السبت، 15 فبراير 2014

الرحيل نحو المجهول (2)

القصة المؤلمة والحكاية الرهيبة كانت تجعل للكهل قبولا من جانبي، ولأول مرة أجد أنسا يعتريني وإنسانا أثق به ولو بدقائق عابرة وعلي متن القطار القادم من بعيد وفي أدغال أفريقيا المخيفة وأحراشها البعيدة نحو المجهول كنورس تائه فوق جبال الألب في فصل الصيف أو كدب روسي اثره التغيرات المناخية والحياتية وإذابة الجليد الذي ضرب وبقوة في الجبال الجليدية المنتشرة فوق صفحة سيبيريا الزمهرير.

كان القطار يسير فوق لحى الأخشاب المجندلة في سكته وضوء الصباح الشاحب كذاكرتي الرمادية يدخل من النافذة الأمامية متسترا بنفحات الصبا المنعشة وأنا أجلس مسترخيا أدافع عن نفسي سراب الهموم وأبني في خيالي الواسع مناراتا للصمود والثبات، فيما كانت نوبات الماضي تهز راقصة وجه الكهل حتي أصبح وجهه قاتما وكأنه داجية لاصباح لها، وأدران الفجيعة والأسى مترسبة في وجدانه ويتألم كمن يعاني الحريق في جوف اللهيب، ولم يكن الزمن مناسبا لأتحدث عن قهر الظالم أو حتي لأتجرأ عن موساة المظلوم فعزفت ترانيم التجاهل وبدأت أغازل الطبيعة وبشكل حميم وموحي.

بصدفة محضة وبدون تخطيط مسبق كانت فاتحة كلامه ما أردت أن أرمي حجري حول محرابه، فتركتُ الرجل ليقول كل مايحرق حشاه ويجيش في صدره المثقول بآلام السنين وغدر الإنسان، وحقيقة لم أتفاجأ كيف كشرت الحياة عن أنيابها لهذا الرجل وكيف قلبت الدنيا له ظهر المجن، بل تعجبت كيف يسوق الوقائع ويتذكر دقائق الأحداث ويسرد الأسماء والأصاف وكأنها مرسومة علي لوح من زجاج تلاعب أحلامه وآماله وتخدش صفحة حياته وتؤثر ضميره.

عظمة المصيبة في نفس أيوب أفقدت عصمة اللحظة وبهاء الحال، وأمام الألم الذي يختبئ خلف ابوب المعاناة حاول سوق الكلمات ونسج العبارات وماهي إلا لحظات حتي ملأت العبرات في مقلتي الكهل، فتماسكت ليقول الرجل كل ما عنده لعلي أستفيد من تجاربه العديدة أولعل السطور الأولى لهذه الصفحة من حياتي تكتب حروفها عند هذا الكهل وفوق صهوة القطار المهترئ، إنهمرت شلالات دموعي لهول ما يقول الرجل وأحسست أن مشاعري كلها تختنق وراء غمامة كثيفة من البغض والكراهية والأحزان وجلد الذات وتأنيب الضمير.


وإستفادتي من هذا الدرس البليغ كانت أن تجربة الإنسان في الحياة كثيرة ومتنوعة، وقد يصيب أحد مشكلة ما فيرى أنها مصيبه كبيرة وحدث جلل ولا يوجد في الكون من هو أكثر منه ألماً وحرقه وقد يفقد المرأ الطموح  حتى يقترب إلى الرحيل، ولكن الساعات القليلة التي كنت مع أيوب وبعدما سمعت قصة رفيقي في السفر وما يعانية من قسوة بعض الرجال والقلوب الآثمة التي تفرض سياجا من الظلم وغسل الدماغ وتغييب الوعي للشعب المنكوب أيقنت أن في الكون يعج بملايين القصص المأوساوية وبلايين الحكايات المحزنة وأن ما أعانيه لا يساوي شئيا أمام العواصف والمصائب التي حدثت وتحدث في كل لحظة فوق البسيطة.

