الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

الحروب.. والبحث عن الذات (١)



في شهر تموز عام 2006م وبعد تخرجي من الثانوية العامة سافرت إلى حمر التي كانت مدينة حقيقية مقارنة بكسمايو، وفي سط رمال الحروب السائبة التحقت بجامعة مقديشو المحسوبة على حركة الإصلاح التي تمثل «الإخوان المسلمين» في الصومال. كانت الجامعة مناسبة لشخصيتي واهتماماتي ولكنها لم ترق لخالي الذي تولّى رعايتي وتعليمي بعد رحيل والدي باعتبارات فكرية وحركية. كان خالي العزيز أطال الله عمره -الذي كان رمزا من رموز التيار السلفي- يرى في ذلك الوقت أن الإخوان المسلمين بعيدون عن النهج الصحيح وفكرهم يتّسم «بالميوعة» والتساهل في «آفة الاختلاط». ورغم خلفيتي الأسرية والوسط الفكري الذي نشأت فيه إلا أنني لم أكن أحمل أي اهتمام لأفكار التيارات المتنوعة والحركات الإسلامية المتصارعة في بلدي، بل كنت أرى أنها حركات متشابهة وجماعات تتنافس على مسرح العبث. كنت مجرّد شاب تحدوه المعرفة ويريد الالتحاق بجامعة تمتاز بجودة التعليم والنشاط الطلابي والنقاش الفكري وهذا ما لمسته في جامعة مقديشو التي كانت حياتها الثقافية مرضية بخلاف الجامعة الإسلامية بمقديشو التي لم تثر في نفسي أي حماس.

تحت الحاح خالي وبعد أسبوعين فقط من التحاقي بجامعة مقديشو تحولتُ إلى الجامعة الإسلامية. وإن أنسَ لا أنْس يومي الأول بأسوارها، أتذكر وكأنها كانت بالأمس القريب. كان صباحا مشرقا من صباحات آب عندما دخلت مبنى الجامعة الذي يقع في ناحية تليح. بدت الجامعة من خلال عيون شاب يريد التحدّي واكتشاف الحياة والغوص في أعماق الثقافة والنشاطات الطلابية وكأنها خامدة وبعيدة عن الأجواء المرسومة في ذهني. كان التجانس واضحا في كل ركن من أركانها حتى ظهرتُ من بينهم غريبا لا يمت للجامعة ولا الجماعة بصلة. وكان أول ما لفت نظري هو أن عمر معظم الموجودين في الحرم الجامعي فوق الأربعين والشيب قد تخلل في لحاهم! رجال حليقي الشوارب كث اللحى يبدوا الوقار على جبينهم! الطلاب دون الثلاثين قليلون جدا ولا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، أما العنصر النسائي فشبه معدوم وهذه وحدها كفيلة بالانسحاب عن الجامعة. دخلت في وسط جموع تتحدث عن السياسة والحروب ويصغون إلى رجل كان يفرض سحراً هادئاً عليهم، استمعت إليه وهو يتحدث بشغف واضح عن المعارك الضارية التي انتهت قبل شهر ودحر تحالف «مكافحة الإرهاب» رغم جبروتهم وطغيانهم وقوتهم العسكرية. كان الحضور يتفاعل مع وتيرة الحكاية وشذي الأناشيد وسرد الأحداث وكرامات المجاهدين والقصص البطولية لشباب لا يأبهون بالموت بل يحملون أرواحهم على أكفهم.
سأحمل روحي على راحتي * * وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق * * * وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
كان القيادي الفصيح منتشياً بسيطرة المحاكم على أحياء مقديشو وهزيمة عبدي قيبديد آخر زعماء الحرب في العاصمة الجريحة.

ذهبتُ رأسا إلى قسم شؤون الطلاب، كانت ثلاثة فتيات منقبات يجلسن أمام المكتب وفور دخولي تهامسن وهن يتحدثن عني وينظرنني بعيون حادّة كشمس آذار على مشارف كسمايو، وصلني صوت إحداهن: "لماذا هذا المسبل؟ هل يريد الانضمام إلى الجامعة؟" والغريب أنّني كنت في أشدّ فترات حياتي التزاماً! ابتسمت لهن وواصلت سيري نحو المكتب المتواضع. جلست أمام رجل خمسيني باسم الثغر وذو وجه يشع نوراً ويتلألأ من العبادة. وبعد محادثة قصيرة قدّمت أوراقي وسجّلت اسمي في كلية التربية قسم الرياضيات والفيزياء وحضرت عدّة محاضرات عن النظريات الفيزيائية والمبادئ الأساسية للرياضيات وتطبيقها في الحياة إضافة إلى مواد أخرى دينية. اكتشفت سريعا أنني لا أستطيع مواصلة جامعة النخبة السلفية وأنّ وسطاً ثقافيا لا يوجد فيه اتجاهات فكرية مختلفة ومنابر طلابية عامرة بالنقاش ولا تنوع في المظاهر والاهتمامات لا يلائمني، وغادرتها نحو البحث عن جامعة أخرى ترضي ذائقتي أو بالأحرى نحو المجهول والانقطاع الدراسي الذي دام سنوات. ومن باب الانصاف وبعيداً عن ميول شاب عشريني مفرط برومانسية العقد الثالث كانت الجامعة تعج بأساتذة محترمين ومعلمين متميزين وشيوخ من الطراز الرفيع.

وبعد مغادرتي لها بدأت بالبحث عن الجامعات الخارجية، وكانت بلدان مثل السودان، سوريا، مصر واليمن وجهة مفضلّة لديّ وإن كان صديق الطفولة أحمد عبدي متان الذي كان طالبا في أقدم الجامعات الهندسية في باكستان «جامعة الهندسة والتكنولوجيا» في لاهور يحثّ عليّ الالتحاق بها والانضمام إلى أسرة المهندسين. ورغم عزيمتي التي لا تقهر إلا أنني كنت في حيرة من أمري ذلك أنني لم أكن أعرف ماذا أفعل ومن أين أبدأ وكيف أتواصل مع الجامعات الخارجية؟ وبعد مراجعات وتفكير عميق إضافة إلى نصيحة من أحد الأصدقاء عزمت الذهاب إلى اليمن لألتحق بجامعة الإيمان التي كانت قبلة لكثير من الطلاب الصوماليين آنذاك لقرب اليمن الجغرافي أولاً وتشابه العادات والتقاليد ثانياً إضافة إلى سهولة الالتحاق بها. وفي صيف غير سعيد في الصومال كنت في طريقي إلى اليمن السعيد. لم أكن أهرب من الحرب الذي عشنا فيه حتى بات حدثا عاديا لا يثير في النفس أي رهبة ولم يكن ثمّة ميزة خاصة لجامعة الإيمان غير أنني كنت أريد الخروج من قوقعة المدن الصومالية الموبوءة بالحروب وداء القبلية.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...