الأربعاء، 30 أبريل 2014

إستقالة عطوان والسّديري...وغربة الصحافة*

لايوجد شئ أصعب من فراق من بات مألوفا لديك وتحاول معه كل لحظة تناسي الهموم والهروب من معاناة الحياة إلي جمالية الكلمات وبهاء الأحرف والإيقاعات الشجية لصرير أقلامهم وحفيف أوراقهم، والإحتماء بقلبه الرحب وهروب الغموم بقلمه الوفيّ للوطن وكلماته الحامية حمى الجغرافيا، وضميره المستيقظ لصيانة التاريخ وحفظ أحداثها وسجلاتها الخالدة وصفحاتها الناصعة البياض وسطورها الكريهة والقاتمة في بعض الأحيان.

ولا توجد أصعب من مفارقة من تتحدث معه يوميا، وتفضفض في رحابه علي وقع الأحزان والأسى، بل وتناقش معه الأحداث ولو بالخيال ويشاركك في تجاربه في الحل وفي الترحال، ويوميات حياته الملئية بالعظة والعبرة والتجارب المتنوعة، ويكتب لك تنقلاته وتاريخه، ويحل ألغاز الزمن ويخوض دهاليز الحب وردهات السياسة بقلم جرئ بقدر ماهو جميل، وقلب جسور وإحساس مرهف ونظرة ثاقبة للأشياء وللأحداث، ويرسم وجهك ضحكة عابرة أو إبتسامة خالدة أوقهقهة مسائية مترعة بالبهجة والحبور بأسلوبه الرائع وإختياراته الموفقة وتراكيبه المنمقة وبعباراته ذات الموسيقي الشجية والنغمات الوترية التي تطفح السرور علي أركان الجسد، والنشوة في ردهات القلوب القانية وتغلي الدم في العروق كصورة بانورامية أنيقة تشبه لوحة رسمتها ريشة فنان مبدع. .

صدمتُ حين قرأت علي مضض خبرين في غاية الحزن والأسي علي الأقل في نفسي الضعيفة التي لا تقوى وداع الأحبة وتقطف الحزن في حديقة الوداع، وتذرف الدموع لذكري الأصدقاء ممن ترجلوا عن دنيانا إلي دار البقاء، أوممن فرقنا الزمن وأبعدني النوى عن جنابهم والإيناس في حضرتهم، ويزيدني مرور زرائب الذكريات وطيف الأصدقاء القدامي علي طرقات ذاكرتي الموغلة في الكلاسيكيات القديمة الرابضة في سحيق الأصالة المتمسكة بكل ماهو قديم أمثال كلاسيكيات روك هودسون الملئية بالحب والإخلاص والوفاء في زمن الغدر والغطرسة والتكبر، شجنا وولهاَ وتعلقا.

الجمعة، 11 أبريل 2014

الحلم الضائع (1)



إشتد البكاء وتصاعد الأنين الممزوج بالألم في البيت المجاور، وأرخي الحزن ظلامه وغيومه السوداء علي الأسرة التي أصبح بيتهم كهفا يسكنه الأشباح بعدما قادت الأمواج فلذة كبدهم بعيدا  في غياهيب المحيطات، واغتال الموت أملهم في وسط البحار. يقطر القلب دما قانيا مع الدموع المنهمرة التي تزداد مع مسيرة الزمن بهستيريا غريبة ودراماتيكية عجيبة، إجتمع الناس حول البيت يتسآءلون سبب البكاء في هذا الليل البهيم الذي أسدل الظلام خيوطه علي الكون، بعضهم جاؤ لتأدية واجب العزاء وبعضهم قادهم الفضول وحب الإستطلاع، حاول الجميع مؤاساة الأسرة ونسيانهم ألم الفجيعة المهولة، وفي وسط الذهول والنحيب تقدمت مُسنّة تتكؤعلي عصاها وتسير ببطء شديد تتهادى يمنة ويسرة، قبلت الحضور بوجه مستدير وبخصلات بيضاء تحمل أصداء السنين، وذاكرة قوية وبريق عجيب يشع عن عينيها المغمورتين بحواجبها المرخية قائلة:

