الجمعة، 27 ديسمبر 2013

من وحي الخيال (1)



في مساء هادئ لبست الأرض أبهي حللها ورمت السماء اللون الغامق عن صفحتها وكبّت دموعها الذهبية علي حبات الرمل الحريرية وبلل رذاذ المطر أكاليل الورود في جنبات الطريق وواجهات المباني الأنيقة، خرجت من بيتي الواقع جنوب محطة الكهرباء علي بعد ساعة ونصف من قلب المدينة، وساعتين من المطار، مسافرا إلي خارج الوطن، وتحديدا إلي المانيا درّة أروبا ومصنع الغرب وأرض العباقرة وموئل الفلاسفة والمنارة التي لا تخبو نورها ولا ينطفئ شعاعها العلمي والأدبي والفلسفي علي مر العصور.


تعودت زيارة ألمانيا في الإجازة لما تملك من التراث والتاريخ ما يجعلك مبهرا ويحبب إليك الحياة في ألمانيا، هنا عبق الفلاسفة أمثال نيتشه وكانظ وانجلز ما زال فواحا ينعش القلوب، وجدلهم المنطقي مازال مزركشا في أروقة الكتب والمكتبات، وفي كل مرة كنت ضيفا علي زميلي في الطفولة عبد الله جيدي الذي يملك قصرا واسعا في إحدى ضواحي برلين، سافرت بأغراض خاصة وأمور شخصية ذات أهمية قصوي في حياتي، ولم تكن مدة السفر أكثر من ثلاثة أسابيع، لذا كنت وحيدا في رحلة الجمال.

غادرت البيت نحو الشمال، وقبل وصولي إلي الكلية العسكرية التي تقع شمال المطار تراء لي مظهر عجيب ومشهد خلاب أنعش الذاكرة وأسعد الوجدان، حيث زرقة السماء المطرزة بالغيوم تتشابك بزرقة المحيط وتعانق الأمواج المتلاطمة بحرارة ودفء يشبه معانقة المحبين بعد غيبة طويلة، وخضرة الأشجار تلتحم مع بياض السحب لتبدوا المدينة وكأنها في كرنفال بهيج، ولتكوّن الطبيعة لوحة سريالية لم تبدعها بعد ريشة البشر.

أثناء الطريق وقبل وصولي إلي المطار لم يحدث ما يثير إنتباهي أو يعكر صفو السفر، ومن الأشياء التي تسهل السفر وتخف مشاكله في السنوات العشرة الأخيرة هو أن تأشيرت السفر من الصومال إلي معظم بلدان العالم سهلة ةميسرة بعد النهضة الإقتصادية والطفرة النوعية في الصناعة والمجال العسكري وتطوير قطاع الخاص، وتحسين التعليم وإعداد مناهج متقدمة تساهم رفع كفآة الطالب وتفتق الذاكرة وتشجع الإبداع وتخارب التلقين والروتيتية في الدراسة، وبعد مجانية الصحة والضمان الإجتماعي للأسر والأفراد.

وصلت إلي مطار مقديشو الدولي الذي يعتبر رابع مطار في العالم من حيث الزحمة وكثرة الأساطيل الجوية، حيث أزيز الطائرات لا تنقطع أبدا، والموجات البشرية تنساب كالماء أفرادا وجماعات، وتشير الإحصائيات الرسمية أن كل عشرين ثانية تهبط وتقلع طائرة، دخلت من البوّابة الرئيسة للمطار هالتني الأناقة المفرطة وسلاسة العمل وحيوية المطار وجذابية وتهذيب الموظفين، قصدت ناحية لافتة بارزة كتب عليها عبارة "للصوماليين فقط " omaaliday ugaartahay"، وقفت بالصف حيث كان أمامي تسعة أنفار من بينهم فتاة كمثل الزهور يزينها الإحتشام والسكوت ويزيد جمالها حياء أنثوي تقليدي، ونضارة جسمها وعينيها ونظرتها القاتلة تنبؤك أنها من صميم الملكات الصوماليات بالأصالة.

