الخميس، 24 ديسمبر 2015

حلم على أعتاب "الصومال الكبير" (3-3)


مآسي الغربة في داخل الوطن التأريخي لأجدادي لا تنتهي أبدا، وكلما أتذكر ساعات النهار الذابلة في تلك الأمسية من الصيف قبل الماضي تزداد مقتي للمحتل البغيض الذي جعل حياتنا صعبة وشاقة، وحوَّل رقعة أرضنا المترامية إلى كانتونات صغيرة متناحرة، ودويلات ضعيفة متصارعة تستقوي بالخارج، لقد حول الإستعمار نعمة الأرض إلى نقمة مرسومة على جبين كل صومالي يتنفس وتجري في عروقه دم ينبض بالعزة والكرامة وعدم نسيان الماضي.

كنت في مطار مدية عشقت إسمها منذ أن كنت في زمن الصبا وأيام المدرسة، حبها كان طيفا يسرى في داخلي وصدى ذكرها كان يتردد في قلبي منذ أن سمعت إسمها عن جدتي التي عاشت في ريعان شبابها في أحياء تلك المدينة الآسرة بجمالها الطبيعي وكاريزميتها الخاص ومكانتها المرموقة عند كل صومالي، بمرور الزمان وبروز إسمها في الساحة الصومالية أصبح إسمها اللامع يجذب الوجدان ويتداول بين الشعراء والأدباء والمناضلين وأعمدة التجارة في القطر الصومالي.

وصلت مطار المدينة وأنا أعزف أوتار المحبة وألحان الشوق، ولكن صُدمتُ عندما طلب مني موظف الجوازات، الجواز والتأشيرة كأني أجنبي جئت من أوراسيا أو قارة بعيدة كأقيانوسيا مثلاً في رحلة إستغرقت 20ساعة كاملة، قلت لمدير مكتب الجوازات في المطار: أنا جئت من مدينتي إلى مدينتي، وحسب علمي الرحلات الداخلية لا تتطلب جوازا ولا تأشيرة، وأنا أعتقد أنني مواطن وليست المدينة غريبة عني.

غضب المدير واكفهر وجهه وأحمرت وجنتاه وأخذ كلامي إلى الإحتمالات الخاطئة كعادة من يحملون عقولا فارغة ويصنعون من الحبة قبة، فقال وقد إنتفخت أوداجه بطريقة فيها كثير من الإستعلاء والسخافة: كلامك مستفز وأنت أجنبي جاء من دولة أجنبية، وإن كانت دولة مجاورة جغرافيا ووجدانيا عند بعض البشر فهي بعيدة عنا سياسيا،! قلت: أي دولة تتحدث؟ فقال أنت جئيت من الصومال؟ والصومال هي أبعد دولة مجاورة من حيث التعامل والتبادل التجاري؟ فقلت مستغربا: أعتقد أنك تتحدث عن شخص آخر ولا تقصد شخصيتي الجالسة أمامك بسمرتها وشحمها ولحمها.!  ماذا تتحدث ومن أين تأتي الغربة وأنا أول ما أصل إلى المدينة سأكون من بين سكانها وأختلط في أهلها ولا أشعر أي تمييز سواء كان دينيا أو لغويا أو روابط الدم والنسب، إذاً على أي أساس أكون أجنبيا؟.

كانت قصة مؤلمة جدا أن أشعر الغربة في أقرب مدينة إلى قلبي، أما عاصمة أخذتْ شكلا فرنكفونيا تقع في أقصى الشمال لوطني الكبير ورغم أني مكثت فيها عدة ساعات إلا أنها هي الأخرى كانت طاردة لكل الروابط التي نتحدث عنها كصوماليين في المناسبات، كان المواطنون الأروبيون وحتى الأجانب من الإفريقيين  يتمعتعون بمعاملة أحسن وأفضل مما كنت أجده أنا الصومالي الذي أتواصل مع الجميع لغتنا المشتركة، ورغم أنني أتفهم المخاوف التي ذكرها عمال المطار إلا أن التمييز أو النظرة الغير جيدة لكل ما هو صومالي كانت مؤلمة للغاية.

يطول التفكير ومعه يطول الليل والمأساة التي جعلت أمتي الصومالية أمة نصفها يعاني من التشريد والهجرات القسرية والموت في الغربة، والنصف الآخر يعاني من الموت الجماعي، والمجاعة، وهدر الكرامة، ومصادرة الحقوق والحريات في ظل دولة ضعيفة يقودها السراق ومافيا الحروب، ونظام فاسد لم يتركنا سوى الوعود الكاذبة والفقر المدقع والفساد المستشري في كافة أجهزة الدولة ومؤسسات الوطن.

