الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

دمعة في محراب الحب


 
  في مساء قرمزي شفاف رصعت السحب المجلجلة في الأفق ألوانا زاهية وقوس قزح جميل ممتزجة بصفاء الوجدان وجمالية الأشياء، كنت أرتشف قهوة المساء  ـ التي أصبحت طقوسا أمارسه ـ في مقهى شعبي تقع فوق تلة مرتفعة تطل علي المحيط الآسر ببهائه، الأجواء هادئة، والنفوس مالت إلي الأحاديث الجانبية الشيقة والإتكاء علي كتف المحيط، والأمواج تداعب الرمال والزوارق المركونة في المرافئ برقة ولين، والأشجار تعانق البنايات الشاهقة وبقايا الأطلال الصامدة رغم جرف الزمن وأصداء السنين، والنسيم العليل يغازل الحوريات اللائي يجلسن فوق المقاعد البلاستيكية والطاولات المستطيلة المطرزة بالأزرق الصافي لون العلم الصومالي وهن منهمكات باللمسات الحانية علي شاشات هواتفهم الذكية والإبحار في عالم الهواتف الجذاب، وأحاديثهن النسوية المفتوح وثرثرتهن التقليدية الصاخبة يجعل المكان وكأنه حفلة نسوية بإمتياز.

الأجواء السريالية للمقاهي الناعسة علي أهداب المحيط التي تصدح عنها الأغاني الكلاسيكية ذات الأوتار الشجية، ورائحة القهوة المميزة التي تنزلق إلي الفم كسرعة الضوء وتحول الأمزجة وتؤثر الخلجات، وأحاديث الأصدقاء على وقع شجى الذكريات وشجن الأيام، وملاحة الوجه وصباحة القد، والنظرات القاتلة، والقامة الممشوقة كالسنديان، والمشاعر الحالمة في محراب الحب كشبيللي الذي يفيض حبا وحنانا، والطبيعة الآسرة، وعرش الغروب وشفق المغيب، والأسواق الملئية بالمارة والمتجولين، والأرصف الباردة للمدن والقرى دائما ما ترسلني إلي سحيق العواطف وقعر المشاعر المكبوتة.

غابت الشمس وراء التلال وخلف المباني الشاهقة والبيوت الكثيرة والمتلاصقة كضاحية مهملة لمدينة إفريقية موغلة في القدم والعراقة، وأرتفع صوت المؤذن لمسجد عمر بن الخطاب العتيق المحاذي الثكنة العسكرية للبحرية الصومالية، صوت المؤذن كان يأتي وراء السنين التي تجاعيد وجهه تقول أنه في العقد السابع، وكان المايكرفون يعاني من الشيخوخة وشوشة الأصوات التي تجعل الآذان مزيجا من الكلمات والبحة والأصوات المرتفعة للمكبر.

في هذا الجو البانورامي الذي عم الأرجاء بدأت السماء تمطر رذاذا، وبدأت أعزف ألحان الحب وسيمفونية الصبا الشجية وأنا أهرب من السآمة والملل، وهاجمتني الأفراح كقطرات الندى أو كشروق الشمس بعد سواد الليل، أو أضواء الشموع التي تتراقص علي عتبة معبد مهجور في مدينة لاتينية باذخة بنكهة سيجارها الفاخر وتشكيلات المافايا تجار المخدرات، واللمسات الفنية المبهرة للساحرة المستديرة..

أمامي وعلي يمين المقهى فتاة حالمة تشبه الموناليزا الخالدة برشية الفنان الإيطالي الكبير ليوناردو دافيتشي،!تطرب مع أمواج البحر وكأن للبحر طبول وأنغام تتكلم،! جسدها مكتنز باللحم والنضارة، وتشع عن عينيها لحن الغرام وسريان الحيوية وهي تقفز وتترنم وتصغى إلي هدير الطبيعة وصخب الأمواج، عينان مستطيلتان برئتان كمقل الطفل في مهده، وشخصية متسامحة كزهرة البرسيم، وأناقة نادرة وأنوثة متوثبة تنافس السنابل والأشجار جمالا وبهاء.

يفوح عن جسمها عبق البخور التي تهديها نسمات المحيط إلي جسمها الذهبي وبشرتها السمراء النقية، وتتبختر كغانية في حلتها أو كملكة في بلاطها الأميري، وتنثر لحن الحب علي القلوب المجدبة، وتتمايل فوق الرمال الحريرية وبين الكراسي البلاستيكية والبيوت العتيقة والأزقات الضيقة، والدروب المحيطة علي المحيط، وفي تمايلها تتولد النغمات، وتتراقص ضفائر شعرها الأسود الفاحم كألوان ساحرة زاهية على ظهرها المصقول وتحت خمارها الشفاف ووشاحها العبق.