 كان أمامي رجل خمسيني صومالي الملامح رغم تشابه الملامح في الشعوب التي تقطن في شرق قارتنا الجميلة، طلعته البهيو وإبتسامته الجميلة وحديثه الرائع إضافة إلي الخلق النبيل والتجارب المتعددة للرجل جعله محور الناس وتجمع الناس حوله، كان يتمتع بروح الدعابة والمرح وخفة الدم، أحببت بساطته المتناهية وصدقه وبراءته الظاهرة في التحليل، وددت ان لو كنا نسافر نفس الطريق ونفس الخطوط، ولكن مع الأسف لم تحقق أحلامي حيث كانت رحلته أداء العمرة وقضاء وقت طيب في دوحة الإسلاك وحدائق الإيمان في رحاب الأراضي المقدسة ودخول جو روحاني يتفرغ الإنسان إلي عبادة رب العباد بعيدا عن الدنيا وشهوتها.

أنتظرت ربع ساعة تقريبا قضيتها بقراة رواية حديثة كتبها روائي صومالي مشهور أصبح حديث الناس في المشرق والمغرب، ومن المفارقات أن الكاتب أصدر أكثر من عشرين رواية وقصة ناجحة أقل من عقد، ونال معظم الجوائز العالمية التي آخرها أغلي وسام للرواية في العالم التي تمنحها المؤسسة الصومالية الوطنية للإبداع والتأليف التي يقدر جائزتها ب 4.6 مليون شلن صومالي علما بأن 1شلن ص = 3.2 دولار أمريكي، أكملت إجرآت السفر ودخلت صالة فاخرة للإنتظار، وبعد لحظة كنا علي متن الخطوط الجوية الصومالية التي يعتبر من أكثر الخطوط سلامة وأمنا، حيث طبقت قبل سنوات جميع معايير السلامة سواء كانت سلامة الأسطول الجوي أوالمدارج التي تهبط وتقلع منها، أو الطاقم الفني والإداري لها.

كانت بجانبي سيدة في منتصف عقدها الرابع علي ما أعتقد، سحنتها ترشدك إلي الشعوب الجميلة في شرق آسيا، مهذبة إلي أبعد الحدود وتوزع الإبتسامة الساحرة للركاب، ملامحها الدقيقة تقول أنها من اليابان ومن أحفاد إمبراطور اليابان العظيم حينمو ، زارت الصومال بحثا عن فرص عمل أفضل من بلادها وتحسين مستوي المعيشة، ومن حسن حظها أنها وجدت وظيفة معقولة ومرموقة في القطاع الخاص براتب 32 الف شلن صومالي.

بعد التحية أرهقتني بلطفها وإبتسامتها الصادقة وحبها للصوماليين وطبيعتهم الودودة وحفاوتهم الكبيرة للضيف، وسردت مزايا الصوماليين وودهم للإنسان مهما كان إنتمائه وأفكاره، كان وصفها للسحنة الصومالية وعشقها للون الأسمر شئيا رائعا يدخل السرور في الأعماق ويعجز قلمي عن وصفه، وفي خضم حديثنا الشيق الذي طاف بنا كل أركان الوطن وعاداته وتقاليده العريقة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ذكرت الأكلات الشعبية الصومالية وأنها تجيد طبخ معظم الوجبات المفضلة للصوماليين بإتقان كبير.

ونظرتني بعفوية مقصودة وكأنها تقرأ قسمات وجهي فنهدت ثم قالت: ورغم قصر قامتي نسبة للممشوقات الصوماليات إلا أني حاولت تقليد الصوماليات ولبس ملابسهنّ، ولكن بأمانة هي مهمة مستحيلة وصعبة للغاية، إبتسمتُ وقلت لها بصيغة إستفهامية غامضة: رغم حب العالم الهجرة إلي الصومال سعيا للعمل والحياة الكريمة إلإ أن الصوماليين يقابلونك بوجه طلق وابتسامة عريضة وودية مفرطة؟ فهزت رأسها ومالت إلي الشباك وأستلقت فوق كرسيها الوثير تواجه الأحلام وربما التجول علي أرجاء اليابان والتسلق علي سفح جبل فوجي الهادئ.

تحمست كثيرا لسماع كلمات " كوانسكي انو" وأبعد إطراؤها الشديد شبح النعاس عن جفوني، وبدّد غفوة كانت لابد أن تغمض عيني وترسلني إلي عالم الأحلام ودنيا الآمال، قطع حديثنا الطروب وهمساتنا الشاعرية صوت المضيفة الأنيقة وهي تقدم الشراب الطازج ومياه الشرب وبصوت ناعم كأنه ترانيم عشق أو كخرير المياه في الجداول والترعات المنتشرة علي أكتاف نهر شبيللي.