رائحة الماضي والصور الأكثر ضراوة وفتكا أذكت في نفسي جذوة جمدت الدم في عروقي وجعلت الآمال وكأنها منسوخة علي ورقة كاربون ولا شئ يدعو إلي التعجب في ذالك، كيف أسير مترنما في وادي أحلامي الجميل وفي كوكبنا الملئي بالغرائب والعجائب صرخات الضمير تأتي من هنا وهناك وصيحات الإستغاثة تدوي كافة المناطق في بلد تتساقط فيه الضحايا كأوراق الأشجارالتي تعصف بها زوابع الخريف! ولعل قصة أيوب ومعاناة أفراح تلخص معاناة جيل بأكمله طمست هويته وضعفت قيمته وفقد إيمانه بالحياة وبالمستقبل المشرق، فأيوب الذي يجلس أمامي مازال يحمل هموم الماضي وغموم اللحظة وأحزان الوقائع المؤلمة التي لا تفارق في وجدانه، ومن الجميل جدا أن اليأس لايدخل أبدا إلي قلبه العامر بالحب والإيمان والتسامح رغم كدمات الحياة الظاهرة في نبرات صوته وصفحة حياته.

تفاصيل القصة هي أن أيوب قبل أربعة أعوام كان يسكن بهناء البسطاء وطيبة أهل البادية وقناعة ممن يفوح عنهم رائحة التواضع والكرم الفياض الذين أذابهم عرق الجبين ويعيشون ببسالة وصمت في الريف، منصة السعادة كانت ملئية في بيته الصغير وحياته كانت مفعمة بالجد والكفاح ومصارعة أعباء الحياة وروتين المعيشة التي ينتزع فيها أنياب الردي ومخالب أسود الشرى لصعوبتها وكثرة ألحانها وتقلباتها.

بطبيعة أهل البادية كان كريما مضيافا كضيافة الأرض للمطر في يوم طاؤسي قرعت الطبيعة أجراس الحياة، يغدو في الصباح ويروح في المساء لا يبالي لفح الهجير ولابرد الزمهرير، ورغم أنه لا يملك سوى العزيمة والإصرار وبريق أمل لا يفارق في قلبه وحقول زراعية ورثها عن أبيه الذي لم يترك له سوى نسب شريف وسمعة طيبة في أوساط المجتمع الرعوي وبعض النوق وأغنام تفوق الأربعين وماتدر عليه من اللبن واللحم أو النقود بعد شرائها أو تسويق جلدها إلا أنه كان عزيز النفس مترفعا عن الطمع والتطلع بما في أيدى الناس.

كان أيوب عصاميا يأكل عرق جبينه وما حل في يده من الطيبات والأرزاق التي تأتي من خزائن الرازق، ولا يسأل الناس شئيا من متاع الدنيا مهما كانت حياته صعبة وحالته المعيشية متدنية، زهد عن بريق الدنيا والأطماع الزائفة ومصارعها، وكان يراقب بإستياء وبعين بصيرة ولكن قانعة:البذخ والثراء الفاحش الذي تعيشه النخبة الفاسدة والأروستقراطين وأصحاب الإمتيازات والشيكات، بينما ضاعت أصوات البسطاء والكادحين في هدير دوامة الحياة التي لا تكاد تنقطع، ويقول: لو أن الإنسان يقنع باليسير الحلال ويترك عن الجشع والطمع ونهب الضعيف والأغلال والفساد والترف الهائل لكانت الحياة رغم مشاكلها جميلة؟

في صغره تربي بعز عشيرته وبعادات قومه التليدة الضاربة في جذور التاريخ ذات نكهة الأريج  والعراقة الصومالية الأصيلة، وكانت حياته عادية وكعامة جيله وأترابه في الخمسينيات من القرن المنصرم بدأ حياته التعليمية بحفظ القرآن وامتهن الزراعة والرعي في كبره، وهما الوظيفتان الأساسيتان في الريف الصومالي بصفة عامة، ففي الصحارى والقفار حيث الطبيعة الجامدة والقطرة القليلة والأرض القفراء يعتمد الريفيون علي المواشي وتربيتها وتعتمد الحياة عليها بشكل أساسي، وفي الأراضي الزراعية ومواسم الأمطار وعلي ضفاف الأنهار والوديان يمتزج أهل الريف حرفة الرعي بالزراعة حيث يزرع الأراضي الهائلة ومئآت الفدان إضافة إلي رعي المواشي وتربيتها، وهكذا كانت حياته سيمفونية صراع مع الأحداث التي تدور في الرعي والزراعة وأفراد العشيرة.