نظرتُ إليها بعيون تحمل سهام التعلق وموسيقى العشاق ذات النغمات الموحية، فتدثرت بالحياء وتخمرت بغنج أنثوى ودلال قاتلين، صوتها وهي تهمس في أذن صاحبتها كان يصل في أذني نشازا ومتقطعا، ربما كانت غير راضية لنظراتي المركزة حول شفتيها العذبتين وفمها المغري بالتقبيل وأماكن حساسة من جسمها، بحتها القليلة وبعدها عني جعلا الصوت وكأنه همسات مسائية وتمتمات ملئية برسائل العشق وإشارات الهوى، أو هكذا أحببت وأنا ثمل بنشوة الهيام ومتسكع في محراب الحب.


إقتربت إليها بإندفاع شديد ونسيت فراسخ العاطفة والمسافة الوجدانية التي كانت بيننا، وحقيقة لم يكن جمالها عاديا أو ذاك النوع الذي يمكن مقاومته،! قامت وذهبت إلي الشارع القريب للمقهى وكأنها تتهرب من نظراتي الفضولية وتمتمات شفتي وأنا أحلق حول بساتين العشق، ُركضت ورائها وكأني أترنح بين ذبذبات الشوق الجارفة وموجات الهيام ذات التيارات القوية التي لا تقاس بالأوم ولا الفولت وإنما علي نبضات القلوب ودقاته، ودماء الشرايين القانية، ولكن دخلتْ بسرعة في زحمة السوق وضجة المدينة، وضمت الجموع بين دفتيها كسطر يتيم في آخر الورقة أو كأثير الهواء، تسللتُ بين البشر كالأنفاس الرقيقة وهرولت تجاهها، تخطيت شوارع وأزقات، وتجاوزت محطات وأسواق وميادين، وأدلفت لفات وأنا أغرد خارج السرب وفي بالي يقين بأني سألتقي الحورية في الشارع الثاني وهي تقف قرب سيارتها المركونة علي الموقف، أوتنتظر المواصلات العامة مع الكادحين والبسطاء أمثالي، أو المحل المقابل وهي تتسوق، أو الزحمة التالية ربما.

كانت أحلام لم يسعفها الحظ وتصورات محب تاه في خضم موجات العشق، وصلت إلي الساحة العامة والأنفاس تخرج عن رأتي بشكل متقطع، وبعد أن جريت أكثر من ساعتين قبلت أمر الواقع واستسلمت للواقع المرّ لاهثا ومنكسرا حينما وصل الجهد إلي مبتغاه، ندبت حظي التعيس دائما مع السمراوات الطوال، لأن الحب يموت في مهده أو يتلاشي الوجدان الجميل قبل أن يرى النور.

أصبح طيفها الآسر لهفة وشوق يحدوني إليها، ليتني لم أر وجهها الصبوحي ولو بالخيال،! ومنذ أن رأيت والحب يتراكم علي ذرى قلبي المنهك بالعشق والهوى، رجعت إلي مقعدي الحزين كغيوم الكآبة وأنا أردد:عودي أيتها الملكة الجميلة... عودي إليّ يا من ملكت أرجاء قلبي المترع بحبك الشفاف والمشاعر البلورية كاللوحات الزجاجية.

كانت طيفا عابرا إلي مرفأ الذاكرة ومسحة شوق عارمة أذرفنا الدموع من أجلها في محراب الحب، وكان حبها مجرد نظرة ومن النظرة ما قتل، ولكن كانت نظرة أدركتني أن في داخل الهائمين بخيال الحب أسرار وأخبار، وفي قلوب العالقين في محرابه آهات وأحزان ومسرات، وفي عيون الآثمين بالهوى إنكسارات ودموع مسكوبة كالثكالى، وعلى لسانهم أشعار رقيقة وأبيات دقيقة ألطف من النسيم، وأعذب من أصوات العيدان ورنة الألحان، ونغمات القيان في الليالي الحمراء القرمزية.

في الحب نكتب مشاعرنا الجريحة وومضاتنا العتيقة بدموع المآقي ونبضات القلوب، وفي الحب نردد ذكرى الحبيب وصدي كلماته على وقع السهر وضيافة الجهد والآلام النفسية والجسدية، وفي سكرة الحب ونشوته ننام على ضفاف نهر أحلامنا وجنبات غدير آمالنا البراقة نراقب الكون وكأننا نسمر على هامات القمر أو على أهداب المجرات التي تدور في أفلاكها.

