الجمعة، 29 نوفمبر 2013

العلاقة الصومالية السودانية (2-2)

العلاقة السودانية الصومالية في تاريخها الطويل كانت ـ ولاتزال ـ علاقة حميمية تتسم بالود والإخاء والحب والسلامة، ولم تكن العلاقة بين القطرين الشقيقين يوما علاقة إنتهازية مبنية علي المصالح الآنية والأهداف المشبوهة، ولم تكن أيضا علاقة جديدة أو وليدة اللحظة بدأت في العصر الحديث، بل هي ضاربة في جذور التاريخ وموغلة في صفحات الماضي، وكانت متواصلة مهما كانت العقبات كثيرة والعوائق مختلفة، ولم تشهد أي توترات في مسيرتها الطويلة بسبب التقارب الوجداني والإنتماء الديني الموحد والتقارب الفكري والتآلف الثقافي والتشابه العرقي، وكانت دائما علاقة بين بلدين وشعبين شقيقين بادلا الحب بإحترام، والثقة بالإخوة الصادقة والتكامل، سواء كان دينيا أو إقتصاديا وحضاريا.
والسودان في تاريخه الحافل بالإنجازات والتضحيات من أجل الإخوة الإفريقية والعربية، كان يشكل رافدا معرفيا كبيرا للصومال، وحقل تعليم يضخ في الصومال عقول سليمة وسواعد متعلمة تساهم  تحريك عجلة الوطن إلي الأمام، ولاغرو فقادة السودان في اختلاف مشاربهم وأفكارهم كانوا دائما رواداً يبعثون الأمل في القلوب وينظرون إلي الدول المجاورة بعين الرحمة، والشعوب الصديقة بقلوب دافئة تتدفق منها الحب الذي يغرس روح الأخوة بين الشعوب، مما جعل السودان دولة جبيبة في كل القلوب وفي كل العصور.
والبعد المهمل والمهم في رأي في العلاقة الصومالية السودانية، هو العلاقة  القوية والتشابة المثير بين الحركات التحررية وقادة النضال التنويري والفكري بين البلد ين، ومن الدلائل الواضحة في هذا الشأن  أن المناضل الكبير والمجاهد النحرير السيد محمد عبد الله حسن الأب الروح لإستقلال الصومال والمشعل الحقيقي للشرارة الأولي من المقاومة  الصومالية التي واجهها الشعب الصومالي ضد المحتل، زار السودان ونزل عن ميناء سواكن شرقي السودان، وتفقد علي أحوال المرابطين هناك، ولقي الإمام المهدي أيقونة ورمز الإحياء الأخلاقي والديني في السودان، وشرح نواياه الصحيحة وطويته لإقامة العدل في الصومال ودحر المحتل وأذنابه، فكانت تجربة ثرية وزيارة ملهمة إستفاد السيد والدرويش عنها كثيرا من تجارب المهدي وحنكته السياسية ورشده القيادي وحكمته وعلمه الغزير، ومن نافلة القوم أن نعلم أن السيد محمد والإمام المهدي نهلا من معين الطريقة الصالحية وارتويا من  علمها الصافي المدرار رغم إختلاف إسم الطريقة بين القطريين.
ولم يقتصر التشابه السوداني الصومالي في السياسية والتاريخ والنضال المشترك ضد الإنجليز والجرأة وعدم الخنوع  والملامح المتشابهة والسحنات الموحدة، بل شمل التقارب والتشابه جميع أنواع الحياة وشرائح المجتمع مثل الفن والفكر والأدب، حيث يجد المرأ صعوبة كبيرة في التفرقة بين الفن الصومالي الذي يصف كل شئي حتي خرير الماء والذي يعطر الأجواء بنسماته الندية وأهازيج الأنس وزغاريد الفرح، والفن السوداني الذي قدم للقارة الإفريقية وللعالم قامات فنية ذات إمكانيات صوتية مدهشة، والدليل علي ذالك يصعب التفريق بين  قيثارة الكابلي فنان السودان ونغمها الخالد وهو بغوص درر السودان وتراثه الحضارية ويتبحر في العالم الفسيح في أغنيته الشهيرة "أنشودة افريقيا وآسيا" وبين  أورغن عمر طولي(cumar dhuulle) وهو يعزف علي عوده ويردد أغنيته الشهيرة(nabaddu waa qaali) "السلام غالية" لتشابه الإيقاع والنغمات وبما فيهما من مناجاة شجية ومشاعر وطنية ورومانسية حالمة، تجعل فنهما بانورامة غنائية يومض في الأفق تترك بصماتها علي أركان قلوب المشاهدين، ونفس الشئ قد لا تفرق بين حنجرة تبيع(tubeec) وأغانيه الوترية ذات الكلاسيكية الرائعة التي تحمل دوما فيوض عامرة من المحبة والوفاء، وبين نغمات عندليب الفن في السودان وهو يردد أغنيته الشهيرة " صوت المساء" ذات النغمات المتسارعة والحركات الرومانسية الرشيقة.
 وكلنا نعرف أن الفنان الإنسان سيد خليفة كان معشوق الجماهير الصومالية، وحبه للصومال وتراثها وتاريخها وغنائه للشعب الصومالي في المسرح الوطني في مقديشو، وحفلاته الفنية ونثره نسائم الحب في قلوب سامعية جعلته إسما لامعا، بل كان بمثابة همزة الوصل وحبال المحبة الذي يربط بين الشعبين، وكانت كلمات العشق في قلوب محبيه وسحر صوته الجهوري ذات التراجيع الذهبي قوة دافقة إستحوذت علي الأسماع والمشاعر وأذهان الجمهور، ولم يقتصر سيد خليفة في الغناء وإحياء الحفلات القرمزية فحسب بل واصل رحلته الجميلة لتآخي الشعوب وقدم الفنانة المبدعة مغول(magool) أو حليمة الصومالية كما يطلقون عليها الإخوة السودانينإلي الشعب السوداني، لتغني في المسرح الوطني السوداني في أمدرمان باغاني تنسج في كل صفحة قصة حب حميمية وملئية بمجبة الشجن الصافي وشذى الألحان، وقامت بقامتها الهيفاءة الرشيقة في وسط المسرح واستقبل الجمهور بحفل ساهر واصلت مسراتها حتي ساعات الصباح الأولي وفاح طيب شذاها في نسمة السحر.
وكانت بإمتياز صباح سودانية مطرزة بالموسيقي الصومالية الشجية، ولقد نالت أغنيتها المشحونة بالحب والجمال رضي الجمهور، وألهب التصفيق أكف المتابعين، فأصبحت في السودان معشوقة الجماهير يردد كلماتها الطرية الصغير قبل الكبير، لتكون الأغنية جسر تواصل ويكون الفن رائد التقارب بين الشعبين وجدانيا وفكريا.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...