الخميس، 30 أكتوبر 2014

السيد محمد عبدالله حسن.. وثورة الدراويش (2-2)

جاء الدرويش بزمن كانت الصومال بحاجة ماسة إلي منقذ حقيقي ينتشل الأمة من براثن المستعمر، وينقذ منها دنس المرتزقة ومجاهيل العدو ومخالبه التي تنهش جسدهم وأنيابه التي تنهب خيراتهم، وحقيقة كان الشعب الصومالي ضاق ذرعا عن الممارسات الهمجية للإحتلال، والعذاب الجسدي والنفسي، ووصل إلي آخر خطوة مع السياسات الإستعمارية الهوجاء التي كانت تطبق عليهم قاعدته الشهيرة فرق تسد لمواصلة إستنزاف الصوماليين ونهك قوتهم وإدخالهم إلي غيبوبة لايستطيعون دفاع وطنهم وحماية تقاليدهم وتراثهم من النهب والضياع وإطالة زمن الإستعمار.

لم يتوقع الإستعمار في هذا التوقيت الحرج والزمن الصعب أن يبرز نجم الحرية في وسط ضباب الإستعمار، ومن أوساط الشعب المكلوم أكثر من قرن من الزمان، كانت سياسة المستعمر مؤسسة علي كسر إرادة الشعب وتضعيفه معنويا ومحاربته نفسيا، ليكون دائما أدات مطيعة في يده، وليكون ذليلا ضعيفا لا يتململ ولا يبدي أية مقاومة، وفي خضم نشوتهم بهذا الإنجاز الوهمي والخيالات الكاذبة التي ظنها الإستعمار أنها الحقيقة تحت وقع التفوق العسكري والإقتصادي ظهر المغوار وحامل شعلة اليقظة في الساحة الصومالية وأشرق كالشمس الحارقة التي تحرق الجراثيم والأوساخ.

كان السيد محمد لغزا محيرا في جميع الأصعدة والميادين، صوماليا لم يكن معتادا أن يبرز العلماء والشيوخ والطرق الصوفية في هذه الفترة لمحاربة الإحتلال، بل كانت معظم الطرق الصوفية في العالم العربي والإسلامي تهادن أو تميل للمستعمر مالم تتعاون معهم، إضافة إلي شخصية السيد محمد عبدالله حسن المثيرة فهو قائد محنك وشيخ بارز وسياسي لبق وشاعر لا يشق له غبار وشجاع قلما نجد مثله في الكتب وأروقة التأريخ وإذا شهد الوغى فهو كميت لا يعرف الهزيمة ولا الفرار أو الإستسلام، وفي نظر المستعمر كان كهلا مجنونا لايقدر الظروف ولا يعرف الواقع ولا يدري قوة الإنجليز وأعوانهم وآلياتهم الرادعة لمن سولت نفسه أن يقاوم أو يحارب ضدهم.

ومن أولى تصرفاته وفي فاتحة كلامه وتحركاته في كافة المحاور، أدرك الصوماليون أنهم أمامة شخصية مغايرة تحمل الشجاعة الصومالية في أبهى صورها، ورزانة العلماء في أسمى معانيها، وحنكة القواد في ألمع حالاتها، وجمال الأدباء في أنضر أحوالها، وأنه لا يوجد في الساحة  الصومالية شخصية أمثل وأقوي من السيد لقيادة التحرير وإمتلاك زمام الجهاد لنصرة المستضعفين، وأدرك المستعمر أنه أمام عظمة الإنسانية الصومالية وأمام رجل لايخاف من سوطهم ولا يسيل اللعاب إلي جزرتهم، وأدرك ـ ولومتأخرا ـ أن صباح الحرية والوحدة والتعاون الصومالي بات وشيكا، فضاعف نكايته للشعب ومصادرة أموالهم ونهب ممتلكاتهم وقتل أعيانهم واغتصاب الفتياة، مما أشعل الحماسة والوطنية في النفوس، وألهب الخواطر وأدمي القلوب، وعجل مقاومة الرجل الأبيض وتحرير العباد والبلاد من دنسه ورجسه، وكانت لابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر، وأن يجد الإستعمار جزاء وفاقا لفعلته الشنيعة وتصرفاته الغبية.