في خبايا الماضي الفحيم تؤلمني الخلجات التي تنساب من نهر الضمير الملتهب فأتهرب إلى المسكنات الآنية، ومن وجع الحنين أسامر مع ملامح وأحلام طواها النسيان، وأصغوا عبر تليفوني المحمول إذاعة محلية تذيع أغاني وطنية للفرقة الموسيقة الصومالية وابَرِي (الشروق) كلمات تحمل بصمات الشعراء الكبار وأيقونة الشعر التحرري وأدبيات النضال في الصومال الكبير...

Waxay boqonta goysaa bahda wada jirkeedaa
Alla colaadi ba,anaa, ba,naa, alla colaadi ba,anaa
Badbaadiyo nabad ummadii kubaydaa
Bilic iyo ayaan lee bilic iyo ayaan lee

كلمات تحرك المشاعر وألحان راسخة في الوجدان الصومالي وصوت متفرد رسخ الجمال في الذاكرة الحية للأمة الصومالية عبر العصور من زمن القوة والزعامة إلى عصر الإنحطاط والإنهيار الأخلاقي، كم كانت الأغاني الصومالية الكلاسيكية لذيذة ومترعة بالمشاعر الوطنية الخالدة، وكم كان شعبي كبيرا في الأدب وفي الطرب وفي الرقصات الشعبية والألعاب الفلكورية ودولة القوافي، كما كان كبيرا في الفنون والحروب وحمل لواء الزعامة في منطقته التي تفور وتثور بالصراعات والحروب منذ القدم.


وطن مستباح ينهب ثروته ويقتل إنسانه ويدمر حاضرته وماضيه، وشعب وديع أثقلته جراحات السنين وكدمات الواقع، وحكومات متعاقبة لا تقدر طموحات الشعب الظامئ إلى حكومة صومالية قوية، ولا تسعى إلى تحقيق أحلامه، ولا تعتمد على الموارد الصومالية الكثيرة التي تحتاج فقط إلى إرادة واعية وإدارة رشيدة، بل تعتمد التسول على أعتاب العالم والوعود الكاذبة للدول المانحة والرشاوى المهينة للهيئات الأممية التي مازالت تحكم مصيرنا، والمساعدات القليلة للدول الشقيقة، وفتاة الموائد لبعض الدول التي تسعى إلى رد الجميل.

ولم تشأ الحكومة الحالية بكل إمكانياتها وفرصها أن تعيد إلى الشعب الصومالي ضحكته اللذيذة وأن تعيد إلى مقديشو لياليها النابضة بالحياة والجمال، بل لم تزل تنتج الذل والهوان، وتنسخ الضعف والخور، وتقود الجموع نحو الهاوية والعودة إلى المربع الأول وما جالكعيو عنا ببعيد.

التفكير الطويل لمآسي شعبي وويلات أمتي المتناثرة في كل شبر من العالم  جعل الليل من حولي مظلما وقاتما، هنا الزمن يمشي بتثاقل غريب كأن عقارب الساعة لا تريد أن تتحرك إلى الأطياف الهامسة والترنم على أمجاد الوطن وخواطر مدينة طالما كانت في مخيلتي ومارست فيها كل هواياتي، فأحاول الهروب إلى ميادين الفكر والثقافة والمعرفة والأدب، فأبحث في مكتبتي الإلكترونية كتابا يؤنس وحشتي وأتقاسم معه هموم الليالي فتقع عيني على " الدولة الفاشلة" وأنا أبحث عن القصص الشاعرية المنثورة على أرصفة الزمان والمنقوشة على الجدران التأريخ وكهوف التراث.

يرتجف القلب ويزيدني الكتاب شجنا وأسىً، الصفحات تتحدث بدقة عن وضع بلدي المزري، والنظريات تؤيد ما يحدث هناك في ربوع الصومال، تفشل الدولة في بسط النفوذ والسلطة وتعجز عن توفير الخدمات الأساسية للمواطنين وينهب المسؤلون الأموال وتقوم الدولة بمصادرة الحقوق والحريات ويموت الأطفال جوعا وعطشا ونقصا للأدوية والمستلزمات الطبية، وتهاجر الأدمغة الحية والعقول المثقفة إلى الخارج، ويبدأ التناحر القبلي والتقاتل الطائفي والحروب الأهلية وهذا ما عانيناه وجعل حياتنا جحيما لايطاق.

