الأربعاء، 19 أغسطس 2015

أيام مع الكاتب حسن محمود قرني (هكذا عرفته )

شاءت الحكمة الإلهية أن نلتقي في مركز الأنصار في مطلع القرن الحالي (2001م)، كان المركز يضم أكثر من مائة شاب من أقاليم مختلفة، وبطون وأفخاذ متنوعة، جمعهم اليتم والتعليم، وجدران المركز الذي بدا وكأنه مقر للتدريب، ولكنه تدريب من نوع آخر، تدريب على الفضائل، والتربية على المكارم، وتعويد النفس على العيش بعيدا عن الأهل والأقارب، وعن مسقط الرأس، والمحضن الأول(حضن الأم).
لقد التحق المركز قبلي وكان من الأوائل الذين افتُتِح بهم المركز، بدأتُ أتعرف على طبيعة المركز، وممن يعيش فيه من التلاميذ، والأساتذة، وكافة الطاقم الذي يعمل فيه، كان من أولى الأشخاص الذين قابلتهم، جاء إليَّ كباقي الشباب يسألني ويتعرف عليَّ، رأيته محترما لدى الجميع، عند الطلبة، والأساتذة، حتى عند الحراس والطباخين، كان يتمتع بأخلاق عالية مكنته من خلق بيئة تتعامل معه بود واحترام وتقدير عالي.
لم يكن يوما متعجرفا متغطرسا مغرورا، بل كان متواضعا سهلا لطيفا، قريبا لدى الجميع، يخالط الصغار والكبار على السواء، يلاطف الضعفاء ويمازحهم، كما كان يجالس الكبار ويسامرهم برزانة، لا يولي ظهره لأحد طلب منه المعونة.
هذا ما لاحظت عنه في الأيام الأولى من حياتي في المركز.
تقدم في حفظ القرآن والدراسة
عند حلقات الذكر الحكيم كان آية في الحفظ والاتقان، وكان في حلقة الاستاذ المحفظ أحمد هادي، وكان متشددا في التحفيظ، لا يقبل التلعثم والتلكؤ عند التسميع، فما رأيته يعيده بآية، ولا وهو يضربه في غلطة غلطها، كان من الأوائل في المسابقات القرآنية التي تقام في المركز، إذ كان يحتل المركز الأول في أغلب الأحيان، كما كان من القلائل الذين ينتدب لهم في أن يمثلوا المركز في المسابقات التي تقام على مستوى المدينة، وكان يحرز الأرقام الأولى وبجدارة.
أما في قاعات الدراسة والفصول فحدث ولا حرج، إذ كان من الطلبة المرموقين المحببين لدى الأساتذة والطلاب، أودع الله فيه موهبة الحفظ والاتقان، فكثيرا ما يحفظ الدرس في أثناء الحصة، وربما لا يراجع إلا يوم الامتحان، أو لا يحتاج إلى ذلك.
وقد ظل طيلة فترة الدراسة في المدرسةالعتيقة (جوبا)منهل العلم والأخلاق، ظل رمزا للطبة المتفوقين الموهوبين الذين تشرفوا وتشرفت بهم المدرسة، ولقد خولت له تلك الموهبة (موهبة الحفظ) أن يظل من الأوائل في التحصيل الدراسي أيام الامتحانات.