(هنا وفي الوطن الملتهب والمدن الشاحبة الغارقة بالظلام الدامس والظلم المبين قوافل الفارين من قسوة الحياة وتقلبات السنين وجور الإنسان لا تنتهي أبدا، نملك وطنا معطاء وشؤاطئ نظيفة، وثروات إقتصادية كبيرة وموارد بشرية هائلة، وتقف مدننا بشموخ وكبرياء علي الساحل الجميل والغابات الكثيفة لشرق افريقيا، ولكن لا نملك عقلية تدير الوطن، وتأنّي نستفيد منه عنفوان الطبيعة والسواحل الطويلة والأراضي الزراعية الشاسعة، نتضور جوعا فوق البرك الملئية بالنفط والغاز الطبيعي، ونموت عطشا علي ضفاف الأنهار الجارية والمياه الجوفية التي لاتقدر ولاتحصى، وتغمرنا المياه ونموت فوق عرض البحر بحثا عن حياة أفضل، وتتكسر أحلامنا علي الضفة الأخري للمحيطات، ونتلوي ألما ويزداد جرحنا عمقا يوما بعد يوم.

في بيوتنا العامرة بالمآسي والقصص العجيبة يافعون مهوسون بالهجرة إلي خارج الديار ولو في الدول المجاورة التي تهدر الكرامة وتلطخ صفحة الإنسانية المشرقة فوق تربتها، وفتيات كعمر الزهور يتلفعن ظلال الحيرة والجنون إلي السفر، وشيوخ همتهم الفرار من أدران الجيحيم إلي بر الأمان وشاطئ السعادة مهما كان الثمن، وأولاد في مقتبل العمر يتسللون عبر الحدود والأسلاك الشائكة المكهربة والصحاري العتمور والفيافي والمفاوز إلي أرض الحلم والحدائق الغناء وحيث يجد الإنسان إحتراما يليق به.

أفلاذ أكبادنا يواجهون الموت بصدور مفتوحة وأجسام عارية وعيون برئية، وإبتسامة صفراء ماكرة في وسط البحار أو حافة الأدغال والأحراش المنتشرة فوق البسيطة، أوفي خضم الأمواج المتلاطمة بإصرار محير وبلادة مقصودة بقدر ماهي غريبة.

يهربون من سياج الحروب ومن بطش الأمراض وألم الفقر بأجسادهم النحيلة ونظراتهم الغارقة بالألم، ويضيع عمرهم بين أحلام شاخت وأوضاع مأساوية نام الجميع فوق نارها، ويموتون تحت برق الطمع وبريق الجشع، يقطعون الطريق والدروب الممتدة المتقاطعة والتي تطول فيها العبور ورفوف المشقة والأزقات الموحشة، ويشقون عباب الماء نحو ما وراء البحار وفي بلاد الضباب في موسم الهجرة إلي شتى الإتجهات الجغرافية، ينشدون الحياة علي أنياب المنية والحياة الكريمة في مخالب الموت!.)

تأثّر الجميع ورقرق الدمع عن عيونهم، وتذكر الحضور ورسمي الذي كان شابا قويا تتدفق فيه الحيوية، وبحر من الإبتسامات يضج بالجمال كالورود المتفتحة في عز الربيع، وطموحا يحضن أحلاما تفوق الخيال بعدما انهي دراسته وبتفوق كبير، ولكن أقرّ الجميع في لحظة صفاء نادر أن حظه كان سئيا جدا لأنه تخرج في زمن تذوب فيه القيم والمفاهيم الصومالية المجيدة في خضم المعارك والصراعات العبثية.

 الوطن يلتهب من أقصاه إلي أقصاه، وايام سوداء حزينة يمرها الشعب جعلت الحياة سيمفونية صراع متواصلة، لا أحد يستطيع أن يعيش حياة آمنة في ظل دولة صومالية قوية مهيبة الجانب توفر أساسيات الحياة لشعبها، فقدت الأمة بوصلة الحياة والتعايش السلمي والإحتواء العقلاني للأزمات، سادت الأنانية ومبدأ إلغاء الآخر والإستئثار التام للثروة والسلطة، قاد الجنون إلي إلغاء الشريك الذي ادى بدوره إلي إنهيار كامل للدولة ومؤسساتها ونهب كبير للحضارة وحتي للتاريخ والجغرافيا.

