الأحد، 25 مايو 2014

فكرة خالدة...عامان من الكرامة والإنسانية

الفكرة الجيدة هي التي تؤسس للعلم والحياة منارات مضيئة تهتدي بها الأمة التي تعاني من الجهل والتيه والفساد المزمن، والخنوع وعدم الإستقلالية والرضوخ إلي البلاهة المقيتة التي تخطّت كل الحواجز المعقولة إلي الحيز اللامعقولة، والتبعية البغيضة التي دخلت في كل الميادين والأصعدة، والتزوير الكبير والنهب المخيف الذي طال كل المقدّرات والمقدّسات، والتشويه المعتمد لكل ما يدعوا إلي إحترام الإنسان وحقوق الآخر وتوقير الوطن، وإلي الحرية والتنوير المعرفي والفكري والإبتعاد عن إغتيال الذات وتشويه الآخر أو التصرفات الغبية التي تنم عن سفالة وجهل، والإستقلالية الكاملة ليس في الأوطان فحسب بل حتي في الأفكار والأشخاص والمجتمع الذي يخاف مواجهة الواقع بكل تجلياته، ويحجم عن طرح آرائه بمجرد أنها صادمة وغير مألوفة، أو أنها صريحة بطريقة يعتبر المهزوم نفسيا أنها فجّة ولا تتماشي مع الواقع المؤلم ووحل الحاضر.

وهذا التفكير القاصر والأسر الفكري ناتج عن سنوات عجاف من الخوف المتراكم والإرهاب النفسي والعضوي والشلل المعرفي الذي أحجب عن أعين المجتمع الرؤية الحقيقية للوطن والمواطنين، وزرع في خبايا النفوس جبنا وخوفا وتقهقرا ونفاقا من الدرجة الأولي، وأعتقد تغيير هذا النمط السئ وغيره من الأنماط الضارة للحياة، وتوجيه البوصلة نحو الأصوب ونحو التفكير الحر والرشد الأخلاقي قبل السياسي، وإشادة الجنود المجهولة التي تمسح عن جبين الإنسانية الخيبات المتتالية التي سببها الأغبياء، ومحاربة الفاسدين ولو عن طريق القلم والفكرة وفضحهم علي رؤس الأشهاد هي التي أوجدت الفكرة ووحّدت الشباب الثائر، ومن أجلها أيضا رأت المدونة النور و "فكرة خالدة" أصبحت شعارها من أجل الإنسان ندون .

لقد تعلمنا عن سنوات الضياع والتشرد والحروب العبثية أن ندفن الروس في الرمال خوفا من الحقيقة أو هربا من الألم النفساني والجسدي المترتب علي الحقيقة ذاتها، وأن نتجاسر عن بوح الحقيقة وكتابة المعاناة وإشارة المجرم وشجب تصرفاته وأن نقول لظالم ياظالم وبمل فمنا وبرأس مرفوع، وتعلمنا أيضا الّا نبرز المشكلة للجهات المعنية ومن بإستطاعته أن يغير الواقع المؤلم، مما مهّد للمشكلة أن تطول والجرح أن يتعفن ويسيل القيح والصديد من جرح كرامتنا النازف علي امتداد الوطن وفي ربوعه، وفي خضم التيه والتبعية المشينة إبتعدنا عن الصراحة التي يعتبر في الوسط الصومالي جريمة وقلة أدب إن لم تكن جريمة تتطلب عقابا رادعة وتأديبا مؤلما، حتي لا يفكر الإنسان السوىّ طريقة مثمرة وجادة صائبة لإحتواء المآسي وحقن الدماء ورسم الإبتسامة بدل الدموع والبناء بدل الدمار وتشوبه الجغرافيا وترميم التاريخ بدل تبصيقها أو تشريح جثتها من أجل الفساد وإحياء النعرات وإذكاء نار الفتنة.

وهذا لا يعني إطلاقا وبأيّ حال من الأحوال أنني موافق لكل ما في المدونة من آراء وأفكار وطرح وتحليلات وكتابات، بل تتقاطع الأفكار وتتصادم الأذواق وتختلف الأفهام والأهواء، ولكل شخص مدرسته الخاصة في الحياة وحبه السرمدي، وطريقته المتبعة في تحليل المواضيع وتناول الأحداث وكتابة الوقائع، واختلاف الآراء لا يفسد للود قضية، والزمالة في عالم التدوين والكتابة، وإحساسنا العميق للثغرة التي صدتها هذه المدونة، والمكان الشاغر الذي ملأته الفكرة، والشباب المتسلح بصرير الأقلام وحفيف الأوراق وقلوب مفعمة بالإيمان والحب والحيوية، وعملنا وأفكارنا تتطلب يا سادة أن نقول أحسنت للمحسن وأسأت للمسئ.