ولقد أظهر السيد محمد عبدالله حسن حنكه سياسة وفهما متقدما حينما هادن بعض القبائل التي كانت تضمر الحقد والحسد أو كانت تميل إلي نصرة المستعمر، وكان يفر الإندفاع إلي حروب عبثية لاطائل من ورائها فكان نعم القائد لتميزه العسكري وتفوقه التكتيكي وقوته الفكرية والأدبية وفكره الثاقب وشجاعته الكبيرة، ولم يكن شجاعا متهورا، بل كان شخصية إكتملت عليها كل صفات القائد الناجح :من الشعور بأهمية الرسالة، والشخصية القوية، والإخلاص، والنضج والآراء الجيدة، والطاقة والنشاط، والحزم والتضحية، ومهارة الإتصال والتخاطب، والقدرات الإدارية، وجدير بشخصية إجتمعت عليها هذه الصفات أن تابي الضيم والظلم فقرر السيد مع ررفاق دربه وخصوصيته وعدد من أقاربه وأخواله مجاهدة الكفار وأذنابهم وطردهم من تراب الصومال الطاهرة.

الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

دمعة في محراب الحب


 
  في مساء قرمزي شفاف رصعت السحب المجلجلة في الأفق ألوانا زاهية وقوس قزح جميل ممتزجة بصفاء الوجدان وجمالية الأشياء، كنت أرتشف قهوة المساء  ـ التي أصبحت طقوسا أمارسه ـ في مقهى شعبي تقع فوق تلة مرتفعة تطل علي المحيط الآسر ببهائه، الأجواء هادئة، والنفوس مالت إلي الأحاديث الجانبية الشيقة والإتكاء علي كتف المحيط، والأمواج تداعب الرمال والزوارق المركونة في المرافئ برقة ولين، والأشجار تعانق البنايات الشاهقة وبقايا الأطلال الصامدة رغم جرف الزمن وأصداء السنين، والنسيم العليل يغازل الحوريات اللائي يجلسن فوق المقاعد البلاستيكية والطاولات المستطيلة المطرزة بالأزرق الصافي لون العلم الصومالي وهن منهمكات باللمسات الحانية علي شاشات هواتفهم الذكية والإبحار في عالم الهواتف الجذاب، وأحاديثهن النسوية المفتوح وثرثرتهن التقليدية الصاخبة يجعل المكان وكأنه حفلة نسوية بإمتياز.

الأجواء السريالية للمقاهي الناعسة علي أهداب المحيط التي تصدح عنها الأغاني الكلاسيكية ذات الأوتار الشجية، ورائحة القهوة المميزة التي تنزلق إلي الفم كسرعة الضوء وتحول الأمزجة وتؤثر الخلجات، وأحاديث الأصدقاء على وقع شجى الذكريات وشجن الأيام، وملاحة الوجه وصباحة القد، والنظرات القاتلة، والقامة الممشوقة كالسنديان، والمشاعر الحالمة في محراب الحب كشبيللي الذي يفيض حبا وحنانا، والطبيعة الآسرة، وعرش الغروب وشفق المغيب، والأسواق الملئية بالمارة والمتجولين، والأرصف الباردة للمدن والقرى دائما ما ترسلني إلي سحيق العواطف وقعر المشاعر المكبوتة.

غابت الشمس وراء التلال وخلف المباني الشاهقة والبيوت الكثيرة والمتلاصقة كضاحية مهملة لمدينة إفريقية موغلة في القدم والعراقة، وأرتفع صوت المؤذن لمسجد عمر بن الخطاب العتيق المحاذي الثكنة العسكرية للبحرية الصومالية، صوت المؤذن كان يأتي وراء السنين التي تجاعيد وجهه تقول أنه في العقد السابع، وكان المايكرفون يعاني من الشيخوخة وشوشة الأصوات التي تجعل الآذان مزيجا من الكلمات والبحة والأصوات المرتفعة للمكبر.