ذهب الصبا وتوالت الأيام وإشتد عوده وتزوج فرزقه الله أولادا كالزهور إذ تضوع عبيرها، وبراعم جميلات يدخلن الحبور والسرور في النفس مهما كانت مثقلة بالهموم والغموم لبرهن ودماثة خلقهن وجمالهن الفائق، رب الأولاد في صغرهم كأي أب غيور علي دينه وعاداته وحضارته العريقة علي مبادئ الدين وثوابت القيم وطبائع الريف المحتشمة وعادتها المتجذرة في الأصالة والعراقة التاريخية.

دارت الأيام دورتها الطبيعية وتوالت الأحداث وتتابعت السنون ومعها تغيرت الأحوال وكبر الأولاد وتفرقوا في فجاج الأرض يبحثون الرزق واقتباس المعارف واقتناص الفوائد، ومعظمهم ذهبوا إلي المدينة وجذبتهم الحداثة المخضبة بالشجن وأضواء المدينة الآسر وإمكانياتها المتعددة وخدماتها المغرية ذات الإنسياب العاطفي، ورغم مشاغل العالم وبعد الأرض لم تنقطع أخبارهم أبدا، بل كانوا يرسلون الرسائل لوالديهم ومعها مبالغ مالية محترمة بل حاولو أكثر من مرة أن ينتقل الوالد والوالدة معهم إلي المدينة ليسكنوا معا وليرتاحوا من عناء الحياة بعدما ضعفت قوتهم وههن عظمهم وتفرقت الأولاد عنهم بحثا عن حياة أفضل وتحسين مستوى المعيشة.

ولكن كل مرة وبلا تردد كانت "لا" كبيرة جاهزة لكل من سولت له نفسه أن يتجرأ علي كسر الجرة وتسمية الرحيل أو تلميحها، ومن يحاول التستر بضبابية الكلمات والبوح للوالد بمكنونات نفسه وقناعته الراسخة نحو الإنتقال من الريف وحياته البدائية إلي المدينة ومرافقها الكثيرة وحياتها الجميلة، وكان يقول: كيف أتنقل من الريف وعبقه الفواح وحياته البسيطة والقلوب النقية والحب الصافي إلي المدينة حيث المكر والخديعة والتسلط والإحتيال؟، ولاغرو فالمدينة في نظر أيوب ماهي إلا مقبرة للفضائل والقابلة الرسمية لمساؤى الأخلاق وقبيح الأقوال بقدر ما هي وكر للإجرام والتحلل الأخلاقي والجري وراء بريق الحياة وشهوة السلطة والثروة.

والمدينة تقود الجميع إلي متاهات الخزي والعار! ويسرع ساكنوها إلي المجهول وبحيوية مفرطة وعزيمة لا تلين، وفي طريق تنقلهم بين أحضان الهموم والاسى ولحاق قطار المستقبل الذي يبتعد كلما اقتربنا وهرولتهم نحو سراب المدينة يشقون طريقهم بحد سهام الكذب والخداع والنفاق والتسلق والوصولية.

كانت أفراح رمانة أولاد ايوب وحبها يهز قبله من مكانه، وكانت فتاة كطلعة البدر صبوحية الوجه فائقة الأدب والجمال، وبعد إكتمال مراحل التعليم المتوفرة في القرية الحالمة علي ضفاف نهر شبيللي المنساب بعظمة موغلة في الجغرافيا والتاريخ كان أبوها يفكر بإيجاد رجل مناسب وشريك حياة يهدي إليها أجمل المشاعر وأصدق العواطف وأنبل الكلمات وأعز مالديه، وعرسها وزفافها المرتقب كان هاجسا يؤرق مضجع أيوب، في حين كانت أفراح آخر ما تفكر به العرس والزواج، لأنها كانت مشغولة بخدمة البيت وإصلاح المزارع والمواشئ ، ولم تفكر يوما عن الزواج والخطبة والعرس والقفص الذهبي والمأذون ومرادفات العشق والهوى لصغرها وإنهماكها الكثير لمساعدة الأسرة وخاصة بعد أن تنقل الجميع إلي المدن ولهثوا وراء سرابها الزائف.

