الاثنين، 27 أكتوبر 2014

السيد محمد عبدالله حسن.. وثورة الدراويش (2-1)

ولد السيد محمد عبدالله حسن عام 1864م علي الأرجح في قرية قوب فردود (Qob Fardod)الواقعة قرب مدينة بوهودلي من إقليم توغطير في الشمال الصومالي، هاجر والده من إقليم أوغادينيا الذي كانت تشتعل فيه آنذاك المقاومة الكبيرة للمسلمين بقيادة أمراء إمارة هرر الإسلامية ضد الحبشة والصليبين الغازيين إلي شمال الوطن الصومالي، وصهر واحدة من أعرق الأسر والقبائل الصومالية التي كانت تعيش على أنحاء بوهودلي.
عام ولادت السيد محمد عبدالله حسن كان عاما مشهورا في القطر الصومالي، ذاع صيته وعم خيره وانتشرت بركاته، حتى أطلق عليه الصوماليون بـ غبيسني  (Gobeysaneأو (الشهم) لرخائه ورغد العيش فيه، والحياة السهلة والأمن المستتب في الربوع الصومالي.

كان طفلا نجيبا وولدا لبيبا منذ نعومة أظفاره، وظهرت عليه علامات النجابة والنباهة وهو دون العاشرة من عمره، فحفظ القرآن الكريم والمتون الدينية وكتب الفقه واللغة والأحاديث، حتي أصبح ماهرا وولدا يشار إليه البنان في العلم والمعرفة والفصاحة والشجاعة، وأخذ لقب الشيخ الذي كان لا يطلق في ذاك الوقت إلا العلماء الكبار وأصحاب العمائم وهو في التاسعة عشر من عمره، منحه الله ذاكرة قوية وشخصية قيادية في كل الميادين، وشعرا يتدفق عن قريحته الإعجازية، وخيالا واسعا وحكمة تجري علي لسانه حتي برز بين أقرانه وأترابه وهو لم يتجاوز عقده الثاني.

تربى في عز أسرته وفي كنف والده وبين أخواله المشهورين بالشجاعة والفروسية ودولة القوافي والأدب، وكان شغوفا للرماية محبا للفروسية، مولعا بقصص الأبطال وتأريخ المجاهدين العظام، وكان يظهر تجلدا كبيرا في الألعاب الطفولية والشجار الصبياني، وظهرت قياديته في صغره وفي زمن المراهقة الذي يظهر عبقرية الشخص وذكائه.

وفي عام 1892م وعندما درس معظم المعارف الدينية والثقافية المتاحة في بلده والعلم الذي كان متوفرا في منطقته، سافر إلي الديار المقدسة مشيا علي الأقدام مع نفر من أصحابه، أمّ وجهه شطر الحرمين الشريفين فنهل العلم من معين مكة المدرار ونمير المدينة الذي لا ينضب، وأصبح طالبا للعلم في مهبط الوحي وأرض الخيرات والبركات هناك في الحجاز وزوايا المساجد المباركة، وعاش مع أسفار العلم وأبوب المعرفة في دار الهجرة وجوار الكعبة المشرفة، فصقلت رحلته المباركة إلي الديار المقدسة شخصيته ومنحته بعدا دينيا وثقافيا وفكريا لم يكن من الممكن أن يجد في بلده وبين أهله ووسط عشيرته القاطنة هناك عند جكجكا وماحولها وعلي تخوم بوهودلي وسهول نغال الفسيحة.

عاش مع المناضلين والعلماء الأجلّاء جنبا إلي جنب، وأعطى الإحتكاك الدائم لهم وخاصة في موسم الحج والعمرة معرفة أوسع لما يجري في العالم وخبايا المقاومة النشطة في العالم الإسلامي، وفي هذه الفترة زار السيد محمد عبدالله حسن إلي مصر وعاش في القاهرة فترة من الزمن، وزار الأزهر الشريف ولقي علمائها الأجلاء، وفي طريقه إلي الصومال مر السودان خاصة منطقة السواكن التي كان المهدي السوداني يدرب جيوشه، ويجمع رجاله الذين خاضوا معارك مريرة ضد الإحتلال الإنجليزي، فكانت هذه الزيارة بمثابة شعلة أضاءت له طريق الجهاد، وتجربة ناجحة بكل المقاييس إستفاد السيد منها أمورا كثيرة مثل التكتيك العسكري والقيادة الميدانية والإنضباط الحركي والتنظيمي وإدارة المعارك.

