الاثنين، 14 ديسمبر 2015

حلم على أعتاب "الصومال الكبير" (2-3)

ذهب المجد وتوالت الأيام السوداء المتشابهة، و في عز مأساتنا وفي حقبة الزمن الظآمئ إلى الكرامة المفقودة، وإعادة المياه إلى مجاريها، وإستعادة الماضي لم نجد ما نتحدث عنه سوى التراجيديا والحنين إلى الماضي الفخيم " النوستالجيا"، وعندما إلتحم الأمل المنشود بالألم الذي نعاني منه حاولنا أن نحلم من جديد، أن نحلم  ونحن نغرد خارج السرب العالمي، أن نحلم ونحن لم نتمرس بعد أساليب القوة والدفاع وبناء القواعد الصلبة للنجاحات العسكرية والإستعدادات اللازمة للمعارك العنيفة التي ترسم مستقبل الأمم وتمهد لصعود أو هبوط القوى، أردنا أن نحلم ونحن في طور البناء والتشييد ففجرنا عصرا جديدا من النضال والكفاح المسلح، وكتبنا صفحة جديدة من المقاومة الشريفة والصراع مع أخطار الواقع الجديد الذي فرض علينا، ولكن ـ ومع الأسف ـ لم تتجاوز أحلامنا على عتبات لساننا وفوهة بندقيتنا البدآئية، وفي صدى أصواتنا المبحوحة، وفي طيات قصائدنا الملتهبة، وأشعارنا الثورية المؤلمة التي ترددها الحناجر الثائرة والمشاعر الجياشة في الميادين الصومالية المشبعة بالوطنية والتضحية.

لم نكترث تحذيرات القوى الخارجية، ومناشدات التكتلات السياسية، وصيحات الأحلاف القديمة للدول المجاورة التي نريد أن نشن عليها حربا ضروسا، والدول المجاورة  ( دول مسيحية تحارب من أجل إنتشار مبادئ النصرانية وتسعى للسيطرة على المنطقة وتحويلها إلى منطقة مسيحية بإمتياز، أو جعل المسيحية دين الغالبية العظمي من سكان القرن الإفريقي.)، ولم نعر إهتماما الضعف الواضح وقلة التجربة والمعين، ولم نجد من يقف إلى جانبنا بإعتبارات نعرفها جميعا، وبعد أن دخلنا غمار الحروب وأنتصرت إرادة الشعب الصومالي المناضل على غرور المحتل وكسرنا أرنبة أنفه في سابقة كانت الأولى من نوعها في إفريقيا، التي كان الجيش الإثيوبي يصول ويجول في ربوعها بعدما أطلق على نفسه بــ "أسد إفريقيا"، إستنجد العدوّ كالعادة أشقاءه في الدين والفكر أمثال كوبا والإتحاد السوفيتي وبعض الدول العربية كليبيا واليمن الجنوبي، ولا غرو فالتدخل المسيحي على المنطقة ليس جديدا، بل في زمن المجاهد الكبير أحمد جري إستنجد أباطرة الأحباش بقيادة ملكة هيلين مملكة بالبرتغال المسيحية بقيادة ملك مانويل.
وبسبب القوى الخارجية التي أثرت مجريات الحروب وحولت النصر إلى هزائم والنجاحات العسكرية إلى إخفاقات تغيرت مجريات الواقع، ووجدت إثيوبيا المحبطة إنتعاشا عسكريا وروحا جديدة تدب في أوصالها، فحدث مالم يكن في الحسبان الصومالي حكومة وشعبا، دول التحالف تمنح مهلة قصيرة للجيش الصومالي وتجبره على الإنسحاب، قصف مروع بقيادة الإتحاد السوفيتي للشعب وللجيش في الخطوط الأمامية، وهزيمة مدوية اتبعها إنسحاب عسكري غير منظم، وصرخات غير هادئة تصدح من هنا وهناك، وفلول الجيش المهزوم تسابق الريح، والأجساد المنهكة تنهشها الذئاب في الطرقات، وأمواجا من النازحين يهربون نحو الصومال، وخيرا إنهيار الدولة الصومالية وتلاشي النور القميئ الذي كان يبعث من نهاية النفق المظلم.

وبعد بداية الحروب الأهلية و إنهيار المظلة الكبيرة التي كان الشعب الصومالي يستظلها، وبعد تلاشي بصيص الأمال الذي كان يلوح في الأفق وإطفاء آخر جمرة من جمرات الندية والجدية في إعادة الأقاليم الغائية بدأت تتهاوى الأمنيات في قلب كل من يحمل هم الصومال الكبير نحو سحيق التلاشي، وأغتالت الأيادي القوية والأطماع الخارجية والضعف الداخلي  مطالب الشعب قبل أن تكتمل أركانها، وتحطمت الرغبات الحقيقة على جدار الواقع المكبل.

