الخميس، 23 يناير 2014

العلمانية داء العصر(2-2)

مفهوم الدين بين الإسلام والغرب.

الإختلاف الجوهري يكمن في المفهوم الديني بين المسلمين والغرب المسيحي، ومن هنا يقول كريم محمود القزق: (ما يفترق فيه المنهج المعرفي في الإسلام عن غيره من المناهج المعرفية للديانات الأخرى هو احترامه لقدرات العقل البشري، فلا يلزمه بما لا يطيقه ولا يستخف به ويحتقره، وتقديره لكون ابن آدم ذو احتياجات روحية واحتياجات جسدية، فهو ليس بالمنهج الذي يغرق الإنسان في التصوف الفلسفي الذي يشطح به في غيبات الخرافة، ولا ينزل به إلى أسافل المادية التي تقتل الروح ولا تعترف إلا بما تدركه الحواس ويطلبه الجسد: ونرى ذلك جلياً في منطقية ارتباط مدلولات الألفاظ واصطلاحها الشرعي بمعانيها اللغوية، وارتباط ذلك المعنى اللغوي بآثار مدلول الاصطلاح الشرعي على واقع المسلم إذا هو التزم المنهج والعمل بهذا المدلول.

تفصيل مدلول "الدين" اللغوي من القرآن والسنة ودوواين لسان العرب:
فالدين: لغة: كلمة من أصل "د ي ن" يدل علي:
1:العادة والشأن والسيرة
2:المِلـَّة والعبادة
3:الجزاء والمكافأة والحساب
4:القهر والاستعلاء والغلبة والحكم والملك.

ومن كتاب الله تعالى مما يشير إلى هذه المدلولات:
*العادة والشأن والسيرة.
مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} النساء:125
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالي:
"وهذا قضاء من الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلها ، يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} أيها الناس، وأصوب طريقاً، وأهدى سبيلاً {مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ}، يقول: ممن استسلم وجهه لله فانقاد له بالطاعة، مصدقا نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه {وَهُوَ مُحْسِنٌ} يعني: وهو عامل بما أمره به ربه محرم حرامه ومحلل حلاله" اهـ.
قال القرطبي رحمه الله:
"قوله تعالى: {فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي سلطانه: عن ابن عباس. وعن ابن عيسى: عاداته. وعن مجاهد: في حكمه، وهو استرقاق السراق." اهـ
- *الملة والعبادة، والطاعة والخضوع
مثل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ} آل عمران:19
وقوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} النحل:52
قال ابن كثير رحمه الله:
"أي: له العبادة وحده ممن في السماوات والأرض، كقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّـهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]" اهـ
- الجزاء والمكافأة والحساب، والقهر والاستعلاء والغلبة والحكم والملك:
مثل قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّـهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25]

وفي الحديث الشريف:
أخرج الامام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد..
حتى قال: «ثم انطلق فلبثت ملياً ثم قال لي صلى الله عليه وسلم: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. »
والحديث فيه سؤال جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم الإحسان، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك "دينا.ً"

فالدين هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، وأن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، وأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

فالدين هو مجموع الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة وما يعتقده المرء وما يؤمن به ويصدقه من الأمور الغيبية، فهو اعتقاد القلب وما ينجم عنه من عمل الجوارح تصديقاً لما في القلب من صدق المعتقد وانصياعاً لملك الجوارح: قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (البخاري ومسلم في صحيحهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنه).

فالقلب محل الإيمان وعلى قدره يكون صلاح ما يأمر به الجوارح: ولا يصلح إيمان المرء إلا بما أوحى الله تعالى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي، قال تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم} [محمد:14] وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّـهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ . فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}الروم:29-32.)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منظومة القيم والمفاهيم الإسلامية: مصادرها وأثرها في السلوك / الحلقة الثانية: مفهوم الدين في الإسلام مقارنة به عند الغرب. (بتصرف)

