الخميس، 9 أبريل 2015

صدى الأيام 4



في هذا الجو الملئ بالمحبة والود نشأت عنب كزهرة تفوح عنها ريح الجنان وأريج الشذا، أو كوردة نبتت على جنبات الغدير الصافي، كانت تتنقل بين الجمال والحياة المترعة بألق المحبة كفراشة السواقي حرة طليقة، تختار أطيب الكلام، وأجمل الثياب، وأحسن المعيشة، وأنبل الأصدقاء، ولم تكن الأسرة لتقول "لا" لكلمة خرجت من فم عنب مهما كانت، لأنها كانت رمانة الأسرة وبهجة البيت، تدخل السرور والفرحة في قلوب أهلها ومن عاش معها، وبمجرد رؤيتها تبتسم أو تقبل بوجهها الطلق وطلتها البهيّة ترتفع معدلات السعادة في قلوب محبيها.

وفي خلقتها هي فرعاء، وضاحة الوجه، جميلة، ومهذبة، ومرموقة بين أترابها وخلانها من الطلاب والفتيات اللآئي يعشن في هذا الحي الجميل الذي يعج بجميلات آسرات كعنقود الثريا يأسرن القلوب، ويبهرن اللب، ويذهبن العقل بجمالهن الآخاذ وغموض العذارى على تقاسيم وجوههن، وضحكاتهن الإستفزازية في الليالي القمراء.

كان المرح والحبور والساعات الجميلة التي تقضيها الأسرة على أجنحة الحب والأمل عنوان حياة هذه الأسرة السعيدة، ولم تكن تعرف أن الحياة ستتحول إلى كابوس مرعب، وتشرد مؤلم، واللجوء إلي الدول المجاورة بحثا عن أمان ركب على كف عفريت في وطنهم، أوحياة أفضل تذهب البؤس والشقاوة إلى الأبد، رغم أن الغربة مهما كانت جميلة ومتناغمة مع تطلعات المرأ هي مجموعة من اللواعج والتوحد مع الألم، وأشواق حارة إلى الوطن الذي نفر عنه إلى المجهول.

ولم تكن تعلم "عنب" أن الزمن سيدور دورته الطبيعية حتى تركب هذا الفتاة ذات الوجه البرئ، والملامح الصبيانية، والأحلام الأرجوانية، صهوة زورق صغير تحوم حوله الأسماك والقواقع وأنياب الموت يشق عباب البحر نحو الدفء والسلام المفقودة في وطنها، وأن الليالي القرمزية والسعادة الطافحة ستحل محلها ليالي مظلمة وصامتة وأياما حزينة كالجنائز.

لم تكن تتوقع مخيلة "عنب" التي تبحر في صفحة السماء الزرقاء بعد شفق المغيب أن تحدث تلك المآسي وهذه الفواجع، لأن الحياة في الوطن كانت جميلة هادئة، وتسير بوتيرة روتينية لاتتغير، أمن وطمانية في الشوارع والأزقات، وزحمة وإنهماك للعمل في المقرات الحكومية، وأسواق رائجة وتجارة ابحة، ودراسة وأساتذة أكفاء وطلاب في غاية الجمال والتهذيب في المدارس والمعاهد والجامعات، وحب وحنان ووئام في البيوت التي لم تعرف التشرذم، والموت الجماعي، وحياة النكد.

السيّاح يملؤن في كل مكان، والمناطق السياحية والأماكن الحيوية للوطن تعمل وكأنها خلية للنحل لا تهدأ، إلا أن جاء ذاك اليوم الذي غيّر مجرى التأريخ للأمة الصومالية وانتهى بسببه الأمن والدولة ومظاهر الحضارة والتمدن، وغاب الجمال الروحي، وتوارت عن الأنظار طبائع أصيلة وخصال حميدة لهذا الشعب الذي تحول بين ليلة وضحاها مجتمعا همجيا يحارب الجمال ويسعى نحو تدمير الحياة وإغتيال الآمال، وأمة بربرية تقتل الأرواح، وتسيطر الممتلكات، وتنهب كل شئ حتى الحجر والشجر، وتشوّه التأريخ وتمزق الجغرافيا، بعدما كانت أمة متصالحة مع نفسها ومع الأمم الأخرى.

ذات مساء مشحون بالأغاني الكلاسيكية الصادحة من راديو مقديشو، كانت عنب تشاهد التلفزيون المركون بدقة في غرفة والدها،كانت روائح السجار تفوح في كل مكان، والغرفة ملئية بقصاصات الورق المتناثرة في كل ركن وزاية، وأوراق مظروفة، وعدد مختلف من الجريدة الرسمية للدولة "نجمة أكتوبر" وهي الصحيفة الوحيدة الصادرة من مقديشو بعد أن ضيقت الحكومة الخناق على الصحافة بكل أنواعها وإنتمآتها.

