الأربعاء، 3 أغسطس 2022

الحرب .. والبحث عن الذات (٢)



في منتصف سبتمبر وفي أجواء يسودها الترقب واللايقين عاشها الصوماليون بعد سيطرة المحاكم الإسلامية على العاصمة سافرت برّاً نحو الشرق البعيد. كانت الطرق التي يعتبر «أساس الحضارة» منهارة ومليئة بحفر ومطبات ومليشيات مسلّحة وقطاع الطرق. في هدوء الصباح توغلنا في قرى محاذية لنهر شبيللي حتى وصلنا في قرّ الظهيرة إلى مدينة بولو بوردي الوادعة على ضفاف نهر يعتبر الشريان الرئيس للصوماليين زراعياً.


على مشارف غراتسياني وفي أحضان جبال هيران كانت شمس أيلول تحرق الأرض وتجعل السيارة اليابانية قطعة من حديد ساخن. ورغم الخوف ووعورة الطريق إلا أن الأيام الثلاثة التي قضيتها في السفر بين مقديشو وبوصاصو تنعمت بلحظات هانئة وأصابني فرح طفولي وأنا أجوب وهاد الأغاني وآفاق الشعر مع شاب يقرأ الأدب الصومالي بحماسة مفرطة ويهيم في أودية القصائد الكلاسيكية والسلاسل الشعرية الهجائية مثل غُوبا وهَامِي ورَيَّدْ وديلّي (القصيدة الدالية) وغيرهم من عيون الشعر الصومالي.

وصلنا إلى مدينة غالكعيو التي كانت مقسّمة – على أساس القبيلة - إلى شمال وجنوب - كان الجنوب عالقاً على هامش المدينة في حين كان الشمال نابضا بالحياة والعمران وإن كانت بقايا الحروب وندبات الصراعات بادية على ملامحه! استغربت، كيف يمكن لمدينة واحدة أن تكون مختلفة إلى هذا الحدّ؟ كنت أتضور جوعاً فذهبت مع الشاعر العبقري إلى مطعم لا يبعد كثيراً عن سوق الخضار والفواكه. بخلاف التوقعات كان المطعم الذي أكلنا فيه أرزا سيئا بالمقاييس الصومالية مليئا بالزبائن ويعج بأطعمة محلية مختلفة، وفي زاوية بعيدة منه كان الجميع يصغي باهتمام حكاية مسنّ كان يحمل وجها فيما مضى وقبل أن تعبث عليه عاديات الزمن جميلاً ويتحدث عن وصول طلائع قوات المحاكم الإسلامية إلى كسمايو. كان يقول بصوت مرتفع: " لقد سيطر جناح رأس كامبوني على مدينة كسمايو وهرب زعيم الحرب برّي هيرالي إلى الأدغال ومن ثمّ إلى إقليم غدو ومنها إلى أوغادين المحتلّة". لم يتأخر الخبر كثيراً بل سرعان ما انتشر في وسائل الإعلام المحليّة والعالمية، وبعد دقائق قرأته في الشريط الإخباري (السبتايتل) لقناة الجزيرة التي كانت مصدرا مهما من مصادر الخبر في عموم الصومال قبل أن تظهر القنوات المحلية والمواقع الإلكترونية، والشبكات الاجتماعية. كنت سعيداً بسيطرة المحاكم على إقليم جوبا السفلى وانتهاء ليالي زعماء الحرب وحزينا بالرحلة الطويلة التي كانت تنتظرني.

أخيرا وبعد رحلة طويلة قطعت خلالها مئات الأميال وصلت إلى بوصاصو في يوم قائظ أجبرني الحرّ على احتماء كش صغير لا يقي لهيب الشمس. كان الجوّ يفيض ظمأ وجسدي يحتاج إلى تبريد.. ترى هل سأصمد أم سأسقط مغشيا عليّ من شدة الحرّ؟ ومن العجائب أنني كنت في العشرين من عمري وقارئاً جيداً ملمّا بالجغرافيا ورغم ذلك لم أكن أعرف مناخ وطني وطقس مدنه المطلّة على بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر! فور وصولي بدأت بجمع الأخبار والاستعداد إلى اليمن، وقبل شروع الرحلة، اتصلت بأمي للوداع ولكنها رفضت فكرة الذهاب إلى اليمن ولابد أن موجات الهاربين من الصومال إلى الجزيرة العربية والسفن الغارقة في عرض البحار وقصص الذين ابتلعتهم المحيطات ترك في نفسها كثيراً من المخاوف. 