البحث عن أسوة
وبما أني كنت وحيدا في المركز، بحيث كان لدى أغلب الطلاب أقرباء وإخوة في المركز يشاركهم في الأفراح والأتراح، إلا أنني كنت فردا فيه، لذا كان علي أن أكون حذرا متيقظا أكثر لما يدور من حولي، وأن لا أنشغل فيما لا يعنيني، لأن العيش في مراكز الأيتام وبدون  جماعة من الإخوة والأقارب تحتمي وتستقوي بهم في الصعاب؛ أمر مكلف وشاق، وربما لا يطاق.
لذا كان علي أن أتصرف بحذر، فوجدته الشخص الذي أعجبتني حياته، وطريقة تعامله مع الآخرين، وكيف يراعي واجباته الدراسية ولا يهملها.
هكذا رأيت منه القدوة المناسبة في الحفظ والأداء العالي في التحصيل، فكان يعجبني حفظه للقرآن والدروس، وحتى الأذكار والأوراد التي كان المربون يحفظوننا إياها، كما كان يعجبني كيف كان يحترم المعلمين والمربين، وكيف نال من تقديرهم واحترامهم له، حتى قدموه عن غيره في إمامة الصلاة، وجعلوه الإمام المعتمد في المركز.
حب القراءة والشغف المبكر للأدب.
كان يحب القراءة ويستملحها، وكان يمارسها كهواية في بادئ الأمر، حتى تحولت عادة وصفة لازمة لحياته، لا يفارقها ولا تفارقه، فكثيرا ما ترى الكتاب في يمينه.
كان يعشق الأدب والقصص أكثر، وكان يميل إلى الأشعار الغزلية ذات المعاني العاطفية، ولا أنسى تلك القصيدة التي درسها لنا بعد أن عمل في المركز معيدا، والتي كانت تتحدث عن ذلك الرجل الذي أسرف كثيرا على نفسه، وتجول في عواصم أوروبا متنقلا من عاصمة إلى عاصمة قائلا:
باريس تعرفني ولندن لم تزل  ****   ترنو إلى جيبي وحسن هباتي
وعيون مانيلا تراقب مقدمي
هذه الأبيات لا تزال عالقة في ذهني.
هكذا عرفته .. خلوقا وقارئا
كان خلوقا حقا، ومهذبا، دمث الأخلاق، لا تستوحش إن خلوت معه، ولا تنكر منه خلقا إن عاشرته، يعاملك بالاحترام والتقدير وبإحسان، لا يخدش مشاعر الآخرين، ولا يجرح قلوبهم، ولا يعتدي عليهم بقول أو فعل، بل يسعى وبكل ما أوتي من قوة أن ينفع الآخرين، ويسدي إليهم معروفا، أو يكشف عنهم غمة، بل طالما رأيته يسعى في إصلاح علاقة شخصين تعكرت وتكدرت، ويحاول إعادة فتح قنوات التواصل بينهم، وإعادة المياه إلى مجراها الطبيعي.
بعد فترة من الابتعاد، إذ فرقتنا الأيام بعد أن  تركنا المركز وخرجنا إلى الحياة، فشرَّق هو وغرَّبت أنا، وأنأت بنا المقادير، بعد هذا الفراق الذي دام قرابة ثلاث سنوات، التقينا في العمق الجنوبي من الصومال المحتل (قاريسا) سنة 2008م.
في تلك الفترة عرفته قارئا متمكنا، لا تراه يفارق الكتاب، جعله رفيق دربه في الحل والترحال، حتى كان لا ينام قبل أن يقرأ كتابا، وكان سريع القراءة، يكمل كتابا من الحجم المتوسط في سويعات قليلة، ولا أنسى تلك الليلة التي قام بقراءة كتاب كامل في حدود (200صفحة) قبل أن نخلد إلى النوم، فلما قال لنا أنه انتهى من الكتاب، استنكرنا أنا وأخوه الأصغر أحمد حتى قلت له: إن كان حقا ما تقول، قل لي خلاصة ما جاء في الكتاب، فأبهرنا جميعا بحسن تلخيصه لأفكار الكتاب وترتيبها، بل ونقد بعض مضامينها.
تزامن الأحزان والافتراق الطويل