إنفجارات مدوية وأجسام مرتجفة وأشلاء متناثرة، وأصوات هادرة للرصاص و زخات للمدافع المرعبة، وأزيز الرشاشات الذي لا ينقطع في كل البلاد. قتلي وجرحي، أنين وصرخات، بؤر صراع ساخنة تتولد هندسيا في كل يوم بل في كل لحظة في طول البلاد وعرضه،سحائب من الحزن ورواسب من الأسى،هكذا كان أخبار الوطن قبيل تخرجه واحدة من الجامعات الوطنية المرموقة محليا بعد دراسة دامت نصف عقد من الجهد والمثابرة.

كان سمتر يطيل التفكير، وحالة الوطن واللون الشاحب للحياة والتيه الذي اصاب أمته يشكل كتبا مفتوحة يستقي منها أن الوطن يسير بطريق مجهول وبوتيرة متسارعة جنونية كسرعة الضوء في الفضاء، وفي ظل وطن شعاره النهب وإبراز العضلات علي المكلومين تبدو حياة البسطاء معادلة صفرية مع البقاء والتغلب علي أشباح الأسعار الفلكية.

قذفته الدنيا في الميدان العملي بعد الميادين النظرية التي تحتاج إلي صرير القلم ومداده، وحفيف الأوراق وعبقها العتيق والمذاكرة القوية. ببرآة الشباب وبحيوية المتخرج حديثا كانت أفكاره وتصوراته تأتي من الخيال وتعيش في وهم الشهادات وسراب الكفآءة، ولم يكن يدري أنه يعيش في وطن منهجه القطع والتفتيت، وأمة تغتال الأمل في رحم الغيب بحرفية كبيرة، وأن ميادين العمل والإنخراط إلي سوق العمل تحتاج إلي أشياء أخرى غير الشهادات الجامعية مثل القرابة والمحسوبية والوساطة والرشوة والفساد، والخبرات المتراكمة في شخصيته لاتسعفه هنا.

قلبت الدنيا له ظهر المجن، وتحولت حياته إلي درب من الأغنيات الحزينة، والحياة التي كانت تنتظره أصبحت رابية من الحرمان تشرف علي سهول من المعاناة، كل الأبواب التي ولجها من أجل تحقيق الحلم لقي منها إما إبتسامة خبيثة أوبرودة قاتلة أو ضحكة رمادية مائعة أومزيجا من الدعابة والسخرية، ورغم ذالك لم يحبط بل ضاعف جهده وبحث عن العمل وهو يعتقد أنه سيحقق الحلم الذي أقام في القلب مهما طال ليل السكون والسواد.
وعندما يحاول اليأس التسلل إلي قلبه يقنع نفسه أنه مهندس وقريبا ستفتح الدنيا له أبوابها، وأن المعاناة ماهي إلا سحابة صيف عن قريب ستنقشع، طالت المدة وتكسرت أجنحة الأمل وزاد الإحباط وحمل كل يوم من حياته تفاصيل أشد مرارة من الماضي ومعرفة أعمق لسلوك الشعب المتدهور.

لم يجد العمل في وطن رمال السياسة المتحركة أثرت توازنه وحولته إلي سجن ومنفى، صدمته الحقيقة والمأساة المتراكمة، وبدأ يدرس كل الإحتمالات والأفكار الجنونية تتصارع إلي عقله، كافح من أجل طرد الأفكار التي تقوده إلي متاهات وغربة قاتلة، ومن أجل التغلب علي هذا الأفكار ولكي لا يقع في حبائلها كان يغدو كل يوم إلي المدينة ويقف في كل زاوية يقرأ جميع الملصقات والإعلانات لعله يجد عملا يحفظ له ماء وجهه، ولكن أنيّ يجد وهو ينتمي إلي الهامش والطبقات الكادحة.