و(المفهوم الغربي العلماني للدين، على أنه علاقة خاصة بين العبد والرب، محلها القلب، ولا علاقة لها بواقع الحياة.. جاء من مفهوم كنسي محرف، شعاره "أد ما لقيصر لقصير، ما لله لله"، ومن واقع عانته النصرانية خلال قرونها الثلاثة الأولى، حين كانت مضطهدة مطاردة من قِبل الإمبراطورية الرومانية الوثنية، فلم تتمكن من تطبيق شريعتها، واكتفت بالعقيدة والشعائر التعبدية ـ اضطراراً ـ واعتبرت ذلك هو الدين وإن كانت لم تتجه إلى استكمال الدين حين صار للبابوية سلطان قاهر على الأباطرة والملوك، فظل دينها محرفاً لا يمثل الدين السماوي المنزل. فلما جاءت العلمانية في العصر الحديث وجدت الطريق ممهداً، ولم تجد كبير العناء في فصل الدين عن الدولة، وتثبيت الدين على صورته الهزيلة التي آل إليها في  الغرب، وإذن فالعلمانية، رد فعل خاطئ لدين محرف وأوضاع خاطئة كذلك، ونبات خرج من تربة خبيثة ونتاج سيئ لظروف غير طبيعية.. فلا شك أنه لم يكن حتماً على مجتمع ابتلى بدين محرف أن يخرج عنه ليكون مجتمعاً لا دينياً بل الافتراض الصحيح هو أن يبحث عن الدين الصحيح.)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لماذا نرفض العلمانية،بدر محمد

ومن هنا فالعلمانية بمفهومها العام وكنهها الخاص هي تناقض صريح ودعوة وقحة تناهض جميع الأديان والأخلاق وكل ما يدعو إلي الغيبات والإيمان بالآخرة والجنة والنار، وتتضمن محاربة الإسلام والمسلمين بطريقة أكثر ذكاء ومؤاربة، ومما لا شك فيه أن الغرب الذي ترتبط الدين عنده بالهوية وتتمسك دينه يريد للمسلمين أن يبتعدوا عن دينهم، وتسخير الأحزاب الدينية في الغرب وتمكينهم في كل شئ (ألمانيا مثلا) وتحريم الأحزاب الإسلامية في التمثيل والحكم وقتل كوادرها وسجن أعضائها( مصر، الجزائر بنغلاديش... والقائمة تطول) هي علامة واضحة أنها أصبحت في الآونة الأخيرة نظرية شاملة تحارب الإسلام وتوظف طاقاتها لهدم ديننا الحنيف!، ولكن يأبي الله إلا أن يتم نوره.

ومن المبكيات أن المبتعثين إلي الغرب أومن أنبهرو بريق الحضارة الغربية الزائفة وتحيروا في هدير التكنولوجيا وأعمتهم المادة، أخذوا ثقافة القشور ومساوى العلمانية الغربية فنقلوا الإلحاد والألعاب الكلاسيكية والحب الفاضح والعري والنوادي الليلية وخلع الحجاب والخنا والزنى ومنع التعدد وسب الدين وأنها أفيون الشعوب! ولم ينقلوا إلينا العلوم والمعرفة والتكولوجيا والتقدم العلمي والأبحاث القيمة والتطور العمراني الذي قامت به أوروبا أو الغرب بأجمعه.

كما نسوا في غمرة إنبهارهم أن العلمانية ولدت من رحم المعاناة وتسلط رجال الكنيسة( الدين منحرف هنا) والكهنوت والقساوسة علي الناس، وخاصة الطبقة المثقفة التي كانت تدعوا إلي التنوير المعرفي والثقافي والإلتزام التام لرجال الدين بقيمهم التاريخية ودورهم الريادي في داخل المجتمع، الذي هوإرشاد الجموع نحو الصلاح وبيان الدين وتحذير المهالك والمطبات، وبعدما يئسوا من تقويم الكنيسة التي لا يمكن إصلاحها بفساد أساس دينها المنحرف ولدت الفكرة التي تدعوا إلي تحجيم دور الدين في أوساط المجتمع وشيطنة الدين ورجالها.
أما نحن المسلمون فكيف تنطبق علينا ما عاشت أوروبا في العصور المظلمة؟ وهل التجارب قابلة للإستنساخ والتداول؟ وماذا نفعل ما كتبه خيال أتعبه الكحول وأنهكه المخدرات والضعف البشري؟ ولنا دستور رباني ودين حنيف وشرع قويم من لدن رب العالم "وربك لا يظلم أحدا"، وإذا رمينا الدين ودستورنا (القرآن) وراء ظهورنا فمن أين نجد دستورا يراعي الحقوق ويقرر الحق وينظم الحياة؟.