لم أكن أعرف لِمَ كل هذا الائتلاف بين أرواحنا حتى زرته في نيروبي هو وأخوه الأكبر (عبدالرشيد) وأخته الصغيرة (هدن) وخالته (آمنة رحمة الله تعالى عليها) وهم يسهرون في رعاية أمهم الحنون، التي أنهكها المرض، وأتعبتها الآلام، حتى جعلتها طريحة الفراش بلا حراك، فاكتشفتُ حينها العلاقة الأخوية الحميمة بين الأسرة وأبي رحمه الله، فعرفت سرَّ هذا التآلاف، لأن دماء التحاب والتآخي والتعاطف والتراحم تسري في عروقنا، فلا غرو إذا من هذا الوئام القسري بين الأرواح.
بعد أسبوع قضيت في نيروبي رجعت إلى قاريسا، فما هي إلا أيام وأنا أتأهب وألملم حقائبي للسفر إلى حضن المحيط الهندي، إلى كسمايو الوادعة، حتى نُعيت بعمي (أبي الثاني) فكان من أول المعزين، والمتعاطفين مع مصيبتي، ولكن لم يكن هناك أحد يعلم ما تخبئه الأقدار، بأن تلحق أمه إلى ربها، تاركة الدنيا ومشاقها، فكان نعيها بالنسبة لي ألما على ألم، كما كانت المكالمة التي هاتفته معزيا عن وفاة الوالدة، المكالمة الأخيرة، حتى التقينا في كسمايو بعد ست سنوات من تباعد الشقة بيننا (2014م)، فالتقينا التقاء الروح بالجسد، وباح كل منا عما لاقاه وكابد في تلك الفترة من عناء الدراسة والتعليم، حيث ذهب هو إلى السودان، وانضم إلى جامعة إفريقيا العالمية، وأنهى هناك دراسته الجامعية، وعاد حاملا درجة البكلاريوس في الجيولوجيا.
عاد وقد ازداد حبا وشغفا في القراءة، ورزانة في الأخلاق، وحسن تعامل مع الآخرين.
عاد وقد انضم في سلك الكتاب والأدباء، بعد رحلة طويلة في القراءة والاستطلاع، والعكوف على الطرف والملح، وافتتح لنفسه مدونة شخصية ينشر فيها مقالاته ويتنفس فيها، ليبوح، عما يجول في خاطره من أفكار ومشاعر.
عاد وهو يحمل قلما سيالا يطاوعه أينما توجه، ويجود بالعبارات والكلمات الحسان التي يريد أن يعبر بها مآربه ووجدانه، فحبذا لو طوَّع قلمه للأدب الإسلامي، ليمثلنا نحن الصوماليين في هذا الميدان، وينتظم في ركب هؤلاء الأكارم، الذين يحملون لواء الأدب الرصين الأخلاقي في هذا الزمن من المنفلوطي والرافعي ونجيب كيلاني.
يسحرك بحسن عشرته
لا تمل من حديثه، يتحفك بملح الأحاديث وطرفها، مبسوط القلب واليد، محبوب إلى القلب والعين، يقابلك بوجه طلق بشوش، حتى إنه يقوم لك ويعانقك إن كان جالسا، ويستقبلك بحفاوة ولطف.
في مساء يوم الثلاثاء (11//8/2015م) قابلته في مقهى في (آرغو) aargo  فتوجهت إليه لأسلمه، وكان جالسا مع رفيق لنا في المركز، يحتسيان الشاي معا، فقام هو وعانقني ووجهه يتهلل يكاد أن يطير فرحا بهذا اللقاء، بينما الآخر لم يحرك ساكنا، وظل جامدا في مكانه، فرآى نفسه في مأزق وارتبك، فأراد أن يعتذر عن عدم قيامه، فجاء بعذر أقبح من ذنب!!!

ففكرت في الأمر، ورأيت أن هذا الخلق جاء منه تلقائيا وبدون تكلف، فيا له من سلوك رائع، وخلق جم، وحسن  معاشرة، وكريم تواضع، إنه خلق رفيع، وأدب رائع، يسحر العقول والقلوب، ويسرق الود والحب، ويسترق النفوس، وهذا ما حدا بي أن أكتب هذه الكلمات.
بقلم: شعيب عبدالرزاق

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...