حاول سلك كل الطرق الممكنة التي تقوده إلي العمل وتحقيق أحلامه ولكن صدت الأبواب علي وجهه. وفي صباح يوم بارد أسند ظهره إلي الجدار فتملكه شعور بالعتاب من نفسه ومن المجتمع، لماذا لم أجد عملا يناسبني؟ لماذا لايقدر الشعب قدراتي العلمية وشهاداتي الدراسية؟، ولماذا لا أفكر تغير العقلية المتحجرة المتشبثة في الوطن؟ ولماذا لا أدرس خيار الهجرة إلي الخارج؟ ولماذا أخاف من المستقبل ومن كابوس الغربة.؟

إنظلقت من عيونه نظرة تأمل في اللا شئ،! نظر تجاعيد أمه أو بالأحرى تجاعيد الزمان علي جبينها الذي أجهده المرض وأنهكه التعب، تجاعيدها تعني له ألف حكاية وحكاية، ورقة عظامها تذكره بكفاحها من أجل هذا اليوم، تُرى ماذا تقول إذا استيقظت علي فجيعة الحقيقة؟ لطالما أنحنيت رأسي أمامها حبا وتقديرا.

نظر متحملقا إلي جبين أخته الغارقة في عرقها ومصارعتها مع الوجبة الغذائية وتجهيزها للأسرة بإخلاص الأخت وحبها اللاحدودي، حاول الهروب من الواقع إلي سحيق الذكريات ولكنها اشد وأوجع، تذكر والده الذي فارق الحياة قبل عقد ونصف من الزمن  قبل أن يكوّن لهم ثروة أو يترك لهم كنزا سوى نسب شريف متصل وطيبة يتذكره الجيران.

همس في أذن الزمن وراوده خيال جامح لإيجاد قطار الزمن السريع ولكن بإتجاه المعاكس، لم يجد قطارا متجها إلي الماضي ولم تسعفه المعجزات لأن زمن المعجزات إنتهى،! خانته الذاكرة وغابت الملامح وراء ضباب السنوات وخلف الدموع التي ملأت مقلتيه، قطع عن التفكير وعرف أنه يمر وقتا صعبا وظروفا مخيفة تتطلب شجاعة نادرة وتفكيرا عميقا.

نام ليلته ولكن لم يتنعم بلذة الكرى إذ الأعمار الضائعة بين أحضان العطالة والوطن الذي لا يرسم علي الجباه رسمة الحب، والليل الإفريقي الخانق والضباب اللطيف الذي يتدثر علي ظلام المدينة الدامس حرك كوامن سمتر، وأدخله في صمت كبير وفي حزن لاضفاف له.

وفي الصباح حاول إصلاح ماكينات الأحلام التي تعطلت فوق ربى الواقع الأليم فلم يستطع، فقادته رنة التوجع إلي العزيمة القوية للهجرة، وحثه الوضع علي تغيير الواقع وظهور شجاعة مبهرة في القرار، والتحمل بالنتائج ولو قادته المغامرة إلي مواجهة الموت في وسط عتمة البحار أو الصحراء المقفر أو الحدود التي لا يستطع المرأ مقاومتها ومجابهة اضرارها.

وفي محاولة أخيرة طاف كعادته جميع الشركات العامة والخاصة واشترى الجرائد النادرة التي تصدر في مدينته ولكن بدون جدوى، قصد ناحية البحر لتخفيف الهموم وسراب الإحباط الذي أحاط به كإحاطة السوار بالمعصم، وجلس امام المحيط الهادر والأمواج التي ترتعد بقوة يتحدث مع زميله ليبان عن مرارة الخيبات والأجفان التي لا تكتحل بالنعاس بسبب التفكير الدائم وطرق أبوب الأفكار التي تراوده بين فينة وأخرى.

حاول زميله تخفيف حدة الإحباط ووطأة الخنق بأن الغد أفضل لا محالة، وليل الظلم لا يدوم وتباشير الصباح قد لاحت في الأفق، ولكن سمتر لم يقنعه كلمات ليبان بل يعض شفتيه بعدوانية ويراقب الأمواج الهائجة بإمعان يستحضر المستقبل والمحيطات التي يجتازها لتحقيق أحلامه.

الثقة عندما تنهار لا تعود أبدا والإنسانية المعذبة في بلدانها التي تعتصرها الألم كآلات موسيقية تتكلم، وتتقاذفها أمواج الغربة الموحشة في داخل الوطن والشعور القوي للظلم أشد وانكي من رحلة مجهولة العواقب ومحفوفة بالأخطار المحدقة مع الحيوانات الهلامية والقواقع وقرش البحر، ومواجهة المنية في وسط عاصفة بحرية وزوابع رعدية قاتمة كخرائط للأنين.