لم أكن أملك حق الرفض ولا إبداء رأي مغاير لأم عصامية تعبت من أجل تربية ستة أيتام لا يملكون المال ولا الجاه فتنازلت عن حلمي مؤقتاً ولم أجد بدّاً من أن أعيش في بندر قاسم وأن أبحث عن فرصة عمل. لم تطل فترة الانتظار بل وجدت وظيفة أجني منها دخلا شهريا مغريا بمقاييس ذاك الزمن وفي بلد مثل الصومال إضافة إلى عمري والظروف المحيطة بي، وأصبحت معلماً لأطفال مشاغبين وثرثارين مقارنة بأطفال الجنوب ومراهقين جريئين.

في بندر قاسم كنت سعيدا في اكتشاف الحياة والاستقلال المادي، وعشت فيها أياماً لا أنساها أبداً ذلك أنها كانت المدينة الأولى التي أتاحت لي أن أعيل نفسي دون أن أعتمد على أحد. ورغم ذلك كنت بعيداً عن ذكرياتي ومللت من روتينية الحياة وعانقت ألواناً من الوحدة وأصبحت المدينة صعبة الاحتمال على مرّ الأيام وعدت إلى كسمايو بعد أن فاض بي الحنين. لقد خرجت من بندر قاسم بروح صلبة وشخصية مختلفة واختفت - وربما إلى الأبد - الجدّية في التعليم ونظر الحياة بمنظور واحد؛ منظور التميز العلمي والتفوق الأكاديمي والاستمتاع باحتلال اسمي في صدارة الجدول، إلى حياة أرحب ونظرة أشمل، ثم ذهبت إلى السودان وإلى جامعة افريقيا العالمية وخضتُ غمار المنافي وأمواج المعرفة. وتلك قصة أخرى.

الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

الحروب.. والبحث عن الذات (١)



في شهر تموز عام 2006م وبعد تخرجي من الثانوية العامة سافرت إلى حمر التي كانت مدينة حقيقية مقارنة بكسمايو، وفي سط رمال الحروب السائبة التحقت بجامعة مقديشو المحسوبة على حركة الإصلاح التي تمثل «الإخوان المسلمين» في الصومال. كانت الجامعة مناسبة لشخصيتي واهتماماتي ولكنها لم ترق لخالي الذي تولّى رعايتي وتعليمي بعد رحيل والدي باعتبارات فكرية وحركية. كان خالي العزيز أطال الله عمره -الذي كان رمزا من رموز التيار السلفي- يرى في ذلك الوقت أن الإخوان المسلمين بعيدون عن النهج الصحيح وفكرهم يتّسم «بالميوعة» والتساهل في «آفة الاختلاط». ورغم خلفيتي الأسرية والوسط الفكري الذي نشأت فيه إلا أنني لم أكن أحمل أي اهتمام لأفكار التيارات المتنوعة والحركات الإسلامية المتصارعة في بلدي، بل كنت أرى أنها حركات متشابهة وجماعات تتنافس على مسرح العبث. كنت مجرّد شاب تحدوه المعرفة ويريد الالتحاق بجامعة تمتاز بجودة التعليم والنشاط الطلابي والنقاش الفكري وهذا ما لمسته في جامعة مقديشو التي كانت حياتها الثقافية مرضية بخلاف الجامعة الإسلامية بمقديشو التي لم تثر في نفسي أي حماس.