وأخيرا لا أحتاج أن أذكر أن العلمانية ليست نظام حكم قائم بذاته له أهدافه ومرتكزاته وفلسفته الوجودية وأيديولوجياته الخاصة، وإنما مجموعة من الأفكار والتصورات لم تبلغ درجة التبلور في عالمنا العربي والإسلامي، تحركها بغض الدين والإنحلال الخلقي والميوعة في المواقف والإنبهار الحضاري والإنفصام  الذاتي، وحقيقة هي كلمة مرادفة للفسق والفجور والعري والضلال، عنوانها الرذيلة وشعارها التحلل الأخلاقي وإن تسترت وراء الأقنعة الزائفة والكلمات الرنانة مثل "الإستنارة العقلية والتفكير الحر والإصلاح الإجتماعي والمجتمع المدني" وغيرهم من الكلمات المستوحاة من قاموسهم الجميل في مظهرة والقبيح في مخبره.

ومن العجائب - والعجائب جمة - أن في السلوك العلماني يجعل التهكم لكل ما هو إسلامي والإستهزاء بشعائر الإسلام الشخص مفكرا كاتبا وعالما نحريرا وفيلسوفا عبقريا!، وفي عقيدتهم الفاسدة أن كل ملحد تنويري وكل علماني مفكر وكل شيوعي ماركسي متحدث للمجتمع المدني، وكل محتال طماع غيور للمصلحة العامة، وكل خبيث قاصر الفهم عربيدا مشفق للأمة، وكل مستبد سفاح حامي حمى الوطن وكل مشكك في وحدانية الله فيلسوف وكل من يأبي شرع الله ويطبل للدساتير الوضعية ليبرالي عظيم، وكل من يحاول هدم الدين من الأساس وتشويه صورة الإسلام ناشط مدني.!


وكل من يتمسك بالدين ويدعو إلي الإسلام إرهابي، والملتزم رجعي والمواظب للصلوات في أوقاتها وفي المساجد ساذج وصاحب اللحية خرفان والمحجبة ذميمة تستر قبحها.

الأربعاء، 22 يناير 2014

العلمانية داء العصر(1-2)


العلمانية  فيروس العصر وداء القرن! وهي الكلمة الأكثر حضورا مع قرينتها الديمقراطية في أوساط الناس وعلي ألسنتهم، حتي باتت المصطلح الأكثر شهرة وترديدا في العالم، لدرجة بدت وكأنها العصى السحرية والخلطة التي تنجي العباد والبلاد من الشر المستطير، وتساهم في إنقاذ البشرية وإنتشال الكون من براثن الجهل والجوع والمرض، وأنياب الغي والحروب والصرعات العبثية والإنتهازية المتأصلة في نفوس المتغطرسين أصحاب النظريات البائسة والعنجهية والإستبداد المقيت، وتوجه سفينة الحياة وزورق الكون نحو الأمن والأمان وشاطئ السلامة والسعادة.

العلمانية الغربية مرت بمراحل مختلفة وأطر متباينة حتي وصلت إلي العلمانية المعروفة حاليا، وتاريخيا هي نتاج الإستبداد والتراكمات التي نجمت عن الظلم الذي مارسه رجال الدين (المنحرفة)، وأحدث الغرب هذه النظرية بعدما اكتوى نار الطغيان الكنسي وبعد التنكيل والإضطهاد والمصادرة التي قامت الكنيسة بعد التحريف الذي طال النصرانية، حتي باتت جوقة تخدم الرهبان وتعذب العباد وسوطا مسلطا علي رقاب المجتمع وضد الشعب الأعزل الذي أرهقته ضرائب الرهبان وإمتيازات البرجوازيين المتسترين في ثوب الكنيسة وأقنعة التدين، فناهض المثقفون والعلماء والنخبة رجال الدين وتحركوا نحو إبعاد الكنيسة عن شؤن المجتمع والحياة العامة، وعاش الشعب حياة عادية بعد نبذ الطغيان الكنسي الذي أثر المحاور الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والنفسية للشعب وكرس الإستبداد والخوف والكهنوت.

أما العلمانية الشرقية فهي إنتهازية تبرر للجشع والطمع وتحارب القيم والموروثات الحضارية والتراثية، وتدعوا إلي التقليد الأعمي للقيم الوافدة والحضارات العابرة للقارات،! وكان مصدرها غباء متأصل في نفوس ناقليها وجهل متراكم في عقلية رجالها، لأنهم نقلو نظرية فارغة المضمون والمحتوى إلي أرض تملك حضارة خالدة وثقافة مترسخة في الوجدان وقيم نبيلة قديمة قدم البشر ودين تكفل الله حفظها لا يمكن أن تنال الأيادي المنحرفة والسواعد العابثة عليها.

