الجمعة، 28 أغسطس 2015

صدى الأيام (6)

في وسط شهوة التسلط ونشوة الدمار  بدت الحقيقة كالسراب في وسط المراتع الظامئة، الجموع الصومالية تآئهة ولا تدري ماذا يجري وأين المخرج!، وبلهاء السياسة تحرق البلد من أقصاه إلى أقصاه، والمليشيات المسلحة تنشر الرعب والخوف وتنهب الممتلكات وتسرق الغالي والثمين وتزهق الأرواح بدم بارد، والملامح البرئية للوجوه التي تشبه القصائد تحولت إلى سمرة شاحبة، وأهازيج القرى الصومالية وألحانها الخالدة تغيرت إلى هدير للرصاص وزخات للمدافع وصراخ لبكاء الثكالي، وأنين للجرحى ودموع تقطر من عيني حزين، و أشلاء متناثرة للأجساد التي إلتهمتها القنابل ومزقتها الراجمات.

بدأت موجات النزوح وبشكل علني وواضح،! شاحنات مكتظة بالنساء والأطفال والشيوخ تخرج إلى جميع الجهات والأصقاع تنشدن الأمن وتبحثن السلامة، وتحولت الأحياء والمدن الصومالية إلى مغارات للصوص القبلية وقلاع لمصاصي الدماء وباحثي ضحايا الحروب الأهلية والصراعات العبثية للشعب الصومالي الذي يتقاسم أفراده البسمة قبل اللقمة، والنسب والدم قبل الإنتماء والدولة والقطر الجغرافي.

الحزب الحاكم والقادة العليا للدولة العسكرية تحاول الصمود ضد ضربات القوات المتحالفة والمعارضة المسلحة التي تبتلع الأراضي والأقاليم بسرعة جنونية لم يكن أحد يتوقعها، وسخرت الحكومة العسكرية أموال الدولة ومقدرات الشعب لدفاع هيكله وتأمين كيانه المتهلهل والمترنح بسبب العواصف السياسية والتجوية القبيلة وضربات المتمردين.

في الليل وحين يعود الوالد إلى المنزل كانت المكالمات الهاتفية تأتي من كل حدب وصوب كالرياح في أيام العواصف، ، وكان يتكلم بتشنج وحدّة، يضحك بهستيريا ويمازج بين الفكرة الجميلة، والرأي السديد، والحس الإنساني، وصخب الجمل والتعابير، ولكمات موجه للطاولة وربما للجدران المواجهة، ومرات كان يتكلم بصوت هادئ يحلل الوقائع، ويقدم الإقتراحات، ويعرض الحلول الممكنة للطرف الثاني للمكالمة الذي كان مجهولا بالنسبة لعنب .

كانت طيلةساعات اليوم بالنسبة لإبراهيم ساعات دوام ولحظات متتالية لهدير العمل، سواء كان في بيته وبين عياله وأسرته، أو بين الدوائر الحكومية ومقرات العليا للقيادة العسكرية أو السياسية، أو أجهزة أمن الدولة التي كان تباشر أعمال القمع والتصفيات الجسدية والنفسية للمعارضة المسلحة أو الأبرياء العزل على السواء، لأنه عندما تفقد الحكومة أعصابها الباردة وضاعت بوصلتها وفُقد الأمن والأخلاق يستوى الجلاد والضحية،! ولا يفرق بين برئ ومجرم، ولا بين مذنب ومواطن صالح لا يتعدى همه قوت عياله والمصارعة مع أعباء الحياة وصعوبة إيجاد لقمة عيش كريمة.

كان إبراهيم  كادرا من كوادر الدولة وضابطا رفيع المستوى من الحزب الحاكم أو قادة ثورة أكتوبر رغم أنه كان في الصف الثالث، إي من أصغر الضباط الذين إستولو على الحكم وقادو الإنقلاب العسكري صبيحة يوم 21 أكتوبر عام 1960م، في تلك الفترة كان ضابطا صغيرا وهامشيا جاء من الشرطة وخاصة من إقليم جوبا العليا الذي أحيل إليه بعدما رجع من العراق الذي أمضى فيه سنتين ونصف من التدريبات الشاقة ومثلها قضى في الإتحاد السوفيتي يتدرب على القيادة وتنمية مهاراته التنظيمية.
في وسط مروج الليل كان إبراهيم يتحدث بنبرة مرتفعة: (الحرب قد اقترب وبات يهدد على مشارف مقديشو، والأراضي التي تخضع تحت سيطرة الحركات المعارضة المسلحة التي تجد يد العون والمساعدة من المعسكر الغربي بقيادة حلف الشمال الأطلسي (ناتو)، وبعض الدول المجاورة التي بينهم وبين الصومال حالة عداء تأريخي ترسبت في الوجدان ويخرجها الإنسان من جوف الأم ومن رحمها ويؤمن بها إلى أن يتوسد التراب دفينا في جوف الأرض وفي لحد القبر، يتوسع كل يوم ويبتلع مدنا وقرى جديدة.

ومن الغريب أن بعض الدول العربية التي لانعرف هدفها من مساعداتها السخية للمتمردين باتت تضاعف أنشطتها العدآئية أخيرا ومنحت أموالا طائلة وذخائر ومعدات عسكرية  للجبهات المسلحة، ولا نعرف متي ينتهي هذا المسلسل المرعب والشبح المخيف؟!، في هذه اللحظة يتدخل حسن وهو الأخ الأكبر لإبراهيم وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ويصيح ولكن ما أعرفه ــ يأخذ نفسا عميقا ويقول بنبرة صوتيه لا تخلو من الإحباط ــ الجبهات المتمردة قويت شوكتها وسيطرت معظم الأقاليم والبلدان الواقعة شمال مقديشو).