ولم تكن هذه الزيارة أو الحياة في الحجاز ما منحته الحس الوطني والرغبة الجامحة لمقاومة المستعمر، بل كان مستاء من الحالة المزرية التي دخلها الوطن بفعل السياسة الهوجاء للمستعمر قبل أن يسافر إلي الديار المقدّسة، وكان محزونا ما آلت إليه الحالة المعيشية والحياتية لشعبه بعدما حول المستعمر حياتهم إلي جحيم لايطاق، وبعد سنتين من رحلة المعرفة والتجارب رجع إلي الوطن وهو متسلح بالعلم والمعرفة والفكر الثوري الكبير الذي طرأ عليه وهو يعيش في مكة عندما سمع الحركات الثورية والجبهات المسلحة التي تحارب الإستعمار وتسعى إلي تحرير بلدها وطرد المحتل وأذنابه في ديارهم.


كانت الأخبار المتتالية التي تتحدث عن البطولات والملاحم الجهادية في العالم الإسلامي تروق للسيد محمد وتذكي روح الجهاد في نفسه التواقة إلي الحرية ونفض غبار الذل والإستكانة، ويقول بعض المؤرخين انه عندما رجع إلي الصومال سأل طفلا عن إسمه فقال له: إسمي جون!، فسأل السيد الولد وماذا كان إسمك قبل ذالك: فقال الولد: علي!، فاستشاط غضبا وتحول إلي جمرة لاهبة، وقال كلمته المشهورة إن لم نحارب اليوم سنبحثها بعيدا في الغد، إي إن لم نقاوم ونموت من أجل دفاع ديننا ومقدساتنا فستنتصر موجات التنصير وتكون الصومال دولة مسيحية او يعيش فيها جالية مسيحية كبيرة، عندها يكون بحث الإسلام وعودة من ارتد عن الدين بعيدا جدا.

وتضيف التأريخ أيضا أن حاكما إنجليزيا قتل مؤذنا عندما كره صوت الآذان المرتفع الذي يحول دونه ودون النوم الهانئ، وعندما تواترت هذه الأخبار المؤسفة والإستهزاء بالدين والعبث بمقدرات الوطن ونهب خيراته والتنصير الذي ضرب طول البلاد وعرضه إضافة إلي التنكيل والإضطهاد الذي يمارسه المحتل علي الشعب الأعزل، أسّس النواة الأولى لحركة الدوراويش التي ملأت الدنيا جهادا وتحريرا وشغلت الناس وجعلت حياة الإستعمار عبارة عن حروب متواصلة ووقائع متتالية وصراعا مع الأخطار التي احاطت المحتل وأذنابه.

لقد أذاقت الدراويش الإستعمار الأوروبي والإفريقي الويلات تلو الويلات، حتي أصبحت  المقاومة الدراويشية واحدة من أعتي الحركات التحررية التي حملت لواء الإستقلال وطرد المحتل في العالم أجمع، ولعل مدى الإهتمام الكبير الذي أولاه الإنجليز لهذه الحركة وما جمع لمحاربتها من الجيوش والقواد وتخصيصه ميزانيات ضخمة لإجهاضها ومحاربتها، وإختياره أمهر قادته تدلنا أن المستعمر كان يري تحت الرماد وميض نار، وكان يرى أن الدراويش هي أخطر حركة مقاومة نشطة ضد الإنجليز في العالم أو علي الأقل في أفريقيا.

كانت ثورة الدراويش التي قادها المناضل الكبير والمجاهد الصنديد السيد محمد عبدالله حسن ثورة مباركة وميمونة بكل المقاييس، ومن أكبر الثورات وأطولها، حتي أصبحت صداعا مزمنا للمستعمر وسهما موجها لكبده، وكانت أيضا الشرارة الأولي والحراك الأهم الذي حرك الساحة الصومالية وغيّر المفاهيم وصحّح الأخطاء التأريخية التي وقع عليها الصوماليون، ووجهت بوصلة الشعب إلي وجهتها الصحيحة من الحروب العبثية والغارات العشائرية والصراعات القبلية، إلي الجهاد في سبيل الله وحمل السلاح ودحر المغتصب لأرضنا والإنخراط في النضال الذي يستهدف إلي تحرير الإنسان الصومالي قبل الوطن.