جاءت المضيفة الآسرة وهي تقدم للركاب مائدة شهية لم أرى في الطائرات أطباقا مثلها في القيمة الغذائية والصحية والمعايير المتبعة في إختيارها، أطباق من الخضروات والفواكه وعلبات للبن الصومالي الأصيل، وفطائر وأطعمة خفيفة ومشروبات غازية وأشياء روتينية يمارسها جميع الخطوط الجوية.
لم تكن شهيتي مفتوحة للأكل ولا النظر لجمال الفضاء الذي نسبح في عمقه الصافي، بل كانت مفتوحة لإستعادة الذكريات الغابرة وزرائبها الماضية، وسماع الحكايات وقراءة القصص والمجلات الصومالية المتنوعة ـ الأدبية والعلمية والثقافية والدينية ـ.

مددتُ يدي لأتناول مجلة مركونة علي جانبي بأناقة مفرطة، شدت إنتباهي لعناوينها وصورها المطبوعة في الغلاف والمواضيع التي تناولت المجلة في عددها الجديد، كانت المجلة من أقدم وأعرق المجلات الصومالية ويرجع تأسيسها في القرن الماضي،تركزت المجلة تقديم الإحصائيات والأرقام وبراءة الإختراعات التي تعلق بالصوماليين، وكم صومالي يحرز تقدما أو نبوغا أو إكتشافا أو نال جائزة عالمية في هذا العام.
فتحت المجلة وطالعت في الصفحة الأولي خبرا أثلج صدري وزاح غيمة كبيرة عن نفسي وتمايلتُ طربا بقرآته ،والأخبار والحكايات التي ترتاح النفس إليها من أهم ما يخفف عناء السفر وإن كنتً علي متن الخطوط الجوية الصومالية بفخامتها وروعة خدماتها وسلامة سجلها التاريخي.

بدأت تصفح الجريدة بنهم شديد وفي اللحظة الأولي ربطني خيط خفي لجل سطورها وحروفها، والرائحة العطرية للأوراق حملتني إلي شواطئ الوطن ونسمات الصباح السحرية في التلال وهامات الربى وعبق الأنهار والأعشاب المرتعشة في سهول الوطن، قرآتها بتمعن وتركيز شديد، حيث يعتبر كل سطر بل كل حرف تاجا يومض في هامة الصوماليين، حيث جمعت المجلة الصوماليين الذين نالو جوائز عالمية في تخصصاتهم أوهواياتهم، من بينهم محمد جوليد ورسمة الرحالة الشهير الذي نال خمسة جوائز عالمية في هذا السنة، ومن بين المذكورين في المجلة البرفيسورة فاطمة وعيس فارح عميدة كلية الطب في الجامعة الوطنية التي أصدرت بحثا رائعا عن أمراض الأطفال وابتكرت طرق جديدة لعلاج الأم والطفل.

ولا أنسي الكاتب الكبير صاحب الروائع والقلم السيال الأستاذ كامل شرماكي علي الذي أتحف المكتبة الصومالية بروائعه الشعرية وإصداراته الأدبية وأبحاثه الجميلة التي شملت الأدب والفن والفكر والفلسفة، والبرفيسور أمين دوؤد قاسم المتخصص في الفيزياء النووي والأب الحقيقي للنووي الصومالي الذي أنتج قبل عقد ونصف في المنشأة النووية iskufilan الواقعة في جنوب الصومال.

كما تناولت المجلة وبأسلوب سردي جميل تاريخ الحضارة الصومالية العريقة وتراث الشعب القديم،وأخيرا  المجلة أوردت في الفصل الخامس أن فرقة fandhowr الغنائية شاركت قبل شهر بكرنفال ثقافي عقد في الهند، نالت المركز الثاني بعد منافسة شديدة بينها وبين الفرقة الوطنية الجيبوتية الشقيقة.

قرأت المجلة وكلي شوق وحماسة لسطورها وحفيف أوراقها وعبق المداد زاد إهتمامي لفصولها وأقسامها وأبوابها،ورافقت أناملي صفحات المجلة ما يقارب ساعتين لم أشعر ومرت علي كلمح البصر.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...