تحت الحاح خالي وبعد أسبوعين فقط من التحاقي بجامعة مقديشو تحولتُ إلى الجامعة الإسلامية. وإن أنسَ لا أنْس يومي الأول بأسوارها، أتذكر وكأنها كانت بالأمس القريب. كان صباحا مشرقا من صباحات آب عندما دخلت مبنى الجامعة الذي يقع في ناحية تليح. بدت الجامعة من خلال عيون شاب يريد التحدّي واكتشاف الحياة والغوص في أعماق الثقافة والنشاطات الطلابية وكأنها خامدة وبعيدة عن الأجواء المرسومة في ذهني. كان التجانس واضحا في كل ركن من أركانها حتى ظهرتُ من بينهم غريبا لا يمت للجامعة ولا الجماعة بصلة. وكان أول ما لفت نظري هو أن عمر معظم الموجودين في الحرم الجامعي فوق الأربعين والشيب قد تخلل في لحاهم! رجال حليقي الشوارب كث اللحى يبدوا الوقار على جبينهم! الطلاب دون الثلاثين قليلون جدا ولا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، أما العنصر النسائي فشبه معدوم وهذه وحدها كفيلة بالانسحاب عن الجامعة. دخلت في وسط جموع تتحدث عن السياسة والحروب ويصغون إلى رجل كان يفرض سحراً هادئاً عليهم، استمعت إليه وهو يتحدث بشغف واضح عن المعارك الضارية التي انتهت قبل شهر ودحر تحالف «مكافحة الإرهاب» رغم جبروتهم وطغيانهم وقوتهم العسكرية. كان الحضور يتفاعل مع وتيرة الحكاية وشذي الأناشيد وسرد الأحداث وكرامات المجاهدين والقصص البطولية لشباب لا يأبهون بالموت بل يحملون أرواحهم على أكفهم.
سأحمل روحي على راحتي * * وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق * * * وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
كان القيادي الفصيح منتشياً بسيطرة المحاكم على أحياء مقديشو وهزيمة عبدي قيبديد آخر زعماء الحرب في العاصمة الجريحة.

ذهبتُ رأسا إلى قسم شؤون الطلاب، كانت ثلاثة فتيات منقبات يجلسن أمام المكتب وفور دخولي تهامسن وهن يتحدثن عني وينظرنني بعيون حادّة كشمس آذار على مشارف كسمايو، وصلني صوت إحداهن: "لماذا هذا المسبل؟ هل يريد الانضمام إلى الجامعة؟" والغريب أنّني كنت في أشدّ فترات حياتي التزاماً! ابتسمت لهن وواصلت سيري نحو المكتب المتواضع. جلست أمام رجل خمسيني باسم الثغر وذو وجه يشع نوراً ويتلألأ من العبادة. وبعد محادثة قصيرة قدّمت أوراقي وسجّلت اسمي في كلية التربية قسم الرياضيات والفيزياء وحضرت عدّة محاضرات عن النظريات الفيزيائية والمبادئ الأساسية للرياضيات وتطبيقها في الحياة إضافة إلى مواد أخرى دينية. اكتشفت سريعا أنني لا أستطيع مواصلة جامعة النخبة السلفية وأنّ وسطاً ثقافيا لا يوجد فيه اتجاهات فكرية مختلفة ومنابر طلابية عامرة بالنقاش ولا تنوع في المظاهر والاهتمامات لا يلائمني، وغادرتها نحو البحث عن جامعة أخرى ترضي ذائقتي أو بالأحرى نحو المجهول والانقطاع الدراسي الذي دام سنوات. ومن باب الانصاف وبعيداً عن ميول شاب عشريني مفرط برومانسية العقد الثالث كانت الجامعة تعج بأساتذة محترمين ومعلمين متميزين وشيوخ من الطراز الرفيع.

وبعد مغادرتي لها بدأت بالبحث عن الجامعات الخارجية، وكانت بلدان مثل السودان، سوريا، مصر واليمن وجهة مفضلّة لديّ وإن كان صديق الطفولة أحمد عبدي متان الذي كان طالبا في أقدم الجامعات الهندسية في باكستان «جامعة الهندسة والتكنولوجيا» في لاهور يحثّ عليّ الالتحاق بها والانضمام إلى أسرة المهندسين. ورغم عزيمتي التي لا تقهر إلا أنني كنت في حيرة من أمري ذلك أنني لم أكن أعرف ماذا أفعل ومن أين أبدأ وكيف أتواصل مع الجامعات الخارجية؟ وبعد مراجعات وتفكير عميق إضافة إلى نصيحة من أحد الأصدقاء عزمت الذهاب إلى اليمن لألتحق بجامعة الإيمان التي كانت قبلة لكثير من الطلاب الصوماليين آنذاك لقرب اليمن الجغرافي أولاً وتشابه العادات والتقاليد ثانياً إضافة إلى سهولة الالتحاق بها. وفي صيف غير سعيد في الصومال كنت في طريقي إلى اليمن السعيد. لم أكن أهرب من الحرب الذي عشنا فيه حتى بات حدثا عاديا لا يثير في النفس أي رهبة ولم يكن ثمّة ميزة خاصة لجامعة الإيمان غير أنني كنت أريد الخروج من قوقعة المدن الصومالية الموبوءة بالحروب وداء القبلية.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...