شباب "فكرة خالدة" بكل أشخاصهم ومسمياتهم الغامضة والطريفة معا يمثلون شعلة وطنية تضئي الدروب بقدر ما هي تحرق أوكار الفساد والمحسوبية والزيف، وأبدعوا أيما إبداع ـ في نظري علي الأقل ـ في طرح أفكارهم وكتابة خواطرهم وتقديم نظرتهم للواقع وللحياة بأسلوب فكاهي ساخر متجرد عن الجهوية أوالقبلية، وبمنظور ثائر يجمع ما بين جزالة الكلمات وسلاسة الحروف وعمق الحوار والفكرة الصائبة والرأي السديد، وكأن لهم من إسمهم نصيب، حيث أصبحت مدونتهم وفي غضون سنتين من أهم المدونات الصومالية ومن أكثرها قرآة وتصفحا وصدقا وموضوعية مهما كان الموضوع متشابكا وخطيرا في نظر الإنبطاحين والمنهزمين قبل المشوار.

والدروس التي نستفيد من المدونة هي أن الإرادة القوية والعزيمة الفولاذية لا تعرف المستحيل بل توظف المشاكل والهزائم لصالحها وتستثمر الأقلام الضائعة وأفبداع الذي يعاني من الإكبات والإنغلاق نحو الطريق الصحيح، وأن الجيل الصومالي الذي نشأ في أروقة الحروب والدمار والترهيب المقنن وفي حضن التشريد والأوكار الإجرامية والعادات الصارمة والتقاليد التي تحارب الإبداع وقول الحقيقة، خرج من المعمعة كالمارد سليم الذوق كامل الوعي وافر الكرامة ومتسلح بكمية هائلة من التجارب المتراكمة والأيام والحوادث التي تصقل الأذهان وتشحذ الهمم رغم الصغر والحداثة النسبية لأعمارهم.

لقد أسسو مدرسة قائمة بذاتها تنتهج الصدق والكشف عن الفساد وتهدف إلي الحيادية والموضوعية، وتناول الأحداث بعيون صومالية جريئة لا تخاف من أثرياء الحرب وأغنياء الصراع ولا مصاصي الدماء وسفاحي كرامة الوطن وهيبة المواطنين، وممن يكبون الملح في جرح الكرامة ولا الوسط المعفن، وهمّة عالية لا تتكاسل ولا تتواني عن طرح الأفكار والبديل المحترم، وبطريقة لا يخلو عنها التذمر والتمرد عن الواقع المرير الذي يحارب الجمال والإنسانية، ويفرض عن العقول سياجا صلبا يحارب العلم والتفكير والتطلع إلي ما بعد هذا السياج الكريه، والهروب من الكبت المتواصل الذي نتج عن تصرفات القادة الصبيانية الذين لم يستحقوا أن يديروا قرية صغيرة في جمهوريات الموز ناهيك أن يقودو الأمة وأن يجلسوا فوق أعلي الهرم والكابينة الرئيسة للصومال بكل تاريخه وأيامه الخالدة.

وأعتقد أن الأسماء المستعارة التي تشئ بذوق رفيع ونظرة ثاقبة ولباقة في التعامل مع الشأن الصومالي المأزوم أصلا الذي تحيطه المصالح وتتقاذفه الأهواء والآراء، إضافة إلي ثقافتهم العالية وحسهم الوطني الكبير، أتاحت للشبّان أن يكتبوا ما يدور في خاطرهم بأريحية كبيرة وطيب خاطر، ودون الخوف والرهبة من الحاضر، أو تدوير الكلام الذي يفضي إلي اللاشئ، ودون أن يلبسوا أقنعة النفاق والمكياج السياسي للكلمات والجمل، والدّجل الذي يفبرك الوقائع ويزيّف الحقائق ويجعل الكلمات جملا ضبابية سديمة المعني مهترئة المضمون وبالوعة من الحروف لا تحمل سوى هرطقة ساذجة وإعادة تدوير الفشل، ومراهقة سياسية لا تقدم الحلول ولا تشرح الحاضر ولا تتعظ بالماضي بكل تراجيديّاته وألامه.

كل عام و "فكرة خالدة" تسقينا كؤوس الإبداع أصنافا، وكل عام وشباب الفكرة بألف خير، ودمتم أحبابا يحملون إسم العاصمة الحزينة التي تسيل المداد من أجل مستقبل مشرق، وركلات موجعة تركل التزيف، ومكنسة سحرية تكنس الفساد، وأعاصيرا جنوبية تقلع جذور الخوف والرهبة في قلوب الشعب، ومصباحا يضئ الدروب، وأرض واسعة يستطيع الجميع أن يعشو في مناكبها شركاء متساويين.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...