الثلاثاء، 8 أبريل 2014

طودان ملك القافية والأدب

ولد الأديب المخضرم والشاعر الفذ عبدالله معلم أحمد أومعلم طودان كما اشتهر به ويحلو لمحبيه في نهاية الثلاثينيات من القرن المنصرم بمحافظة دوللو DOLLOالواقعة علي شرق الإقليم الصومالي في إثيوبيا،وهي منطقة كانت ولا زالت تشكل أكثر المناطق الصومالية التي ينتسب إليها أعلام اللغة والشعر والأدب الصومالي.

تاريخيا ينتمي الشاعر إلي أسرة لم تكن مرموقة في الشعر والأدب، بل كانت أسرته متواضعة أدبيا وحياتيا تعيش في البادية كغيرها من الأسر الصومالية التي كانت تكدح وتصارع مع أعباء الحياة في تلك الفترة الملئية بالتحديات السياسية والفكرية والمعيشية. في صغره كان أبكما منزويا قليل الإختلاط بالأطفال، ولم ينطق بكلمة إلا عندما وصل إلي أعتاب المراهقة وطرق أبوابها، ولم يكن سكوته عارضا طرأ في حياته بعد الولادة بل عاش البكم منذ ولادته.

حيّرت حالته الغريبة أفراد أسرته الساكنة علي معاقلها البعيدة عن التمدن والقرى، والتي لا تعرف الأطباء المختصين لحل هذا المشكلة العويصة التي حيرت الأسرة، والبُكم الذي سبب للصغير أمراضا نفسية وجسدية، ولأنهم بعيدون عن المشافي والمراكز الصحية ويعجزون توفير الدواء والعلاج لولدهم الصغير، ولأنهم يسكنون في سحيق البادية ويضربون أكباد إبلهم عند السفر إلي المدينة وأضوائها ومفاتنها المتعددة كانت آمالهم متعلقة برحمة اللطيف ثم تغييرا يطرأ علي حالة طفلهم المعوق .

إغتال البكم المتواصل للطفل علي آمال الأسرة التي تعيش خارج الزمن وفي الأحراش البعيدة عن المدن في شرق أوغادينيا، وزحف الإحباط علي مساحات الأمل، ويئست الأسرة واختفت البارقة من أن يتكلم ولدهم عندما بلغ في العاشرة من عمره دون أن ينطق بكلمة ولوكانت عابرة وبصعوبة كبيرة، ولكن إرادة الله كانت أنفذ وجاء الفرج كعادته يباغت الجميع.
زحف المراهق نحو منتصف العقد الثاني من عمره دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل، عم ّالذهول ورفع الجميع حاجب الدهشة، ماتت الأحلام أوكادت، إستسلم الجميع وبدا وكأنهم خائبون، وفي ذات يوم وعندما وصل الشاب علي حافة اليأس بدأ بالكلام! ولكن ليس هذيانا أو كلاما عاديا بل بركانا من الشعر ووابلا من السجع الآخّاذ، دون مقدمات ولامحطات لتشكل مفاجأة جميلة للأسرة والقبيلة باسرها.

الثلاثاء، 1 أبريل 2014

على حافة المجهول.


لم تكن تلك الليلية من ليالي الربيع البارد في جكجكا لتمر دون أن تمنحني لذة التعامل مع الليالي الإفريقية الخانقة ذات الإيقاعات المتباينة الرائعة أحيانا والصاخبة أحيانا, وشعورا خارقا يلهب الحشى ويعكر المزاج ويبلد الذهون، وتفكيرا عميقا تتسمر العيون من أجله في الجدار المقابل كمن يطالع صفحة الكون عن كثب أو ينظر ما وراء المرئيات بعيني زرقاء اليمامة، أو كمن يحتسي الشوق في الزنزانات المظلمة ويترقب القادمين من النور وحاملي النبأ الأهم واللحظات الأجمل في حياة كل سجين عان من الظلم والقهر والإضطهاد النفسي والجسدي حينا من الدهر.