ولقد أعادت ثورة الدراويش الإعتبار للشخصية الصومالية التي ظنها الإستعمار بهوسه وبجنونه أنها ضعيفة ومشتتة ولاتقوى المقاومة، ولاتستطيع إعداد جحافل من الجيوش تواجه المستعمر وأذنابه لإنشغالهم بأمور تافهة وإحتكاكات داخلية وصراعات قبلية، ومن خلالها عرف الإستعمار الأبيض والمرتزقة ماهية وكنه الشخصية الصومالية المؤمنة الثابرة التي تثور وتجاهد لإعلاء كلمة الله وحماية ترابها الوطنية من دنس المحتل ومن رجس النصارى.

الثورة الدراويشية لامست قلوب الصومالين فأحبو وهبّو وقامو، وجعلتهم  شعبا يعشق الحرية ويموت من أجل الدفاع عن مقدراتهم ومقدساتهم وتأريخهم، وشعبا يقف خلف قادته المغاوير وجيوشهم الثائرة الباسلة، والسيد محمد أشعل في النفوس جذوة الإيمان وشعور العزة والإنتماء لهذا الدين القويم والتربة الطاهرة التي تستحق الدفاع والموت في سبيل تحريرها من الإنجليز، وحرك الضمائر الصومالية بأشعاره الرصينة وخطبه اللاهبة وأرجازه الوطنية وأدبه السلس الفيّاض.

كان السيد محمد عبد الله حسن درّة نادرة وشخصية فريدة ـ لاتتكرر في التأريخ الصومالي ـ أضفت للصومال الهيبة والكرامة والنخوة والشهامة، وأعاد معني الرجولة الصومالية رونقه وبهاؤه وصبره، والمقاومة الصومالية زخمها المفقود في ظل الإستعمار وأعوانه، ودعا إلي مقارعة العدو، وناد بقدسية الوحدة وسعى إلي لمّ شمل الوطنيين الأحرار لمواجهة العدو والعبيد أذناب المحتل.

وقام بتوعية الشعب من أقصاه إلي أقصاه عبر رسائله وأخباره وأشعاره الحماسية التي كانت الأسفار يتناقلونه والأجيال يحفظونه، ودعى الصوماليين إلي الجهاد ومحاربة الإستعمار ونفض غبار الإستكانة، ولوصول هذا المغزي العظيم كان لابد من كسر حاجز الخوف والإنطوائية لبعض القبائل، وإزالة الشك وإخلاص النوايا لبعض القبائل التي كانت تخاف من زوال ملكها وسلطنتها إن ناصرت السيد وأعانته ووقفت إلي جانبه، وإستطاع السيد بحنكته الساسية ورؤيته الثاقبة وإيمانه القوي بأن الثورات لا يمكن أن تنجح أو تدوم مالم تجد حاضنة شعبية تحوى المقاومة وتؤز المجاهدين فسعى إلي الصلح والمهادنة.

وعندما كسب ود معظم الصوماليين إتجه الي وحدة النضال ووحدة القومية الصومالية التي كانت متفرقة بأراضيها الشاسعة في القرن الإفريقي، والتي كانت معظمها لا تؤمن ولاء غير ولاء القبيلة، وبعض القبائل لاتهتم سوي تحسين حياتها وحماية أفرادها والبحث عن الماء والكلأ لمواشيها، وترحل حيثما حل المطر، ولاتربطها رابط ولاتجمعها شئ سوي الإسم الفضفاض وبعض الطقوس القبلية وقبلها ممارسة شعائرالدين.

وبسبب قوة المستعمر وبطشه وآلات الدمار والتنكيل التي لاترحم، وحيوية الخلايا الجاسوسية النشطة كانت معظم القبائل تخاف أوتهادن أوتستكين للعدو أو تهرب عن المجابهة والمواجهة، ولاتبدي أية مقاومة تذكر إلا بعض التذمر في النوادي الأدبية، أو الأسى الذي كان يحمله الأشعار والفنون، والحكايات الشعبية والأصوات الشاذة والبعيدة عن الأضواء التي كانت تغرد خارج السرب بين حين وأخري، فقيض الله لهم من يقاتل الكفار ويحرر القلوب قبل الأوطان، فهب الجميع لنصرته وأشعلت الحماسة في نفوس الصومالين التواقين إلي الحرية والإنعتاق من دنس المغتصب ومن رجز المحتل إلي عبق الحرية والعيش بكرامة ومساواة في ظل دولة صومالية كاملة الحرية والإرادة والأجزاء.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...