كان أبوها يقول وبصوت مرتفع يحزن النفس ويضفي على الحياة ألوانا من المعاناة، ويدخل المرأ بحر شاسعا من الأسى الحارقة كألسنة اللهب هذه الكلمات المحبطة، تسآءلتْ عنب ببرآءة: الهذا تغيّر والدي في الشهرين الأخيرين، وهل بهذه البساطة ستنهار دولتنا القوية التي كان بالأمس القريب ندرس في المدارس أنها من الدول الرآئدة في محيطها؟ لماذا الحركات المعارضة لا تحاول أن تصل أهدافها بطرق سلمية تحقن الدم الصومالي وتقرب الوجهات وتحفظ التأريخ والتراث والتربة؟.

بدأت الأخبار الحزينة التي تأتي من كل حدب وصوب تحدث ضجة قوية في داخل عنب ،وبدا صوت الحقيقة يتموج في خاطرها الطريّ، رفعت حاجب الدهشة وشغرت فاهها الصغير رغم أنها كانت صغيرة والشباب في سنها لايفهمون التفاصيل وماذا يعني سيطرة الحركات المسلحة على الأقاليم وماذا سيفعلون إن هم سيطرو، ولكنها كانت ذكيةحساسة وذات قوة تحليلية عالية حتى وهي في هذا السن الصغير، وهذا ماجلب الشقاء والمعاناة التي كانت أصحابها وأترابها من البنات وحتى الأولاد بعيدين عنها ولا يعرفون عنها شئ سوى الأخبار المتلاحقة وتغير ألوان الحياة في كل ركن من أركان مقديشو.

قديما كانت غير عابئة ما يجرى في الوطن، وهذا طبيعي جدا لمن كان في سن عنب الصغير، ولم تكن تعلم الحركات التخريبية ولا الجبهات المسلحة سوى ماكان يترشح عن أبيها حين يدخن سيجارته الفاخرة ذات النكهة اللاتينية وينبعث الدخان الممزوج بالحرقة إلى السماء بمزيد من المرارة والتذمر  وصوت عقل أعياه طول النظر و تصاريف الخيال، ولكن في الأشهر القليلة الماضية بدأ قلبها ينبض بخوف وخيالها يسرح بحزن، ورأت نفسها وهي تتفاعل مع ألم الواقع وآمال المستقبل.

كانت تمني نفسها بتغير الأحول وتحسن الأوضاع وتلاشي شبح الصراعات، وكانت تراهن على الغد الذي لا يأتي حينما يتبلد العقل، وتموت الفكرة، ويذهب الحس الوطني ويتوارى الوازع الديني عن الأنظار  إلا أحلاما محطمة، وخيبات متتالية، وهدير الآلات العسكرية ومزيد من السوء والسواد، وأمواجا من المعاناة والتشريد، وأطنانا من الحقد والكراهية التي تقود الجميع نحو الهاوية السحيقة ونحو الإحتراب ونهب الخيرات وبيع الوطن ومزق الشرف وكب الملح في جرح الكرامة النازف.

لم تكن ليالي السياسة الصومالية في بداية العقد الأخير من القرن المنصرم  ليالي صافية الجبين، ولم تكن أحلام عنب أحلاما تتحقق وأمنيات مشفوعة بالحقائق ومواكبة مع روح العنف والعنف المضاد الذي غطى على جميع الملامح والطبيعة السمحة للإنسان الصومالي الذي تحول بعوامل كثيرة إلى حيوان كاسر لا يأبه لأحد، بل يسعى إلى السطو والسيطرة والتخريب ودخول الوطن في أتون حرب لا يبقي ولا يذر.

كانت الحكومات المتعاقبة طيلة الثلاثين السنة الماضية حكومات لم ترتقي إلى طموحات الشعب ولم تصل أو تقترب أجنداتها إلى السقف العالي والأماني المشروعة للأمة الصومالية التي كانت تنمي النفس أن تصل إلى أهدافها وتحقق أحلامها سواء كانت من الناحية الحياتية أو من الناحية القومية والبحث الدوؤب لبقية الأجزاء الصومالية التي منحها الإستعمار لدول الجوار بطريقة مثيرة للسخرية.


الحكومات المدنية منذ كانت تتصف بالضعف والهشاشة والجهوية، وكان الفساد ينخر في جسدها المتهالك، بل كانت النعرات القبلية سيدة الموقف، وكانت الأحزاب تتشكل بطريقة غير قانونية، بل كانت كيانات قبلية وتحالفات أسرية بإسم الأحزاب، ولأن كل قبيلة شكلت حزبها الذي سيكون واجهتها السياسي في مواسم الإنتخابات سادت الفوضى السياسية والضعف الإقتصادي والتخبط الأدائي لجميع جسم الدولة وأجهزتها المختلفة في ظل وجود قيادة صومالية لا تستطيع تغلب المشاكل ــ وإن كانت مثقفة وواعية ــ لأن الخلافات السياسية والكيانات الموازية للدولة والبغض الذي لا مبرر له جعلها أضحوكة الميادين ومنبع النكت والظرائف للشعب الصومالي الذي يجري الشعر والحكمة في عروقة.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...