لم تكتحل جفوني بالكرى، بل أهداني الليل وابلا من الإستفهامات المحيرة وتشويشا عاطفيا وسهرا يغذي حدائق قلبي أسئلة تدمي الجفون وتنهك العقول وتسارع الإيقاع المعرفي والإدراكي لديّ، الأسئلة المحيرة كانت ترسلني إلي عمق الأفكار والرؤى عبر التحليلات المتعددة والتأويلات الكثيرة، لأفهم ما يدور في الكون تارة، والحث إلى طريق الفجر والمستقبل وعدم الإستسلام حتى الرمق الأخير تارة أخري.

وفي خضم هذا المعركة الضارية والتساؤلات الأخلاقية لايتوقف نهر التذمر، ولا يكون خاليا من رنات التوجع والأماني التي لم تتحقق، بل أصبحت آمالا فارغة وخدوشا لا تندمل، وسطورا مبهمة منسوخة علي ورقة الكربون التي لا تضيف هيبة الحياة ولا رونق المعيشة ـ حسب المقاييس والمواصفات والموازين العصرية ـ سوى العتاب والتعلق علي المجد التليد، والتباكي علي اللبن المسكوب والإرث الضائع الذي فقد من يحترمه ويحسن التعامل معه ويسهر لحفظه.


وفي ظلال الحيرة والتجول علي الأرصفة الباردة وربي المعاناة والعودة إلي المربع الأول ذات الضباب والندى في كل حين، تهاجمني إستفسارات كثيرة للواقع وللحياة, وإستفهامات عديدة تردني في أودية التخمين والظنون وموارد الغيمات الدخانية التي تحجب الرؤية وتجعل الحقيقة بعيدة والواقع يبدو سرابا في وسط الصحراء العتمور, والأماني أكواما من الزفرات الشجية المختبئة خلف أبواب الضمائر الميتة والإرادة المعوجة.
أحاول فك طلاسم الأرق وتبديد سحب السهاد! فأسأل قلبي مالذي جعلك تسهر يا قلبي المكلوم؟ وما سر الأرق يا عيوني المجهدتين؟، فأجد جوابا تملأ نصف الكوب وتحول الوضع إلي ليل دامس، وحنادس الظلام المعنوي تزحف علي مناطق الأمل ذات الأعشاب المرتعشة فتجعله لوحة قاتمة، كيف ننام والأقوي يغزو علي الضعيف بمجرد أطماع وعظمة الجنون. نزوات شيطانية تجبره علي البطش والنهب وتشريع القوانين المجحفه التي تحافظ قوته وهيمنته الدائمة علي البسطاء والمساكين!.

كيف أخلد إلي النوم وأمتنا وفي ثروتها المتعددة ومواردها الكثيرة وكنوزها المختلفة وعقليتها الجبارة يموت الواحد منها جوعا علي الأرصفة فتكفنه الثلوج وتشفقه الطبيعة، في حين أن الإنسان يسلب حريته ويأكل رغيفه ولا يلقي له بال!، كيف أتلذذ فوق الأسرّة والأرآئك والمقاعد الوثيرة والجهل يقود الجميع وراياته خفّاقة في كل الميادين ونحارب العلم والمعرفة! بحيوية مفرطة ونشاط عجيب.

كيف أهنأ بلذة النوم وأمتي لم تشبع بعد في التقسيم والتجزأة والتنكيل، ولم تفهم النظريات الجديدة لتقسيم الأرض والعباد، والخرائط الجديدة للعالم التي تبناها الغرب وجعله في رأس أولوياته، بل بدأت تطبيقاته على بلدي الصومال قبل عقود والسودان قبل سنوات، وبلاد الرافدين وتمزيق أوصال جمجمة العرب إلي أكراد في الشمال وعرب سنيين في الوسط والشيعة في الجنوب شئ واضح وبادى للعيان!.

كيف لا يسيطر عليّ حزن صامت وعميق والإنسانية في خطر وتسير نحو الهاوية بخطى ثابتة، وبلاد المسلمين ملتهبة من أقصاها إلي أقصاها، وتتعرض ليل نهار إلي حروب ضارية ومشاريع للإبادة وطمس للهوية، ونهب الخيرات وتزوير التاريخ وليّ عنق الحضارة والتراث، والتجارة في مشاريع الكراهة والإقصاء والأجندات الهدّامة التي تفني البشر وتهدم مباني الإنسانية وتجرم أصحاب الضمائر الحية أوترسلهم إلي قعر السجون وبرد المنافي ولفح الغربة.