الأحلام الغاربة على أعتاب مقديشو، والملامح الجريحة لكسمايو، والدماء المسيلة على شوارع جالكعيو وطرقات بلدوين لم تكن تؤنس وحشتي في ليل خريفي خانق ومليئ بالشجون وألم في الخاطر، إنفجارات متتالية تحارب مظاهر الدولة والحياة، وهجمات إرهابية تقتل الأبرياء وتزهق الأرواح وتغتال الأمل، حركات إجرامية من نتاج العنف والكراهية تخطف إرادة الشعوب، وشعب خاضع  تقوده القبلية والرقص على الرماد، ونخبة سياسية وإجتماعية لا تحمل سوى هم جمع الأموال ولا ترى العيب إذا امتلأ الجيب.

 تمضي الساعات وأنا في السكون وفي عمق الظلام أجهز نفسي الرجوع إلى مدينتي الغارقة في الدمار رغم الإنتعاشة الجديدة للحياة السياسية والإقتصادية والمصالحة، يسوقني الحنين إلى كسمايو ووجها الباسم، المدينة مازالت تترنح بمآسي الماضي، وفي دروبها المزدانة بعبق التأريخ وأريج التراث المكتوبة على أرصفة الزمان وسواحل المحيط يوجد ألف حكاية ومأساة.

الحياة في كل زاوية من زواياها الحادة بإتجاه القلوب مترعة بصدى الأيام وذكريات المدرسة والخلان،  أشجارها الطويلة والغيمة اللطيفة في الربيع،  والمقاهي الشعبية، وعيون الأطفال تذكرني زمن الطفولة وأيام الصبا، هنا دارت معركة طفولية منسية في اليوم الغد، وهنا قضيت ليالي صافي الجبين سامرت فيها حتي الصباح على وقع الأحاديث والحكاوي والألحان، وهنا سجلت هدفا قاتلا في الدقائق الاضافية أو بدل الضائع، وهنا كنت أغدو في الصباح الباكر وأنا متوجه الى مدرستي وعالمي الجميل مدرسة جوبا الأساسية والثانوية.

وهنا قابلت سمراوات تنمقت يد الجمال  على وجوههن، سمرة قمحية تكسوا على الملامح الصومالية المتميزة، وتغنج ودلال في وسط مروج الليل وفي وهج العشق والصبا.  أمسيات السمر والأحاسيس القديمة منقوشة على جدران البيوت الطينية والضفة الخضراء لنهر جوبا والمراعى المعشبة للأبقار. في عبير الطرقات الترابية أشم أريج الماضي عبر الأزقات الضيقة، وأشعر أهازيج الأطفال في أحضان القرية الناعسة على أهداب النهر، وأنظر بعمق الأحياء العتيقة لمدينة عريقة.

أطفال يلعبون الكرة على ميادين أحلامهم، وكهول يمارسون الحياة على مسارح حياتهم، وأحياء تعانق المحيط، وبيوت تلاصق الرمال، وأزقات خازنة للماضي بكل ألوانه ولوحاته الحياتية والمعيشية والوجدانية، مساجد ومباني عريقة ذات هندسة معمارية على الطراز العربي، وأسواق تحمل بصمات واضحة للهنود والشيرازيين، وشرفات بنكهة إيطالية مترعة بالزخارف، وحارات تخلد ذكرى الإمبراطوريات المتعاقبة على حكمها تلك الآثار الباقية على جبين كسمايو بعد أصداء السنين.


وصلتُ مدينتي وأنا أعاني من السهر والتفكير الثقيل الذي أتعب كاهلي والأعباء الماضوية التي تجتاحني منذ أن جعلت "الصومال الكبير" شعاري ومبدأ اعيش من أجله، كنت غارقا في النوم ومتدثرا بأحلامي، وعندما نزلت من الطائرة عند التاسعة صباحا في يوم مشمس إرتفعت الرطوبة إلى أعلى مستوياتها تنسمت هواء المدينة المشوبة برذاذ الحفاوة فذهبت مع أصدقايئ إلى بيتنا فأستسلمت للكرى أو بالأحرى الأحلام التي تقودني إلى أعتاب الصومال الكبير.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...