الخميس، 16 أبريل 2015

الرحيل نحو المجهول(6)



حضرت العمل في اليوم الأول مفعما بالأمل ومسرات الأحلام التي تحققت قبل أن تهرم، ورغم أن الدوام كان طويلا (12ساعة) متواصلة إلا أني كنت متفانيا ومخلصا للعمل، أعمل وأكدح وأتعب دون أن يثني التعب عزيمتي أو يكسر الإرهاق إرادتي، وكنت أشعر بحماسة شديدة كلما أسير نحو الهدف المرسوم في مخيلتي بدقة توازي دقة الحرمان والمعاناة التي عانيتها في حياتي، الإكتفاء الذاتي وبناء شخصيتي وحياتي الخاصة بعيدا عن الأهل والأقارب، وبؤس البطالة وحمرة الخجل التي تعتريني عندما أفتقد أبسط أنواع الإحتياجات لقصر اليد وصعوبة الحياة كانت أمنية تتسع كلما أنسج خيوط الأمل وحيدا في جزيرة الشقاء والكآبة، أو اسكب عرق الإجتهاد عاملا أو باحثا له، وكنت أدرك أنني أصنع التغيير من هذه الخطوات رغم بساطتها، وأرسم المستقبل، وأنسج خيط التقدم كل يوم.

كانت روح القيادة، والتفاني، والشعور بالحيوية، والجدية المطلقة، والحب الكبير للفريق العامل معي سمتي البارزة منذ أول اليوم بدأت العمل في الشركة، وساعدتني كثيرا التغابي عن الأخطاء الصغيرة ومشاركتي لأفراح العمال وأتراحهم، وكانت طبيعتي الهادئة، وشخصيتي المرحة ووجهي الذي لا تفارقه البسمة، ودماثة خلقي تخلق لي جوا مهيأ أينما حللت وتبؤات.

بعد ستة شهور ونصف من العمل المضني والكد والكفاح والسهر الليلي للتقدم نحو بناء شخصيتي، أصبحت رئيسا لقطاع مهم للشركة فزاد أرباح هذا القطاع الذي يعد شريان الشركة والرئة التي تتنفس منها بشكل مطرد ولافت للإنتباه، وكعادة الرفقاء والزملاء في العمل بقدر ما ملأ نجاحي قلوب بعض العاملين بالحب والتعلق والقدوة، فقد ملأ قلوب بعض الآخرين بالبغض والكراه حتي الموت، وحاول بعضهم النيل من شرفي وكرامتيّ، إنها الدنيا وتلك شجونها يعيش بها عات زنيم وطيب كما قال الشاعر قديما.

درتُ قطاعي بحنكة كبيرة وحكمة عالية، وبما أن التّجانس والتفاهم عنصر مهم جدا في جودة العمل وحتي الحياة إهتمت كثيرا روح التناغم والتنافس الشريف في داخل الفريق، ونميت إستشعار المسؤلية وروح الفريق الواحد في القطاع، حتي ساد بين أعضائه الإحترام وقبول فكرة الآخر والإبتعاد عن تجريح الذات والجدل البيزنطي والنقد إلا أن يكون بناء يصحح الأمور ويرقي العمل ويطور بئية العمل.

لم أكن من الرجال المسلطين على العاملين وممن يلقى ظهر العامل الكادح بأعباء ثقيلة، بل كنت شخصا يشعر المرأ بكنفه الراحة والهدؤء رغم أني قوي الشخصية ذكيا أعرف ما يدور في مخيلة العامل قبل النطق أو أكاد، وكنت أحمل همّ العمال أتفقد عن أحوالهم وأشارك في مناسباتهم وأتراحهم وأفراحهم بقدر ما يحفظ الخيط الرقيق بين المشاركة الحاملة للإحترام والمخالطة التي تجعلك ساذجا غوغائيا وضعيفا في عيون العمّال.
وبعد أن أصبحت رئيسا لقطاع مهم من الشركة العملاقة وكونت شبكة من العلاقة الممتدة بإمتداد المدينة، بدأ العمل يدر على أموالا لا باس بها، وارتفع راتبي إلى درجة كبيرة، وأصبحت حياتي هادئة مطمئنة تسير بخطى ثابتة نحو المجد والعلى، وتمشى على أكمل وجه ولا يوجد ما يكدر صفو حياتي إلا التوحد مع الألم والرواسب الماضية وبعض الخلجات التي تجتاحني بين حين وآخر.