فلسطين أصبحت تغرد خارج السرب ومنذ زمن بعيد بعدما تقاعست العرب عن نصرتها، وأفغانستان منسية، وتركستان محتلة، وبورما مغيبة، وشيشان ضائعة والدول الكبيرة معرضة للخطر والتمزيق!، كيف لا أسهر ولدغة عقرب الفقر تبكي المحرومين والشرفاء، وبراثن الجهل يتعرض للكادحين والسواد الأعظم من أمتي، وعصافير الجوع تزقزق في بطون البسطاء وسنوات الشقاء والكفاح طالت كسنين يوسف!.

كيف يفيض أحاسيسي بالجمال، ومشاعري تكون نابضة بالحب وأطفالنا يموتون في كل لحظة إما جوعا أوقلة المرافق الصحية في بلاد ترقد المعادن في بطونها وتطفح الخيرات في سطحها، أو تلتهمه المدافع وتمزق الرصاصة الغادرة جسده الطري ونفسه البرئية، ولايجد ما يسد رمقه أوتوفره أدوية للتطبيب أوالرغيف مع وفرة الكرامة وصون ماء الوجه وحمرة الخجل.

تحسين مستوى المعيشة والمشاريع الإنمائية والخطوات الإيجابية والموجات العمرانية والغزو علي الفضاء والمعرفة تكاد تكون معدومة في أجنداتنا وأولويات أوطاننا!، وهنا وفي عقر دار المسلمين يموت المسلم جوعا ويدك البرد عظامه علي الطرقات وجاره يأكل ويتجشأ ويشرب الغازات بعد الحوامض، ويأكل الفواكهة بعد الخضروات، واللحم المشوي بعد اللحم المفروم وشتى الأطعمة والأكلات, ولا ينظر ولا يلقي نظرة علي جاره وأهله, عقله ما يدخل في بطنه وتفكيره ما يخرج في دبره!.

نعيش في عالم منزوع الرحمة إلا ما رحم ربي، وأجساد الأيتام تشبه ألواحا زجاجية للرسم الفلكوري بعدما فقدوا آباءهم في هدير الظلم وأزيز المدافع، وطحنتهم العنجهية وغطرسة المتجبر والحروب العبثية التي تقودها الأنانية والجشع، ولم تجف الدموع عن مقلة الثكالى بعدما فقدوا فلذة أكبادهم وقرة أعينهم وريحانة حياتهم ومعيلهم، ورحل أنيسهم إلي العظمة والمجد والخلود وارتقت أرواحهم الطاهرة عند ربهم يرزقون .

والأطفال لم يفهمو سبب الغدر والمعاناة، عيون برئية تحتال الفقر ببسمة عريضة، وأجسام طرية ترك الواقع عليها جروحا لا تندمل، وزهورا في مقتبل العمر واجهو معترك الحياة بأيادي طرية وجباه ناعمة وعقول صغيرة، خانهم الحظ وأهداهم الزمن حيرة واضحة وصدور عارية لا تحمل سوى زي مهمل وقصبات الضلوع وأمراض فتاكه لا تجد أيادي حانية، وأماني جريحة، وربما بضع عبرات خبأتها الجفون لمآسي السنين وأحزان الزمان، وإبتسامة لا تستطيع الشفاه أن تحملهما إلي الوجود لأنها خالية عن طعم المرح والسرور الطفولي وآثار الفرحة والحبور!

 هناك فساد وعربدة بمسميات شتي رنانة، وفسق وفجور بأسامي جميلة، وقبح أخلاقي ولؤم نفسي كساها المجرم هالة من الجمال، وهناك نوادي ليلية للسكارى وأوكارا للإجرام وعنابرا للفاحشة، وموجات من الإغتصاب يكون ضحيتها غالبا فتاة في عمر الزهور إغتصبها الجن الأزرق، ولوّث سمعتها وطهرها شيطان أخرص أحمر العينين أسود النفس كث الشعر يده في الزناد وعينه علي الحرام وقلبه يحترق، وسكن الشر في سحيق قلبه وعشعش الإجرام في مختلف جسده.