في هذا الجو البانورامي الذي عم الأرجاء بدأت السماء تمطر رذاذا، وبدأت أعزف ألحان الحب وسيمفونية الصبا الشجية وأنا أهرب من السآمة والملل، وهاجمتني الأفراح كقطرات الندى أو كشروق الشمس بعد سواد الليل، أو أضواء الشموع التي تتراقص علي عتبة معبد مهجور في مدينة لاتينية باذخة بنكهة سيجارها الفاخر وتشكيلات المافايا تجار المخدرات، واللمسات الفنية المبهرة للساحرة المستديرة..

أمامي وعلي يمين المقهى فتاة حالمة تشبه الموناليزا الخالدة برشية الفنان الإيطالي الكبير ليوناردو دافيتشي،!تطرب مع أمواج البحر وكأن للبحر طبول وأنغام تتكلم،! جسدها مكتنز باللحم والنضارة، وتشع عن عينيها لحن الغرام وسريان الحيوية وهي تقفز وتترنم وتصغى إلي هدير الطبيعة وصخب الأمواج، عينان مستطيلتان برئتان كمقل الطفل في مهده، وشخصية متسامحة كزهرة البرسيم، وأناقة نادرة وأنوثة متوثبة تنافس السنابل والأشجار جمالا وبهاء.

يفوح عن جسمها عبق البخور التي تهديها نسمات المحيط إلي جسمها الذهبي وبشرتها السمراء النقية، وتتبختر كغانية في حلتها أو كملكة في بلاطها الأميري، وتنثر لحن الحب علي القلوب المجدبة، وتتمايل فوق الرمال الحريرية وبين الكراسي البلاستيكية والبيوت العتيقة والأزقات الضيقة، والدروب المحيطة علي المحيط، وفي تمايلها تتولد النغمات، وتتراقص ضفائر شعرها الأسود الفاحم كألوان ساحرة زاهية على ظهرها المصقول وتحت خمارها الشفاف ووشاحها العبق.

نظرتُ إليها بعيون تحمل سهام التعلق وموسيقى العشاق ذات النغمات الموحية، فتدثرت بالحياء وتخمرت بغنج أنثوى ودلال قاتلين، صوتها وهي تهمس في أذن صاحبتها كان يصل في أذني نشازا ومتقطعا، ربما كانت غير راضية لنظراتي المركزة حول شفتيها العذبتين وفمها المغري بالتقبيل وأماكن حساسة من جسمها، بحتها القليلة وبعدها عني جعلا الصوت وكأنه همسات مسائية وتمتمات ملئية برسائل العشق وإشارات الهوى، أو هكذا أحببت وأنا ثمل بنشوة الهيام ومتسكع في محراب الحب.

الاثنين، 27 أكتوبر 2014

السيد محمد عبدالله حسن.. وثورة الدراويش (2-1)

ولد السيد محمد عبدالله حسن عام 1864م علي الأرجح في قرية قوب فردود (Qob Fardod)الواقعة قرب مدينة بوهودلي من إقليم توغطير في الشمال الصومالي، هاجر والده من إقليم أوغادينيا الذي كانت تشتعل فيه آنذاك المقاومة الكبيرة للمسلمين بقيادة أمراء إمارة هرر الإسلامية ضد الحبشة والصليبين الغازيين إلي شمال الوطن الصومالي، وصهر واحدة من أعرق الأسر والقبائل الصومالية التي كانت تعيش على أنحاء بوهودلي.
عام ولادت السيد محمد عبدالله حسن كان عاما مشهورا في القطر الصومالي، ذاع صيته وعم خيره وانتشرت بركاته، حتى أطلق عليه الصوماليون بـ غبيسني  (Gobeysaneأو (الشهم) لرخائه ورغد العيش فيه، والحياة السهلة والأمن المستتب في الربوع الصومالي.

كان طفلا نجيبا وولدا لبيبا منذ نعومة أظفاره، وظهرت عليه علامات النجابة والنباهة وهو دون العاشرة من عمره، فحفظ القرآن الكريم والمتون الدينية وكتب الفقه واللغة والأحاديث، حتي أصبح ماهرا وولدا يشار إليه البنان في العلم والمعرفة والفصاحة والشجاعة، وأخذ لقب الشيخ الذي كان لا يطلق في ذاك الوقت إلا العلماء الكبار وأصحاب العمائم وهو في التاسعة عشر من عمره، منحه الله ذاكرة قوية وشخصية قيادية في كل الميادين، وشعرا يتدفق عن قريحته الإعجازية، وخيالا واسعا وحكمة تجري علي لسانه حتي برز بين أقرانه وأترابه وهو لم يتجاوز عقده الثاني.