أرادت "عنب" أن تقرأ ما كتب والدها في الأوراق المتبعثرة على الطاولة وفي السجادة الحمراء المفروشة في الغرفة، يبدو أن أبي كان يفكر كثيرا لأنه شرب السجائر بنهم شديد، ولم يكن ديدنه أن يشرب أكثر من علبة سجار في اليوم الواحد، هكذا تمتمت عنب وهي تسعل بسبب قلة الهواء وسحب الدخان المنتشرة في داخل الغرفة الصغيرة، وقبل أن تصل يدها إلى الطاولة كان صوت والدها الجهوريّ يخترق سكون الليل وصوت المزامير والألحان المتدفقة من نهر الأغاني المحفوظة في سجلّات راديو مقديشو صوت الدولة والشعب في تلك الحقبة من تأريخنا.

عنب...! عنب...! عنب...! ماذا تفعلين هنا يا صغيرتي؟ وماذا تشاهدين؟ أين واجباتك المدرسية؟ ولماذا لاتساعدين أمك؟ إياك ان تقرأئي الحماقات المكتوبة هنا، والأراء السيئة المكتوبة في هذه الأوراق، الأوراق هذه لا تحمل أي شئ سوى العبث، كنت ألهى نفسي وأهرب من الملل والسآمة، فكتبت أشياء غريبة وأنا أتحدث مع العميد: أحمد الطويل في أول الأمس وهي ترهات وكلام غير حقيقي ليس إلا.!

ظن إبراهيم أن عنب قرأت الرسائل المتناثرة في الغرفة، وهذه الرسائل لم تكن رسائل سرية فحسب، بل كانت رسائل تبادلها إبراهيم مع مدير التعبئة والتوجيه للحزب الإشتراكي الثوري الحاكم المخول من إعداد تقرير حول مايجري في الوطن، ومدى قوات الجبهات المقاتلة في طول البلاد وعرضها، والبحث عن متانة العلاقة بين الجبهات المسلحة والجهات الخارجية، إضافة إلى الكيانات الرئيسة الداعمة لهذه الحركات، ومعرفة من ينتمي لهذه الحركات في الدوائر الحكومية سواء في داخل الجيش أو كوادر الحزب أو القطاعات الحيوية الأخرى.

كان إبراهيم ينأي عن أفراد أسرته معرفة المستقبل القاتم والحاضر المأساوي، والكوارث القادمة والخطر الأكبر التي قد تداهم في كل لحظة ودون سابق إنذار، لأن الدولة بدأت تترنح وتنهار، والظروف مهيأة لبدأ أعمال العنف والتخريب، والإقتتال الداخلي، والغرق في الإحتراب الأهلي والصراع العبثي الذي لايعرف أحد متي سينتهي إن بدأ في داخل وطن كان الكبت والإضطهاد الفكري والممارسات الإستبداد شعاره منذ عقدين ونيف من الزمان.

عرفت "عنب" أن الوضع الداخلى للدولة الصومالية بدأ يتآكل يوما بعد يوم، وفقد الناس الثقة بالحكومة والدولة الصومالية، الحالة الأمنية هشة للغاية، والإقتصاد يعاني من الركود، والهئيات الرسمية عمتها الفوضى والمأزومية، وأن مدينتها قابلة في مرحلة حرجة، وأن الوطن قد يدخل في أتون حرب أهلي لا يبقي ولايذر، قضت "عنب" هذه الليل سهرانة تناجي الدجى وتحكي للسكون أحلامها البرئية وتطلعلتها المشروعة، لم تذق لذة الكرى بل كانت الشجون والتصورات المرعبة توردها في كل مورد.

وفي الصباح ذهبتْ إلى المدرسة برقفة صديقتها فرتون، تبادلا التحايا والإبتسامات المعهودة، "عنب" سارحة في التفكير والتأمل في الأفق البعيد، كلامها متهدج، وخطواتها وئيدة، وباردة في التفاعل، نظراتها زائغة، وعيونها مجتهدتين كأنها لم تذق لذة الكرى إسبوعا كاملا، فطنت فرتون الحالة السئية التي تمر صديقتها الوفية "عنب" فبادرت السؤال ما بكِ يا "عنب"؟ كنتِ شعلة مضئية من النشاط والحيوية، واليوم أرى وجهك الشاحب وتعابيرك الخانقة وكلامك الفاتر وجسدك المنهك.