ومما زاد الطين بلة أنها كانت نظريات ورؤى وأفكار غريبة غير مفهومة وغيرمستصاغة لدى المسلمين، بل تتصادمت مع معتقدات الشعب وشعائرالدين ونفت ضرورات الإسلام والقيم، وحاولت تشطيب المعتقدات والأخلاق عن القلوب، وحاربت الغيبيات والعلم الذي خص الله به، كما كانت في سلوكها نخبوية فوقانية ورجعية راديكالية وشوفينية متخلفة بمعني الكلمة.

الاثنين، 20 يناير 2014

صقيع نيروبي وصوت الشقراء

لم تكن تلك الليلة من ليالي الخرطوم المعبأة بالذكريات والشجن لتمر دون أن أتذكر رنات التوجع ووميض الأفراح التي مرت على لوحة حياتي. في تلك الليلة الطاؤوسية بدأ قلبي يعزف لحن الذكريات ويطرق ابوبا الماضي، لم أتفاجأ من هذياني وترحالي السريع نحو الماضي كسرعة الضوء في الفضاء لكوني جلستُ أمام المنافي وجها لوجه، وأوردني السهر في كل مورد.
كنت أعض شفتي خانقا وأتامل بغرابة ظلام العتمة وإضاءة الغرفة وسقفها العتيق، وفي لحظة نادرة من الصفاء العميق والتأمل السحيق وفي خضم إنهماكي في رفوف الأفكار وتناسق الخواطر، مرت الذكريات أمامي كزرائب الطيور ، فهالني بين ألبوم الذكريات صورة تحمل الحزن الإفريقي وشبح الحروب ولاتخلو من المظاهر التراجيدية للمشاعر المتبلدة.
بحر الذكريات أجبرتني أن أهرب إلى السكون، وفي هدوء الليالي المطبق يراودني خيال أن أرقص على مقربة من الأرصفة بأريحية محسودة. وفي خضم أمواج الواقع كدتُ أن أنسى الماضي  وأنحني رأسي أمام الواقع لقوته وعمقه، ولكن تذكرت تلك الليلة الربيعة في نيروبي المختبئة خلف أبوب خشبية من الذكريات الصدئة والأحداث المتلاحقة والتنقلات الإجبارية والإختيارية.
الصورة القاتمة لازمتني منذ ذلك التاريخ، ولم يمسح الزمن عن ذاكرتي في الحل والترحال، بل كل ومضة أوهمسة تقف أمامي وتصدح في أعماقي، ويرتفع معدل الشعور المتنافض كلما أتوغل أرخبيلها وأغني فوق رمالها بصوت خافت يصدر عن مزاج قابع على رماد الماضي.
كانت الصورة مزيجا من قبح الحروب وسلبية المشاعر والأحاسيس، وتعود لـعام 2008 للميلاد، ذاك العام الذي حمل لي كل تناقضات الحياة، الأفراح والأتراح وأنغمست فيه الملذات والمتاعب، وحملني جمال الحياة وسواد الحال والمنون التي إختطفت أعز الأشخاص إلىّ، كما حرمني أشياء كثيرة مثيرة ومتنوعة لا أنساهم، وأرتكبتُ برفقته بعض الحماقات المقيته وبعض التهورات السخيفة، وفي نهايته إبتسم لي الحظ أخيرا وحققتُ أغلى مطامحي في تلك الفترة، لتبقى تلك السنه الأكثر حضورا في سجل ذكرياتاتي الحافلة بكل ألوان الطيف وتقلبات الحياة.
إنهمرتْ السماء على نيروبي الحزينة وأبتْ أن تكتحل عينيها النعاس. قطرات المطر لا تكف عن المدرار، وصخب الطبيعة ورعدها الهادر إمتزج بلون الدم وصوت الملاهي، وضجة الرصاص، ورائحة البارود. وموسيقى الجاز، ونغمات الهيب هوب الصاخبة، والصوت الذي يولد من حناجر السمراوات وهن يغنين من أطربتهن أناشيد الحب والحياة.
بدأ المطر يهطل وكأنه يغسل الدماء من تربة نيروبي الودودة، وكستْ الطبيعة لونها على صفحات الكون، وأنوار المدينة تومض ولهى في وسط العمارات والمباني الحكومية والمتاحف التاريخية، وبدت المباني رغم جمالها أكواما من رماد وآهات من الألم!، وأصبحت الحدائق المنتشرة في نيروبي مجرد أعشاب تهزها الأعاصير أوأغصان أشجار أصابتها رعشة في زمن المغيب.