دخل الوطن متاهة سياسية وأخلاقية، وتخبط الجميع في عقر التيه، وطرأ على الحياة الصومالية أفعالا جديدة، وتفكيرا سلبيا تجاه الدين والدولة والحياة والوجود، وسيطر العنف والعنف المضاد و القبلية والجهل مفاصل الحياة وربوع الوطن، وجعلت الأفعال القبيحة والتصرفات العنجهية حياة الشعب جحيما لا يطاق. عصر من الفوضى والقسوة والإهمال، حياة قاتمة داكنة بلا بريق، ومستقبلا يركب في كف عفريت، ووطنا ينزف دما ودمارا، ومشاعرا تنتحر على أعتاب المعاناة والحرمان، وقصص المشردين واللآجئين والكادحين، وحكايات المنافي والمهجر ،وأحاديث الغرباء تنساب عن كل شبر وزاية، بل في كل ذرة من تراب العمورة، إضافة إلى كون أمتي أصبحت مثالا لكل ماهو قبيح، "الحروب والكوارث الطبيعة والصراعات العبثية والمجاعة والتزييف والهجرات كلها تعني  الصومال، وكلنا نعرف معنى ودلالات كلمة "الصوملة" .

توغلنا في الحروب ومص الدم ولعقه، وفي الممرات المعتمة من بلدنا تتصارع الميول، وتتصادم الإرادات، وتتقاطع المصالح في السياسة والإقتصاد والرغبات، وحول السلطة والثروة وسيطرة مفاصل الحياة ، وفي مثل هذه الأجواء القاتمة الحزن يستوطن القلوب ويترك بصماته المحبطة على النفوس، والآهات ترتفع بشكل دراماتيكي مخيف، والهروب إلى الحاضر الأكثر إيلاما من المستقبل يكون تنويما مغناطيسيا لا أكثر.

والتأملات الكثيرة للإيقاعات التأريخية والطبيعة والجغرافيا ومسيرة الماضي للحياة الصومالية لا تضفي للمشهد أية نكهة أو تفسيرا مقنعا للأحداث المتلاحقة والتطورات المتسارعة، والشخص الذي يحاول أن يحلل مالذي جعل الأمة الصومالية منكوبة وتآئهة؟ ومالذي سلك الأمة طريقا يدمي القلب وينهك العقل ويضعف القوة والإرادة؟ لا يصل إلى إجابة مقنعة،  بل يصل إلى طريق مسدود، وكل أسئلة تتفرع عنها عشرات الإستفهامات التي لا نملك لها إجابات.

سئمت الإستفهامات المتشعبة وعن الرحيل وكثرة التنقلات التي أتعبت جسدي وأرهقت نفسي التواقة إلى الإستراحة ولو لحظات عابرة على حياة عنوانها الترحال والمبيت في أدغال العالم وأحراشه، ولكن هاجمتني زرآئب من الذكريات القادمة صوب الأرياف والمدن والقرى والمستنقعات،  وبعض الذكريات تبقى عالقة على الأذهان وتبعث فينا الأتراح فتحول سكون الليالي إلى صخب، وعندما أتذكر تفاصيل ذاك اليوم الحار الذي توجهت إلى مدينة عريقة من مدن وطني الضائعة على الضفة الأخرى للحدود التي نسميه نحن خطا ًوهمياً لا أكثر ويسمونه خطا فاصلا بين دولتين وحدودا حقيقية، تعانقني سحابة من الكآبة وأشعر هزة قوية تصل إلى ملايين الدرجات بمقياس المشاعر والأحاسيس.

كنت غريبا في عقر بلدي أتذوق مرارة الحرمان والكآبة التي تكاد تقتلني في عز الليل وأنا أمشي هائما في الأزقات الحجرية المنقوشة بأسماء التراث والثقافة الصومالية التليدة، هنا يفوح عبير صومالي السمات قمحيّ الملامح، وهنا منابر تبكي ومآذن تحن، وزوايا تشتاق إلى أذكار الصوفية وترانيم العاشقين، وقلاع تذرف الدموع من أجل الأيام المتألقات، وهنا وضع مزري للماضي، وكيان قديم متصدع  تنطبق عليه كل صفات السخرية والإزدراء.

على متن طآئرة تخترق السحب وتطوي الأرض طويا كنت أتجه صوب مدينة تتعالي أبنيتها الترابية بين التلال والجبال، وتقع الطرف الجنوبي لشبه صحراء وطني التأريخي، إنتابتني قشعريرة تأتي من عمق التأريخ والتفكك الأرضي الذي أصاب أمتي إبان الفترة الكولونيالية التي قطعت وصال الوطن ومزقت شمل الشعب، تنهال علىّ التساؤلات وتهاجمني الهموم والإستفهامات التي لا أجد لها إجابة واضحة رغم مرور أكثر من نصف قرن منذ أن منح الإستعمار أجزاء بلدي إلى دول لم تجمعنا يوما أية روابط سواء كانت تأريخية، أو تراثية، أو دينية، أو لغوية، أو عرقية، أو حتى وجدانية !.