على كنف العمل بدت حياتي وكأنها مستقرة، وخيّل إلى أن سفينة الحياة ألقت مراسيها بأمان على شاطئ السلامة، وأني خرجت سالما عن طوفان العطالة وأمواج البطالة العاتية، وأن نفسي ُحق لها أن تستريح بعد عناء الكفاح والسفر الطويل من أجل تأمين المستقبل، والمسيرة الشاقة نحو المجهول الذي كابدت فيها المتاعب وواجهت المصاعب الجمة.


ورغم الأمل الذي ملء جوانحي وجعل أيامي كلها خضراء كعزة الربيع، إلا أن الأيام حبلى بالمتناقضات والمفاجآت بشتى أنواعها، ولا يدرى الإنسان بما تلد ويمر الليل ويعقبه النهار ولا نعرف ماذا سيخبؤه القدر لنا، ولا بما ستؤل حياتنا ولا ما هو مصيرنا المحتوم.!
تخلصت من الذاكرة الخازنة للخوف، وتشابكت الخيوط والذكريات، وتفتحت مداركي، وبدأت مشاعري تعزف ألحان الحب والحياة، تعبت من الغربة وتحملت ألم الوحدة دون رفيق أو أنيس، والتوحد الكامل لهواجس الحياة جعلني أشعر وكأنه وصل شئ ما إلى قلبي وتسرب إليه خلسة،! رغبة جارفة لشئ يشبه الشبح لا يرى فيه بشكل واضح، بدأت نفسي تبحث عن شئ لاأعرف كنهه، بل أعرف أن روحي تاقت إليه وترنوا وتلهث الروح من أجله.

الهتافات الكثيرة والصرخات المدوية في داخلي شوشت عني فصاحة الصوت وذبذبات الصدى، وحالت دون أن أقع أسير بيانه، ولكن أحسست هاتفا يهتف في داخل قلبي المضني حبا وتعبا إكتمال نصف ديني ومواصلة العمل والإجتهاد في تحصيل الجاه والمال كي أعيش حياة طيبة وسعيدة.

واصلت العمل فكانت حياتي عادية وبهيجة كغيري ممن إبتسم له الحظ أخيرا، وبعد سنتين من العمل الدوؤب والنضال من أجل تحسن مستوى المعيشة، ولم أعرف فيه يوما عن عدم الذهاب إلى العمل في الصباح الباكر والرجوع متأخرا في المساء وقبل شفق المغيب كونت ثروة مالية كانت في الماضي القريب درب من الخيال! أو لا تخطر في بالي وأنا على أعلى تلال الأماني والنزق وسراب الآمال المنعش، ولا يمكن لدنيا الخيال العذب أن تتصور ولا أن تمثله أمامي حتي في حلمي الجميل الذي كنت أخاف أن أستيقظه.

عشت حياة سعيدة تنبض بالعمل والنضال من أجل تأمين مقومات الحياة الكريمة، ولكن دائما أعداء النجاح كثيرون والساعات الجميلة قصيرة ولا تتكرر، وكل شئ مهما كان يدور بسلاسة بديعة وبأريحية مبهرهة لا يكدر صفوها ولا تعكر عبقها فإنه معرض للخطر والزوال ودوام الحال من المحال، وترقب زوالا إذا قيل تمّ، وكلما يرفع الإنسان لبنة في بيته تهدم أخرى في الزاوية المقابلة، وكلما تم بناء صرح عظيم يتصدع المبني وينهار، وكلما نسجنا أحلام اليقظة في المنام فعندما نستيقظ تؤلمنا الحقيقة، هذا هو واقع الحياة وأوجهها المتعددة.