ترك الرحمة ونزع في قلبه الشفقة!،  ينهب الأموال ويهدر الكرامة ويمزق العفاف ويقتل الأنفس ويعبث في الأرض فسادا!، ولكن إلى متى يواصل العربيد همجيته القاتلة وفظائعة المروعة وخطواته اللانسانية تجاه البشر والحضارة والدين؟ وإلي متى يواصل الإزدراء والتشريد والقتل الجماعي الذي يدفع البشر إلي الفناء والأرواح الطيبة إلى الأزهاق وذبول رحيق الأمة الوضاء وزهور الوطن؟.
أما آن للضمير أن يصحو والنخوة أن تحيا والشهامة أن تعود؟، والإنسانية أن تنتصر وتقوم من سباتها العميق, وتنفض العزة عن نفسها غبار السنين وأصداء الماضي لتقول: لا للظلم لا للقهر لا للإضطهاد لا للتميز العنصري لا للإهانة والديكتاتورية!؟

أم نظل عبيدا للبيادة والمجرمين، ومغفلين حيارى يطبقون الخمسة علي الإثنتين في دنيا الإجرام، وفي عالم ملتهب يقترب كل يوم إلي حافة المجهول والهلاك والرزايا؟
كيف نعيش في عالم لا يجد المظلوم من ينصفه، والجائع ما يسد رمقه، والخائف مكانا آمنا، والسجين إلي الحرية! في عالم كثرة فيه المصيبة والجهل وعم الخور في كل أصقاعه، في عالم يأكل القوي الضعيف وينهب الكبير الصغير، وأصبحت القوة هي السياج الوحيد التي تحمي الحمى وتصون الأعراض وتذب عن الكرامة وتؤسس منارة للحياة الكريمة والعيش الرغيد؟.

عجبي - ومن العجائب جمة- إلي أين تسير البشرية؟ ومن يستطيع قيادة العالم إلي بر الأمان وشاطئ السعادة؟ ولماذا أصبحنا حملا وديعا لا نتململ ولا نتذمر من كب الملح في جرح كرامتنا والعيش في هامش الحياة وفوق الصفيح الساخن؟، ولماذا نجعل كوكبنا الجميل بأفعالنا الشنعاء وتصرفاتنا الغبية أوكارا للإجرام وكهوفا للدعارة وفيافيا للإعدام وساحات للإبتزاز وعنابرا للقهر والضيم؟، متي نستفيق ونعود إلي الدروب الصحيحية والمسالك المنجية، والعقلانية في التصرفات والتخطيط، والإنسانية في التفكير الإيجابي والإدراك السليم، وإتخاذ القرارات المصيرية بتروي وتأني؟

وهل من المعقول أن في الألفية الثالثة وفي عصر النانو والمعجزات العلمية والتكنولوجيا والإكتشافات العجيبة، وفي زمن الغزو علي الفضاء والكواكب الأخرى، وسبر غور المحيطات والأجرام السماوية البعيدة، مازالت العنجهية تقود الجبابرة، ومازال الصلف والإستبداد يبرق أمام المتغطرسين، ويحثهم ليل نهار إلى إرتكاب مزيد من الجرائم والإبادات التي تهلك الحرث والنسل وتعدم الحجر والشجر ولا تترك الجغرافيا والتاريخ والماضي التليد!.
ومازال الأمم تواجه شبح الفناء والإنقراض والإحتلال، ويعم الخوف والكراهية ويرجع صدى الإغتصاب في كل حين وعلي مسمع العالم والأمم التي تدعي ظلما وبهتانا أنها تحمي الضعفاء وتنصف للبسطاء وتعيد النصاب إلي أهله وترجع الحق للكادحين.

ومازالت البشرية تعاني من التنكيل والإحتقار والإزدراء وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات ،وتقبع في الزنزاناة المظلمة بلا جريمة، وفي قعر السجون والمنافي بلا جريرة،ومازال حقها مهضوما وحقوقها مهدرة وكرامتها مهانة تحت كل سماء وفوق كل أرض!.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...