تربى في عز أسرته وفي كنف والده وبين أخواله المشهورين بالشجاعة والفروسية ودولة القوافي والأدب، وكان شغوفا للرماية محبا للفروسية، مولعا بقصص الأبطال وتأريخ المجاهدين العظام، وكان يظهر تجلدا كبيرا في الألعاب الطفولية والشجار الصبياني، وظهرت قياديته في صغره وفي زمن المراهقة الذي يظهر عبقرية الشخص وذكائه.

وفي عام 1892م وعندما درس معظم المعارف الدينية والثقافية المتاحة في بلده والعلم الذي كان متوفرا في منطقته، سافر إلي الديار المقدسة مشيا علي الأقدام مع نفر من أصحابه، أمّ وجهه شطر الحرمين الشريفين فنهل العلم من معين مكة المدرار ونمير المدينة الذي لا ينضب، وأصبح طالبا للعلم في مهبط الوحي وأرض الخيرات والبركات هناك في الحجاز وزوايا المساجد المباركة، وعاش مع أسفار العلم وأبوب المعرفة في دار الهجرة وجوار الكعبة المشرفة، فصقلت رحلته المباركة إلي الديار المقدسة شخصيته ومنحته بعدا دينيا وثقافيا وفكريا لم يكن من الممكن أن يجد في بلده وبين أهله ووسط عشيرته القاطنة هناك عند جكجكا وماحولها وعلي تخوم بوهودلي وسهول نغال الفسيحة.

عاش مع المناضلين والعلماء الأجلّاء جنبا إلي جنب، وأعطى الإحتكاك الدائم لهم وخاصة في موسم الحج والعمرة معرفة أوسع لما يجري في العالم وخبايا المقاومة النشطة في العالم الإسلامي، وفي هذه الفترة زار السيد محمد عبدالله حسن إلي مصر وعاش في القاهرة فترة من الزمن، وزار الأزهر الشريف ولقي علمائها الأجلاء، وفي طريقه إلي الصومال مر السودان خاصة منطقة السواكن التي كان المهدي السوداني يدرب جيوشه، ويجمع رجاله الذين خاضوا معارك مريرة ضد الإحتلال الإنجليزي، فكانت هذه الزيارة بمثابة شعلة أضاءت له طريق الجهاد، وتجربة ناجحة بكل المقاييس إستفاد السيد منها أمورا كثيرة مثل التكتيك العسكري والقيادة الميدانية والإنضباط الحركي والتنظيمي وإدارة المعارك.

ولم تكن هذه الزيارة أو الحياة في الحجاز ما منحته الحس الوطني والرغبة الجامحة لمقاومة المستعمر، بل كان مستاء من الحالة المزرية التي دخلها الوطن بفعل السياسة الهوجاء للمستعمر قبل أن يسافر إلي الديار المقدّسة، وكان محزونا ما آلت إليه الحالة المعيشية والحياتية لشعبه بعدما حول المستعمر حياتهم إلي جحيم لايطاق، وبعد سنتين من رحلة المعرفة والتجارب رجع إلي الوطن وهو متسلح بالعلم والمعرفة والفكر الثوري الكبير الذي طرأ عليه وهو يعيش في مكة عندما سمع الحركات الثورية والجبهات المسلحة التي تحارب الإستعمار وتسعى إلي تحرير بلدها وطرد المحتل وأذنابه في ديارهم.