هبطت الطآئرة على مدرج المطار أو بالأحرى على مدرج فؤادي السارح بالأعشاب الصغيرة والأصوات الموسيقية للأغصان المتدلية عن الأشجار، نزلت من الطآئرة ونزلت معي الأحاسيس المدفونة في داخلي والذكريات القديمة والخواطر الملهبة، عَلَم مزركش بألوان متنوعة يرفرف فوق الجميع، ولغة إفريقية يتكلمها الجميع لم تكن تشبه لغتي ولم تكن مفهومة بالنسبة إلى بدوي صومالي لا يتقن لغة غير لغته الصومالية، إستنشقت هواء طلقا وعانقت الفضاء المفتوح إلى الجروح الزمنية العميقة، في هذه المدينة كل ما تبقى من إرث الماضي وتأريخ الأجداد هو اللغة الصومالية الجميلة، والهواء العذب، والفضاء الرحب، والسحنات المتشابهة بين  الموظفة الحكومية في هذا المطار وبين بائعات الشاي في سوق بَكاْرو، وسمرة قمحية تزينها الحجاب لصاحبة دكان كانت تجلس بهدوء عند الطرف الجنوبي لمدخل صالة الإنتظار.


التفكيك القصري لأجزاء دولتي لم يستطع أن يغير الإنتماء والديموغرافيا، ولا أن يزوّر الملامح والمطالب، هناك وخلف الأشجار الخضراء والأعشاب التي تتراقص على وقع الرياح وجوه صومالية تشبه القصائد،وهنا وتحت عجلات الطآئرة تراب أنتمي إليها وتنتمي إليّ رغم جور الإستعمار الأوروبي البغيض وجحود الدول الإفريقية المجاورة.

على مشارف تلك المدينة كنت بعيدا عن العائلة والأصدقاء والوطن، وإن كنت أعيش في داخل وطن كانت الأجداد يعتبرونه ملكا لهم، ووطنهم الأصلي منذ أن تمازجت القوميات وتباعدت الأمم، وأتضحت الحدود بين الشعوب القاطنة في الشرق الإفريقي المتميز بتعدد القوميات، وتنوع الإثنيات، وتباين الحضاراة، واختلاف السحنات، وكثرة اللغات، وعراقة العادات، والتقاليد المتكأة على تراث غني وتأريخ موغل في سحيق الأزمان.

تتابعت الأيام على وقع أنغام الحسرة والألم، وتركتُ المدينة وأنا أكفكف دموعي وأشتكي  ثقل شبح مخيف ينتمي إلى أزمنة مضت، وأتجهت صوب غاريسا العاصمة التأريخية للقومية الصومالية في كينيا، مدينة غارقة بالجنان طبيعيا، الليل دافئ  وتصدح الألحان الحالمة من مقهى شعبي عتيق شهدت التحولات الكثيرة والتغيرات التي طرأت على الحياة السياسية والمعيشية والإنتماءت المختلفة منذ أن قطعت بريطانيا أوصال الوطن الصومالي الكبير، ومنحت أجزأء منه للشعوب المجاورة، التي ستصبح لاحقا دول الجوار، في صفقة تعسفية لم ترع الجوانب النفسية، والوجدانية، ووحدة اللغة، والدين، والأصل، والجنس للقومية الصومالية التي باتت ضحية لتفاهمات سياسية وصفقات عالمية بين الدول الأوروبية الإستعمارية والدول الإفريقية المسيحية .


كانت الدول المستعمرة تخاف دولة صومالية قوية، تتمتع جميع مقومات القيادة، والنهضة، وعوامل التطور والتقدم جغرافيا وبشريا وإقتصاديا، لكونها دولة تقع في الممرات المهمة للتجارة العالمية، كما تطل المحيط الهندي وبحر العرب، ولديها عدة أنهار جارية طول السنة، وتتحكم مضيق باب المندب ،إضافة إلى المعادن والبترول، والثروات السمكية والحيوانية، ومقومات الزراعة التي تجعل الصومال الكبير من أخصب المناطق إفريقيا وعالميا، والعامل الأهم هو عامل الدين والتأريخ والزعامة، حيث الإسلام الذي كان الصوماليون يحملون لوائه يتزعم ويقود الحياة السياسية  والحراك الإقتصادي، وكان وعاء للثقافة والحضارة في شرق إفريقيا، وكان ينتشر ويتمدد في العمق الإفريقي وما وراء هضاب الحبشة والمعاقل الرئيسة للمسيحية بمقابل إنحسار واضح للمسيحية والأديان التقليدية الأخرى، هذه العوامل وأخرى غيرها حثت الدول الأوروبية الإستعمارية تضعيف الصومال وتمزيقها وتشتيت قوة شعبها وتفكيك مفاصل وطنها.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...