرودة قاتلة أو ضحكة رمادية مائعة أومزيجا من الدعابة والسخرية، ورغم ذالك لم يحبط بل ضاعف جهده وبحث عن العمل وهو يعتقد أنه سيحقق الحلم الذي أقام في القلب مهما طال ليل السكون والسواد.
وعندما يحاول اليأس التسلل إلي قلبه يقنع نفسه أنه مهندس وقريبا ستفتح الدنيا له أبوابها، وأن المعاناة ماهي إلا سحابة صيف عن قريب ستنقشع، طالت المدة وتكسرت أجنحة الأمل وزاد الإحباط وحمل كل يوم من حياته تفاصيل أشد مرارة من الماضي ومعرفة أعمق لسلوك الشعب المتدهور.

لم يجد العمل في وطن رمال السياسة المتحركة أثرت توازنه وحولته إلي سجن ومنفى، صدمته الحقيقة والمأساة المتراكمة، وبدأ يدرس كل الإحتمالات والأفكار الجنونية تتصارع إلي عقله، كافح من أجل طرد الأفكار التي تقوده إلي متاهات وغربة قاتلة، ومن أجل التغلب علي هذا الأفكار ولكي لا يقع في حبائلها كان يغدو كل يوم إلي المدينة ويقف في كل زاوية يقرأ جميع الملصقات والإعلانات لعله يجد عملا يحفظ له ماء وجهه، ولكن أنيّ يجد وهو ينتمي إلي الهامش والطبقات الكادحة.

حاول سلك كل الطرق الممكنة التي تقوده إلي العمل وتحقيق أحلامه ولكن صدت الأبواب علي وجهه. وفي صباح يوم بارد أسند ظهره إلي الجدار فتملكه شعور بالعتاب من نفسه ومن المجتمع، لماذا لم أجد عملا يناسبني؟ لماذا لايقدر الشعب قدراتي العلمية وشهاداتي الدراسية؟، ولماذا لا أفكر تغير العقلية المتحجرة المتشبثة في الوطن؟ ولماذا لا أدرس خيار الهجرة إلي الخارج؟ ولماذا أخاف من المستقبل ومن كابوس الغربة.؟

إنظلقت من عيونه نظرة تأمل في اللا شئ،! نظر تجاعيد أمه أو بالأحرى تجاعيد الزمان علي جبينها الذي أجهده المرض وأنهكه التعب، تجاعيدها تعني له ألف حكاية وحكاية، ورقة عظامها تذكره بكفاحها من أجل هذا اليوم، تُرى ماذا تقول إذا استيقظت علي فجيعة الحقيقة؟ لطالما أنحنيت رأسي أمامها حبا وتقديرا.

نظر متحملقا إلي جبين أخته الغارقة في عرقها ومصارعتها مع الوجبة الغذائية وتجهيزها للأسرة بإخلاص الأخت وحبها اللاحدودي، حاول الهروب من الواقع إلي سحيق الذكريات ولكنها اشد وأوجع، تذكر والده الذي فارق الحياة قبل عقد ونصف من الزمن  قبل أن يكوّن لهم ثروة أو يترك لهم كنزا سوى نسب شريف متصل وطيبة يتذكره الجيران.

همس في أذن الزمن وراوده خيال جامح لإيجاد قطار الزمن السريع ولكن بإتجاه المعاكس، لم يجد قطارا متجها إلي الماضي ولم تسعفه المعجزات لأن زمن المعجزات إنتهى،! خانته الذاكرة وغابت الملامح وراء ضباب السنوات وخلف الدموع التي ملأت مقلتيه، قطع عن التفكير وعرف أنه يمر وقتا صعبا وظروفا مخيفة تتطلب شجاعة نادرة وتفكيرا عميقا.

نام ليلته ولكن لم يتنعم بلذة الكرى إذ الأعمار الضائعة بين أحضان العطالة والوطن الذي لا يرسم علي الجباه رسمة الحب، والليل الإفريقي الخانق والضباب اللطيف الذي يتدثر علي ظلام المدينة الدامس حرك كوامن سمتر، وأدخله في صمت كبير وفي حزن لاضفاف له.

وفي الصباح حاول إصلاح ماكينات الأحلام التي تعطلت فوق ربى الواقع الأليم فلم يستطع، فقادته رنة التوجع إلي العزيمة القوية للهجرة، وحثه الوضع علي تغيير الواقع وظهور شجاعة مبهرة في القرار، والتحمل بالنتائج ولو قادته المغامرة إلي مواجهة الموت في وسط عتمة البحار أو الصحراء المقفر أو الحدود التي لا يستطع المرأ مقاومتها ومجابهة اضرارها.

وفي محاولة أخيرة طاف كعادته جميع الشركات العامة والخاصة واشترى الجرائد النادرة التي تصدر في مدينته ولكن بدون جدوى، قصد ناحية البحر لتخفيف الهموم وسراب الإحباط الذي أحاط به كإحاطة السوار بالمعصم، وجلس امام المحيط الهادر والأمواج التي ترتعد بقوة يتحدث مع زميله ليبان عن مرارة الخيبات والأجفان التي لا تكتحل بالنعاس بسبب التفكير الدائم وطرق أبوب الأفكار التي تراوده بين فينة وأخرى.

حاول زميله تخفيف حدة الإحباط ووطأة الخنق بأن الغد أفضل لا محالة، وليل الظلم لا يدوم وتباشير الصباح قد لاحت في الأفق، ولكن سمتر لم يقنعه كلمات ليبان بل يعض شفتيه بعدوانية ويراقب الأمواج الهائجة بإمعان يستحضر المستقبل والمحيطات التي يجتازها لتحقيق أحلامه.

الثقة عندما تنهار لا تعود أبدا والإنسانية المعذبة في بلدانها التي تعتصرها الألم كآلات موسيقية تتكلم، وتتقاذفها أمواج الغربة الموحشة في داخل الوطن والشعور القوي للظلم أشد وانكي من رحلة مجهولة العواقب ومحفوفة بالأخطار المحدقة مع الحيوانات الهلامية والقواقع وقرش البحر، ومواجهة المنية في وسط عاصفة بحرية وزوابع رعدية قاتمة كخرائط للأنين.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...