الأحد، 26 أكتوبر 2014

بين الجدل والحوار

الحوار البنّاء والنقاش الجاد والمثمر يقرب الوجهات ويصحح الأخطاء ويبعد الضغينة والعداوة عن قلوب البشر، ويخلق جوا من التسامح والإيمان بالقيم الإنسانية واحترام الآخرين، وهو الدفعة المعنوية التي تحث الناس على الجلوس إلى الطاولة المستديرة لطرح الأفكار ودراسة الإشكاليات حول القضايا المهمة والمصيرية. فالحوار يجعل المرء قابلاً لسماع آراء مغايرة، والأفكار المختلفة، والنقد البناء والنقض الإيجابي، ويعزّز فرص قبول المرء تام برأي الآخر، واحترام وجهة النظر المخالفة، والانشغال بتحليل أفكاره لا شخصيته وتفنيدها حسب مايراه مناسبا.
وعند أمة منكوبة ومأزومة مثل أمتنا، تواجه قضايا تشعبت وتعقدت وتحجرت بمرور السنين كقضية الصومال، يكون الحوار والتعقل والهدؤ والتأني مطلبا أساسيا للتغلب علي المشاكل والعقبات، سبيلاً لحل الأزمة. ذلك الحلّ الذي قد يكون  العناد والتشبث بالرأي ورفض الرأي الآخر حجر عثرة  أمام المصالحة والحوار، وعقبة كأداء في وجه مشاريعنا وأجنداتنا الوطنية.
ولإنجاح أي حوار يفترض بالمتحاورين الابتعاد عن إغتيال الذات، وافتعال الأزمات، وتجريح الأشخاص، وإدارة النقاش بهدوء وعقلانية، والحرص على جعله هادفاً وذا أجندة واضحة، يسوده طرح موضوعي للحقائق كما هي دون مزايداة أو تعتيم أو دوران في الحلقات المفرغة، ويكون الحوار أعمّ فائدة إذا كان مع أكاديميين هدفهم طرح الحقائق وتقديم وجهات نظر علمية من شأنها حلحلة الأمر وتقديم الحلول،  وتكون الأطراف المتحاورة جادة في دارسة أفكار لإنقاذ شعبهم وانتشال أمتهم التي أحاطتها المخاطر، وتسير إلى الطريق المسدود،  ويتخلصّوا من الذّاتية والميل لمحاكمة الطرف الآخر وإدانة نواياه.
يتجلى الفرق بين الجدل العبثي أو ما نصطلح عليه بـ(fadhi ku dirir)، وبين الحوار البنّاء، في هذا الشاهد، فقد وجدتني أمس في جلسة نقاش جرئية استمرت لأكثر من ثلاث ساعات بين مثقفين وأكاديميين معارضين للفيدرالية ولمشروع جوبالاند، وآخرين مؤيدين لها،  واستطاع الجميع التّوصل للتفاهم في نهايته، لأسباب منها سرد الحقائق التاريخية، والمصداقية، ومراعاة الجميع لخطوط الاحترام والبعد عن تجريح الذات.كما أنّ التساؤلات المطروحة حول دور الحكومة في إثارة البلابل في كسمايو وإدارة جوبا لاند، وبثّ الدّعاية التي تضب الزيت في النّار، واقتراح البدائل والتّصورات في المرحلة الحالية.  استطاع المعارضون للفيدرالية وإدارة جوبا توضيح ما وراء هواجسهم وتتلخص فيما يلي:

الأحد، 19 أكتوبر 2014

موسم العودة إلي الجنوب (3-3)


جلست تحت شجرة وارفة الظلال حينما تحرّكت الشمس إلي مغيبها بطريقة متأنية، وهي ترفع ذوئبتيها وترسم لونها الأرجواني الشفّاف علي جبين السماء، كانت المدينة هادئة وسرب من الطيور المهاجرة ترافق شفق المغيب وهي تعود إلي عشها وأوكارها، والأوراد الجماعية والأدعية العتيقة لمسجد حينا الموغل في الطريق القادرية الصوفية تتناهي إلي سمعي بين حين وأخرى محمّلة بعبق الأذكار ومسرات الأوراد، وشعورا  إيمانيا قويا.