بعد الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية وما شابها من غموض وتزوير على أعلى المستويات لم ترضي النتيجة أطراف الصراع الإنتخابي الذي سرعان ما تحول من الإقتراع إلى الإحتراب، ومن تنافس شريف إلى تناحر بغيض ومن صناديق الإقتراع إلى بنادق الإقتتال!، وفقدت المدينة بريقها وزخمها المعروف، ولعلعت الرصاص في الأزقات والشوارع وعاش الناس في هلع وفي هرج ومرج، الناس حائرون، والصوص منتشرون، والدولة نائمة، وبائعي الكرامة ينتظرون القريب قبل الغريب على الرصيف، والشرطي يتسابق مع العصابات والمجرمين ويدخل معهم حرب كر وفر في شوارع نيروبي الرئيسة وفي أزقاتها الجانبية.
الأبراج العاجية والمباني الشاهقة وثورة الطبيعة تتحول في زمن الخوف إلى أشباح تتلاعب في الضباب، وكائنات فضائية تصب لعنتها على الإنسان الذي أبدع في البناء والتشييد وأخفق في السلام والمحافظة على المكتسبات الحضارية والروحية والتاريخية، وأفني نفسه وأهدر ماله في مواجهات عبثية دامية لا ناقة له ولاجمل.
أحلام تصرخ ومستقبل قاتم وحرب الشوارع ومواجهات دامية، موت جماعي هنا ومجزرة هناك، قتال بين الشعوب واحتراب داخلي رهيب، ونهب لممتلكات الدولة، وسطو مسلح لثروة الأمة وتأريخها، وموجة عنف رهيبة تؤدي إلى التشرد والضياع والتشرذم والهلاك، وزهق لأرواح الكادحين والبسطاء في كل البقاع.
بعد رحلة رائعة من غاريسا حاضرة الإقليم الصومالي في كينيا وكان الخيال الفنتازي يملأ أركان قلبي ويمني نفسي وصول البيت قبل ظلام العتمة، كان جبين نيروبي باهتا ممزوجا بالضجر والألم ! الناس مسرعون بإتجاهات مختلفة وبحاجب معقود!، والحياة ملطخة بالدموع واللون القاني والأماني والتضرع، الحركة تجري بتروي شديد يشوبها الحذر، كل شيء يخبرك التغير الذي طرأ على حياة الناس والمدينة.
في ذلك المساء الشاحب لم تكن المدينة كما تعهدنا جميلة وكما تغني لها الشعراء والأدباء قريبة إلى الجنة، بل كانت خابئة المنارات كدروب كريهة، الدم يفور من كل بقعة من جسدها، القتلى  أكثر من ألف شخص خلال أقل من شهر والجرحى لايعد ولا يحصى، مما كون الإحباط وفقدان الأمل في النفوس، وهدم جسر التواصل بين أبناء المجتمع الواحد.
النواقيس والأجراس تدق الخطر الداهم في كل لحظة ، لم أفكر سوي إيجاد مواصلات آمنة تقلني من إيتسلي  إلى وسط المدينة لأركب مرة أخري من الوسط التجاري إلى حي سوث سي (South C) الذي أسكنه، ولكن ندرة المواصلات تجبرني أن أقف في المحطة أكثر من ساعة كان الخوف والترقب سيّدا الموقف، وأخيرا أدركت باصا مكتظا بالركاب والخوف، لم يكن عندي ترف الخيار ولا فسحة الإنتظار فقزت عليه كغزالة رشيقة أو كظبية أليفة في وادى فَافَن الموغل في سحيق التاريخ، وبعد خمسة وعشرون دقيقة من الخوف نزلت عن الباص على رصيف هيلاسيلاسي إيفنيو" أو شارع هيلاسيلاسي" المكتظ بالمارة والسيارات والباعة المتجولين وأطفال الشوارع والمتشردين.
كانت الصورة هذه المرة أبلغ من ألف كلمة ومليون حكاية !.... رمال السياسة المتحرمة أثرت كل شيء!، الحياة معدومة ورائحة البارود تزكم الأنوف والشرطة أرهقتها المطاردات، أما الشعب أصبح ضحية لمزايدات سياسية، وهلوسات فكرية، وأجندات جهنمية خططتها أنامل الحقد والحسد عن غرة، ودفن الجميع روؤسهم في تراب التجاهل والإستخفاف بمصائر الشعوب، السياسيون غمرتهم شهوة الكراسي، والحكومة تدور في المربعات العبثية، والمعارضة لا تقدم سوى إراقة الدماء ولا شيء يبدد الأسى وينهى القتال يبدوا في الأفق! إلهي ماهذا الجنون؟ وماذا أصاب كينيا جنة القرن الإفريقي والحديقة الجميلة في وسط الحقول الملتهبة؟.
ت

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...