وعلي أجنحة الطير القوية ندخل الكون عبر دروبه الطويلة وشوارعه المفتوح إلي قصور الأمل فنبتسم ونمتزج مع ألق الطبيعة كفراشة السواقي، ويتلألأ وجهنا كالنور في مسناه، وترسلنا منارات الحب ومشاعل الحبور المضئية إلي ملاعب الصبا وربوع الطفولة والأيام المتألقات، حيث صفاء البال ونصاعة الوجدان ورهافة القلب ورقاقة المشاعر ولين العواطف وصدقية المواقف وبرآءة التصرفات.

وعلى شواطئ ذاكرتنا الرمادية ننام على ذرى الأيام المشرقة التي منحتنا شآبيب السناء وقناديل الصفاء، ونتكؤ فوق الماضي التراجيدي والنوستالجيا المبكية التي نهربها عندما تزداد قتامة الحاضر وسواد اللحظات.

ولكن نهر الحب لا يتوقف أبدأ مهما كان موسم الفيضانات مروعا، أو كانت الزوابع مخيفة، أو كان الحب مجرد نظرة تبعها حسرة، ومن إكتوى نار العشق وتجرع ألم الصبا تحت وقع الضباب والشوق الذي يقيدك على الرصيف البارد، وفوق صفيح الحب الساخن، وسديم معانيه، ولوعة فراقه، وحروفه الباهته، يلهث في دروب الحب، ويهرب إلي الأبد من مقاييس الحب وموازينه المجحفة.

كنت أهمس في أذن الحب قائلا: ماذا تفيد  الدموع الممزوجة بالضجر كقصص العابرين من وسط المعاناة؟ وفي هدة السحر يسألني الليل: لماذا السهر وما سر الأعين الغارقة في الحزن؟ ولم ترسم شذي الشوق في كف السحر؟ واين السمّار والأحبة؟ وهل الحنين يداوي الأرق؟ فأجدني أستلطف وأسترق النظر إلي شاعري المفضل المتنبئ ـ مالئ الدنيا وشاغل الناس ـ الذي دائما ما يمثلني في المواقف الصعبة ويتفهم شجوني وزفراتي، وأتعجب كيف يفك الإمبراطور شفرات السؤال بجزالة معانية وأسلوبه الشيق ذات اللمسات الإنسانية البديعة.

لايعرف الشوق إلّا من يكابده*** ولا الصّبابة إلا من يعانيها
لايسهر اّلليل إلا من به ألم ***لاتحرق النّار إلا رجل واطيها

لم أجد من يشاركني لحظات الصفاء وساعات البهاء،ّ وما أقلها في بلد مأزوم تحمل إلينا الإذاعات وتنقلنا المواقع ويشاهدنا التلفزيون أخبار الصراعات العبثية، والأنباء المحزنة من الإغتيالات والإنفجارات والأعضاء المبتورة والأجسام الممزقة، والأحلام التي تموت في رحم الغيب، والآمال التي هرمت وشاخت، والقذائف التي ترسل البراعم إلي سكون القبور، وموجات التشريد والهروب من الوطن إلي الصحاري العتمور أو إلي صقيع الغرب القاتل، ولم يمنحني الحظ من يتجرع معي كوؤس الحب وضحكات العشق السرمدية رغم محاولاتي الكثيرة ورومانسيتي الكبيرة التي شهدها البروفيسور جوجل العظيم!.

وهكذا كانت مشاعري مكبوتة وهي تغلي كالمرجل في داخلي وبين قصبات ضلوعي،  رغم جنوحها إلي عالم البوح والإظهار، فيزداد شوقي تحت سواد العتمة وضوء القناديل الشاحب في هزيع الأخير قبل نور الصباح القميئ ، فأتهرب كالأوراق المتساقطة في الخريف من غلظة أغصانها إلي لواقح أجنّة الحب الحانية، وهامات الهضاب المعشبة، وهوج الرياح التي تهب من أعماق المحيطات، وذرات الغبار المتراكمة في رفوف المكتبات وفي الكراسي الخشبية في الميادين.

وأمام وطأت السؤال المنهمرة عليّ والتي لا أجد لها جوابا كافيا، أسطر صفحة من وميض التاريخ وأريج الورود الفواح، وأرسم وشما زاهيا في كف السحاب والجباه الجذلة ببهجة الأيام، وأرحل إلي قمم المعالي وصهوة المنافي، واسقط من العلياء إلي سحيق الهاوية، وطوى النسيان الوجه الذي أبي إلا ان يخذ أجمل الذكريات ليخفف عني وطأته، ولهثت وراء أشرعة السماء لتغرب شمس أحلامي من هنا لتشرق من هناك، وتمسكت بروح لاهية إلي نضارة الحياة وحب الوطن والإنتماء إلي جموع شعبي الأبيّ ورونق المعيشة التي تورثني من غيظ يخنقني ومن سراب لسراب ومن إنكسارات ضوء لآخر يؤب.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...