نبض الحياة والأذكار الجماعية للطيبين المتصوفة أذكى في نفسي جذوة الإيمان، وذبذبات الشوق إلي الذكر الحكيم حرك مكامن الحنين في نفسي فقرأت كتاب الله بقلب خاشع، كنت أرتّل القرآن وأتمعّن في حروفه، وأتدبّر في معانيه بحب وصفاء، لازمت المصحف إلي أن أذّن المؤذّن، العتمة السوداء، والهواء الطلق، وفناء البيت المفتوح إلي السماء، والنّجوم المرصّعة علي كبدها، والصفاء النادر فتح شهيتي الكتابية وحرك مداد قلمي. بدأت التدوين وصوت القلم السيّال يشحذ همتي، وصرير القلم يدغدغ مشاعري ويحرش غريزتي، وفي خضم السير وسط حدائق الكتابة المفتوحة إلى مرفأ الذاكرة تذوقت لذة الكتابة التي أشهى من الشهد، وهاجمني طيفها المنبعث من كل أرجاء البيت ومن مرسال الشوق .

القمر ينير الدروب بطريقة قمئية، ويرسل أشعته الباهتة بضني شديد في ليلة ماطرة من ليالي الصيف التي تجود السماء دموع المآقي بحاتمية عجيبة إلى المناطق الجنوبية المحاذية للخط الإستواء، وقد تدثرت برداء الحياء من أجل الغيوم السوداء المتراكمة، والمزن التي تحمل أطنانا من المطر والحيا الذي ينعش التربة ويحي الأرض بعد موتها.

صلّيت العشاء حيث صليت الفجر خوفا من الغدر والإغتيالات المنتشرة في جنوب الصومال، إضافة إلي المطر المنهمر منذ الصباح، لم تدب السنة في جفوني وهاجرت الكرى عن عيوني والساعة تشير إلي ساعات الصباح الأولى بتوقيتنا المحلي، صخب الطبيعة وصوتها الهادر هو العنوان الأبرز والصوت الذي لا يعلو عليه صوت، حيث هدير الرعد وصوت البرق لم ينقطعا منذ المساء، والضباب البسيط يلتف حول الأرض وتحجب الرؤيا، وكأن كسمايو الناعسة علي جنوب خط الإستواء (علي بعد 30كم جنوب خط الإستواء) أصبحت مدينة رابضة علي الجزأ الشمالي للكون وفي القارات الباردة طول الموسم.

نسائم المطر الندية تهب من أعماق المحيطات، وعبق الأرض المبللة بالمطر تفوح من كل جهة، والصوت المترنم للأوراق والرائحة الزكية للأغصان التي تتمايل قربي وكأنها حفلة رقص رسمية، وعبق الزهور الفواحة التي تمنح أريجها الحيوية إلى الكون المتعب، والأعشاب المرتعشة علي وقع الرياح التي تهب عن الروابي المعشبة، والأشجار الكثيفة التي تحيط بيتنا، جعل المنطقة وكأنها مروج طبيعة وغابات إستوائية، حيث عذرية الطبيعة سلمت من أيدي العابثين والمهوسين بالتصحر الذي غزا على مساحات كبيرة من الأراضي الخضراء في وطننا الحبيب.

ما أجمل العودة إلي الوطن!، وخاصة من يملك قلبا مجروحا بأصداء السنين، وجسما منهكا بطول الغربة ورمادية المدن، الحياة في الوطن وبأجواء رومانسية يزينها الرمضان وبعد سنوات الغربة والمنافي تعني أن تدب الحياة إلي أوصالك من جديد، وتعني أيضا ان ليالي الغربة الموحشة وساعات المهجر المخيف إنتحرت علي أعتاب البلد وفي وسط الأحبة والأصدقاء، الذين يجعلون للحياة معني آخر أجمل وأحسن من معانيها، حينما يكون الغريب فردا بلا عنوان ويدك الصقيع كل خيط وعصب من جسمه، أو يلسع الحر علي جسده، وهو متسربل ثوب الغربة ويستمع إلي أنينها وموسيقى الترحال علي وقع الشجن والحنين الجارف، الذي غالبا ما يداهمنا في آخر الليل وفي هدأت السحر حين القلوب تصفوا والأذهان ترنوا إلي تربتها، والجسد المتعب يريد أن يستريح ولو علي كرسي خشبي قرب محطة من محطات الوطن الموغلة في العراقة والقدم .