كانت التعليم والتفوق الدراسي والسفر إلي الصروح العلمية المنتشرة في بلدها أشواقا جرعتها أفراح علي مهل وآمالا ساطعة طالما تمنت أن تعانقها يوما ما، وكانت تحاول كثيرا تغيير نمط الحياة والهروب من غربة الجهل إلي أنس المعرفة ومن جدران المدارس المتواضعة في قريتها الصغيرة إلي آفاق أرحب ومؤسسات تعليمية أعرق، وكانت مهتمة وبقوة إقتلاع الأشواك في الطرقات المؤدية إلي تحقيق أمالها لئلا تكون عائقا بينها وبين آمالها المشروعة.

نسيتُ وعثاء السفر وكآبة الواقع وكأني أشاهد فيلما سينمائيا أعده مخرج فنان ومنتج عبقري، ولم أشعر هدير القطار ولا همسات المسافرين لأني كنت مشدوها بكلمات أيوب وشعوره الخانق، إنهمرت دموع أيوب دون مقدمات حينما ذكر إسم "أفراح"! فحاولت المؤاساة ولكن كانت العبرات تزداد والنحيب يشتد والأوداج تنتفخ في كل لحظة، فجمعت ما أوتي لي من صور الخيال لقراءة رفوف أفكاره الحزينة، وحاولت التفرس علي مكمن حزنه لأتعرف ماهو الألم الذي يقبع في قلب أيوب ويجثم في خبايا نفسه ومكنونات ذاكرته.

لم يخطر يوما في باله أن حياة إبنته وفلذة كبده ستتحول إلي جحيم لا يطاق ورقما مجهولا من ضحايا العنف والإرهاب، وستكون حديث النوادي والسمار يتناقل أخبارها الغائدون والرائحون للشماته والفضول أحيانا وللتسلية أحيانا أخرى، لم أستطع أن أتامسك أمام كلمات أيوب القوية فبدأت المشاعر تعزف علي الوتر الحساس تساعدها رهافة قلبي الغريبة ألتي القت بثقلها عليّ حتي غصت في بحر من الدموع والألم النفسي، وعبثا حاولت نزع إبتسامة في خضم التراجيديا والبكاء الهستيري لأيوب ولكن أنّي لأيوب أن يضحك وأرشيف الذاكرة مازال يخزن صرخات أفراح وآهاتها ونحيبها المدوي حينما كانت الذئاب البشرية تلطخ عفتها وشرفها أمام الجميع وفي ميدان عام.

لم تكن أفراح وحدها من فقدت شرفها وطهرها في وحل الحروب وبعيون العابثين علي شرف الأمة، ومن واجه الحياة بأيدي لا تعرف الرحمة وقلوب قاسية لا تمسح الخيبة في جبين الإنسانية، بل الأشباح الساكنة في كهوف الجحيم وفي ربوع وطننا الذين هم في الحقيقة رسل الكدر وحاملي الهمّ ومنتجي الإبادة جعلو حياة الأمة مفعمة بالأسى والحزن والألم، ولم يرحمو إستغاثات الضعفاء وبكاء الأطفال والأرامل ونظرات البنات وهم يسوقونهن إلي أوكار الجريمة والخزي والعار.

قصة أفراح ودموع أيوب وحكايته المؤلمة وتشنجات السفر أثر في نفسي وتركتني جروحا لا تندمل وكوابيس لا يطاق وأنا في صهوة القطار وفي وسط المسافرين وهمساتهم وضحكاتهم التي تشبه آلات موسيقية تتكلم، وفي خضم مأساتي النفسية تسآلت كيف يلوث المغتصب عطر الندى بشهوته الآثمة وعرق جبينه المسموم، وهل للروضة التي تضوعت بالأريج ويصدح فيها الحمام نشوى أن يحرقها الجاهل بتصرفاته العنجهية وأفعاله الشنيعة؟.


ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...