أطرقتْ عنب مليّا فرفعت رأسها قائلة: لم تكن مقديشو في هذه الأيام تلك التي عرفناها وعشنا فيها أياما وسنوات لم نسمع فيها سوى نبض الحياة وإيقاعها المتميز والأخوة الصادقة، والإنسان الصومالي الودود الذي يقدس الحياة، وينضح حبا وعشقا لوطنه وأمته، ويموت من أجل الحرية وحفظ الممتلكات ومقدساته، الشوارع ملئية بالوحدات العسكرية المختلفة، والمليشيات القبلية تعبث في الأرض فسادا متسترة جنح الظلام، والأدهى من ذالك أن الشرطة الصومالية التي كات عنوانا للأمانة والإنضباط العسكري بدأت تتهرب من مسؤليتها، أو أصبحت تساعد الفوضي والإجرام.

وفي الليل نسمع أصوات الرصاص في ضواحي المدينة والأحياء البعيدة التي تقع تخوم العاصمة، وسمعت من أبي وهو يتحدث مع صديقة فارح أن النظام العام للدولة الصومالية بدأ يترنح، الأقاليم تعاني من الحروب والجبهات المعارضة القوية، والحصار الخارجي قد اشتد، والوزارات لاتعمل منذ شهور ولايوجد من يحاسبها أو يسأل عنها، وأموال الدولة ينهب في عز النهار، والبنوك الصومالية أفلست تماما، وحركات النزوح بدأت وبشكل علني في مقديشو والمدن الكبيرة في الوطن، والله وحده يعلم ما ستوؤل إليه الأحوال إن استمر الوضع هكذا وبدون تحسن في الشهور القليلة القادمة.

هكذا قالت "عنب" لصديقتها فرتون وهما يجلسان على الكراسي الحشبية لباحة المدرسة، أجابت فرتون أن التغيير الذي طرأ على العاصمة أدى إلى التمايز القبلي، وظهر في العلن أساليب ونمط لم يكن يعرفها أهل مقديشو الطيبين، فكل مكان ذهبت أليه يقال لكِ من أي قبيلة أنت؟ أو من أي إقليم تنتمي إليه ليستنتج المهوسون بالقبائل عبر الإقليم القبيلة التي تنتمي إليها؟، وهل أنا أنتمي إلى قبيلة أعرفها؟ أنا أعرف جيراني وأصدقائي في الدراسة والمدرسة والحارة، والمحير أني لا أعرف قبيلتي ولم أسأل أبي من أكون وما قبلتي!، قاطعت "عنب" كلام فرتون وهي تنظر إلى الأفق والمرح الطلابي الذي ملأ ميدان المدرسة، لا أدري ما ستؤول إليه الحال ولكن الوضع قاتم جدا يا فرتون ليحفظك الرب ويرعاكِ صديقتي.

إنتهى الدوام المدرسي وذهبت "عنب" إلى بيتها وفي الطريق كان كل شئ مختلف ومتغير، الحركة قليلة جدا وكأنها الأعياد الوطنية أو العطلات الإسبوعية التي تقل الحركات وتكون الأسواق الميادين فارغة، المحطات التي كانت تعج بالناس لاتجد فيها سوى الأوراق التي ترقص على وقع الرياح، والمقاهي المزدحمة لاتجدها سوى الموظفين أصحاب العيون الناعسة والتثاؤب المستمر، لم تدرك عنب بعد أن ساعة الصفر قد اقتربت وأن الوطن سيدخل في أتون حرب سيستمر أكثر من عقدين من الزمن، وأنها ستدخل معاناة تصاحبها حتى بعدما تخطت الحواجز والحدود وذهبت بعيدا في عمق المنافي وفي سراديب الغربة القاتلة.

وصلت "عنب" إلى بيت أسرتها وهي خائفة وجلة تتسارع نبضات قلبها فشرعت إعداد شاي العصرية الذي هو من أعرق التقاليد الصومالية، إن لم يكن واحدا من أكثر التقاليد إنتشارا عند الأمم الشرقية قاطبة، جلستْ على عتبة الباب وهي تفكر وتحاول فك شفرات المستقبل وقرآءة آلة الزمان، لم تشارك السمر مع الأسرة والضحكات الطائرة عندما عزفت الشمس لحن الغروب ورسم المغيب في الأفق لون السواد والعتم.

كان الليل ملئيا بالهواجس المخيفة والتصورات الكريهة، نامت أو بالأحرى إستسلمت إلى الكرى ورمت نفسها في حضن النوم الهادئ، ولكنها لم تجد النوم التي كانت تطلبها وتمسح عن ذاكرتها الخوف ورجفة الخلجات الكريهة بسبب الأشباح المخيفة التى كانت تتراقص وراء ضباب الذاكرة وتهاجمها كل مرة، لم تطبق جفن على جفن في ذالك الليل البهيم وبحرت في أمواج السهر وذبذبات الأرق، وكان صدى صوت صاحبتها فرتون يردد طبلة أذنها التي كانت تسمع طيلة اليوم ألقابا نابئة وأوصافا كريها أصبحت عادية في الآونة الأخيرة، وبزغ الفجر الذي كان يحمل لعنب شعورا متناقضة وأحاسيسا غريبة.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...