الجمعة، 10 أكتوبر 2014

ثرثرة علي أهداب الطبيعة

تحت حرارة الشمس الأكتوبرية الدافئة مشيت متأنيا علي الرصيف البحري لساحلنا المقديشاوي المبهر والجمال يأخذني إلي زرقة المحيط وإلي أحاديث الأصدقاء الشيّقة والأمسيات الأيقونية، والإبتسامة الموحية للجميلات اللآئي ينشدن الدفء والراحة والإستجمام من الرمال الحريري، والهواء الطلق التي تهب من المحيط صوب البر محمّلة بنسائمها المنعشة.

في سحر الهدوء وفي سكون المساء يومض مشاعل الحبور من بعيد وعلي هامات الأمواج التي تشبه الروابي، وتضوّع النسيم العليل الذي ضفي الأجواء روعة وبهاء أريجه الفوّاح ومسكه الفاخر، وبدأت الصبا تداعب النفوس وتحرك بطريقة مثيرة خصلات الجميلات وشعرهن الفاحم، وسال نهر الكلمات الذي كان يتدفق من أفواه الأصدقاء ومن حناجر السمراوات الطوال بإنسيابية عجيبة تنسينا عن المكدّرات التي تحيط علي الإنسان الصومالي منذ سنة التسعين الميلادية.

علي صفح المحيط وصهوة المياه المتلاطمة سفن رابضة تتهيأ لجولة بحرية قصيرة، وسفن صيد شراعية متجه نحو عمق المحيط، وأخرى ألقت المرسال ومركونة في المياه الضحلة، ولاشات سريعة تستعرض قوتها وتتجول داخل المحيط بخفة ورشاقة ويركبها من يريد الإستجام وإستنشاق عبق المياه مقابل مادي بسيط، وزوارق سريعة تتراقص علي وقع الأمواج كفتاة إفريقية سمراء تهز أردافها وتضرب رجليها علي الأرض بعنف وصخب في ليل إفريقي خانق.

تبدوا ساحة الشاطئ وكأنها مهرجان بهيج لكافة شرائح الشعب، جماعات من البشر يمارسون شتى الألعاب والهوايات، وتزاحم شديد فوق الرمال وعلي الكراسي البلاستيكية لجميع الفئآت ومختلف الأعمار، هناك وعلي حافة الأمواج التي تتكسر علي الرمال النظيف وفوق الصخور الصماء والرمال الحريري، فتيات في عمر الزهور يلتقطن صورا جميلة وبأوضاع مختلفة ومثيرة، قد يرسلن إلي حبيب بعيد توارى في غياهيب المنافي، أو إلي قريب إبتلعته الغربة وأبعدته النوى. وأنا أتأمل السرور الذي طفح علي هؤلاء الشابات سألت نفسي من الأجمل؟ أ السمراوات أم المحيط ؟ فأجابت نفسي: أحتار أيهما أجمل! ولا أدري أم البحر ولونها الأزرق أم الحورية وإطلالتها البهية!

وهناك علي مقربة من المصطبة الطويلة لبقايا المباني المنهارة التي صدأت بفعل الأعوام المريرة التي تركت علي جبين الوطن ويلات وإحن وأيام سوداء كريهة، مجموعة من المنسيين علي هامش الحياة، يخزنون القات ويمضغون الأوراق الخضراء بنهم واضح وتلذذ شديد، وهم يتيهون في سراب النشوة الآنية التي تنقلهم من عالم الحقيقة إلي الحيوات الزائفة، والخيال الفانتازي والمزاج العالي الذي يصور الكون وكأنه مترنح تحت قبضته.
وهناك أولاد يلعبون الكرة ويداعبون الساحرة المستديرة، ويمارسون هوايتهم المفضلة في ظل تجاذبات طفولية، وإحتكاكات صبيانية، وشجار عبثي ينشأ عن أتفه الأسباب وينتهي في نفس اللحظة وبطريقة ساذجة وبرئية أيضا، وعلي الركن الهادئ البعيد عن أعين الفضولين والمارة أحبة اقتربوا ونسو كل الفراسخ المعنوية والأمتار الحسية، وهم يتهامسون ويتناجون ويتلذذون طعم الوصال ولذة الحب السرمدية، وينهلون من نمير العشق ومعين الهوى الذي لا ينضب.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...