في الساعة الحادية عشر صباحا في يوم ربيعي غزير المطر والبرد يصعب على المرأ أن يخرج حتى إلى فناء داره ناهيك عن الدوام لساعات طويلة، كنت وكعادتي أجلس في مكتبي الخاص، الواقع في الغرفة السادسة من الطابق الثاني للعمارة المكونة من خمسة طوابق، كنت أراجع الحسابات منهمكا بالإتصالات الهاتفية والرسائل النصية القصيرة التي تصلني من الزبائن وشركاء العمل مما جعل جرس جوالي لا ينقطع عن الصلصال والرنين.

كنت أدير قطاعي الذي أصبح كبيرا ومرموقا بالجد والحكمة والرصانة، وتشعبت مهمامه بمرور الزمن حتي شمل جميع أرجاء الوطن من مدنه وقراه، وبإدارتي الجيدة ونظري الثاقب وسلوكي الودي كسبت قلوب الملايين من المستثمرين ورجال الأعمال، وكونت معهم علاقات وطيدة وزمالة إقتصادية متينة مبنية على الإحترام والتنافس الشريف، وتراعي القواعد التجارية، مما أثر إيجابا على سمعة ودخل الشركة ورفع أسهما عاليا في سوق البورصات والسندات المحلية.

كنت أراقب العمال عن كثب، أنصحهم وأرشدهم وأصحح أخطائهم، وأذكر للموظفين أهمية العمل وتقديسه والأعمال التي يجب أن نبدأ في يومنا، وأعد لهم ورشات عمل لتنمية قدراتهم، وسمنارات لرفع الكفاءة والجهوزية والخبرات لدى العامل، لأني أعتقد أن التدريب هو عملية موازية للعلم والمعرفة لا يقل أهمية عنهما، وإذا وجدنا إ نسانا متدربا ومتعلما يسير الإقتصاد إلى الأمام ونحو الأهداف المرسومة، وكنت أجهز كل إسبوع خطة عمل متكاملة، وجوائز للموظفين الجيدين في هذا الإسبوع شحذا للهمم وليخلق جوا تنافسيا في أروقة القطاع، فكان هذا بمثابة حافز للعامل المخلص المتفاني وتوبيخا وجلدا للذات للقاصر المتكاسل.

ولد من رحم العمل الجاد والجهد الدوؤب حالة تنافسية حميدة تقوم على المبادئ السليمة، والأسس الصحيحة للإقتصاد المتعافي، وبدأ كل قسم ينافس على الآخر في الجودة، والإنتاجية، والتسويق، والإخلاص، وساد الإنضباط، والنظام في القطاع، حتي أصبح معروفا بالنزاهة والبعد عن الفساد، وتبييض الأموال، والإختلاس، بقدر ما كان مشهورا بالنزاهة والإخلاص، والجدية، والمثابرة، والنشاط المنقطع النظير.
خصصت ساعة في كل إٍسبوع أجلس مع الموظفين في القاعة الرئيسة للقطاع،أتلقي شكواهم وأستمع إلى نصائحهم ومقترحاتهم وآرائهم، فكانت هذه الساعة بمثابة متنفس كبير لهم، وكنت أدون الملاحظات وأسعي إلى تطبيق مما نرى أنه يرفع الكفآءة ويقود القطاع إلى النجاح والتقدم.

كنت أحار ب الفساد الإدارى، والعمل على أساس القرابة والجهوية أو الإنتمآت الفكرية، كما كنت أحب الكفآءة والخبرة والإخلاص والمعاملة على كل شخص بما يليق وحسب علمه وعقله وانضباطه وجديته في العمل، وفي سعي مني إلى التكافل الإجتماعي بين العاملين خصصت مبلغا من المال ليعين ذوي الإحتياجات الخاصة من الموظفين والعمال ذوي الدخل المحدود كي يضيفوا إلى راتبهم مما يجعل العمال أسرة واحدة ويوحد افكارهم وطموحاتهم ويجعل الجميع يحب الشركة ويريد لها الإزدهار والتطور والخطى إلى الأمام والتطلع الدائم نحو مستقبل مشرق وباهر.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...