الاثنين، 1 يوليو 2019

تحولات الأدب الصومالي .. من المقاومة إلى الماركسية .


لقد احتل الأدب مكانة بارزة عند المجتمع الصومالي في مختلف مراحله وأجياله، فكان خزينة حكاياتهم وقيمهم وسجلات تاريخهم وتراثهم ومتاحف بطولاتهم وحِكمهم والمحرك الأول لشعب عشق الأدب ودولة القوافي، وظل شفهيا ينقل الأخبار ويحفظ الأيام والماضي بالأشعار والحكم والأدب والفنون. وقد قرن الأدب صومالياً بالنضال ودفاع المقدرات والثوابت الوطنية حيث لايوجد – عبر التاريخ - كفاحاً وطنياً خالياً عن "أدب المقاومة" وشعراء بارزين حوّلو الأدب إلى أسلحة فتاكة واستطاعوا تخليد قضيتهم عبر قصائدهم، بل كانت المقاومة تأخذ طابعا وطنيا ودينيا قويا في مشاعر المجتمع بضمها عظماء يتقنون الأدب ومخاطبة الشعب بأشعار يحرك وجدانهم. ومن الأمثلة الشهيرة في هذا المضمار السيد محمد عبدالله حسن الأب الروحي للحرية الصومالية الذي كان شاعرا فحلا أتقن أبواب الشعر وأغراضه واستخدم لصالح قضيته.

السيد ورفاقه الأشاوس استخدموا كافة أنواع الأدب وخاصة الشعر لإلهاب العواطف وبث الحماسة ونشر فضائل المقاومة ومدح أبطالها وذم المتخلفين عنها، والحث على محاربة المحتلين، وهجو أذيال الاحتلال والمتقاعسين حتى باتت أشعاره أحاديث السمار  وحكايات الركبان وحقلا خصبا ساعد الكتاب والمؤرخين لفهم الدراويش وأيديولوجيتهم. وبعد مئآت السنين من بدأ شرارة جهادهم ضد الطغيان الأوروأفريقي مازال الصوماليون يحفظون أيامهم ويعرفون تاريخهم ويصونون تراثهم ويتبادلون حكاياتهم ويعشقون بطولاتهم ويسردون تفاصيلهم، وما ذاك إلا لقوة الشعر وجزالته وجذوة الأدب الموقدة في نفوسهم حتى تعلقوا بأبطال الدراويش ومآثرهم، وصار  إسماعيل مري وحسين طقلي وآخرون أيقونات وطنية وقامات أدبية وقيادية بارزة، ولولم تكن الأمة تتذوق الشعر وتمتلك حسا جمعيا يحب الأدب لكان ماضي الصومال يختفي وراء تتابع طبقات التاريخ وطيات النسيان.

لقد اهتم الصوماليون في تاريخهم الشعر  وجعلوه ذروة إنتاجهم الأدبي وحظي مكانة لايصل إليها جميع أنواع الأدب، فالشعر ديوان حاضرهم وماضيهم وسجلا أخلد الأحداث ونقل إلينا جانبا من سلوك الأجداد ويومياتهم المترعة بالتنقل ومقارعة النصارى في المشرق الأفريقي. وبما أن للأدب سطوته كانت القبائل تهادن وتتصالح وتتصارع وتغير  بعضها بعضا خشية الهجاء وأن يخلد ذلك في الذاكرة الأدبية لمجتمع لاينسى الأدب ويحفظ الشعر مهما تقادم عهده، وهكذا صار الأدب بشتى صنوفه العنوان الأبرز للمجتمع حتى لقب الصوماليون بأمة الشعر. وحافظ الشعر هويتهم وخصائصهم وحمل قصائد مشبعة بالوطنية والولاء والاعتزاز بالموروثات والذات. ولم تكن من السهل ترميم الهوية الصومالية التي هدمها المحتل بعد أن قسم الأرض إلى خمس أقاليم تخضع للاحتلال إلا بوجود أدب مترع بأشعار وأغاني ومسرحيات عابرة للحدود الوهمية وترسخ على الوجدان وحدة الأمة وإن تقاسمت الآلام والمرارة واغتيال الأمل وراء قضبان الحدود ومخرجات مؤتمر برلين.

ورغم المحاولة الكولونيالية الجادة لتضييق الخناق على الأدب الثائر  وإغراق الشعب بالدوجما الفكرية إلا أن الأدب الصومالي كان جامحاً بعيدا عن المحتل ومزاجه الغثائي فكان الأدب سلاحا فتاكا واجه الصوماليون على الترويكا الأورروبية (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا) وأجبروهم على الرحيل. وبعد الاستقلال بدأ الأدب ينتعش ويحرك الجموع الصومالية الظامئة إلى الحرية، ومن الشعراء الذين برزوا في تلك الحقبة الشاعر عبدالله سلطان تمعدي الذي ظل معلما من معالم الحرية في ربوع "الصومال الكبير".

وبعد ثورة أكتوبر (الإنقلاب العسكري) وجد الأدب اهتماما خاصا من الحكومة الصومالية فبنت المسارح وشكّلت الفرق الموسيقية وشجعت الكتابة باللغة الصومالية واعتمدت بذلك الحرف اللاتيني، وانغمس الناس في الفن الغنائي فأخذ دور الشعر يتضاءل فيما كانت المسرحيات والأغاني تسيطران على المشهد الأدبي ويعزى هذه إلى جغرافية الدولة الوليدة التي لم تستطع ضم أقاليم يعتبر منبع الأدب الصومالي، إضافة الى الحكومة التي كانت تشجع على الأغنية والمسرح على حساب الأدب التقليدي، ولا ننسى الدور التحفيزي والامتيازات التي كان يناله من يكتب أو يلقي قصيدة عن تمجيد الثورة و "الجيش الأحمر" والاشتراكية العلمية، ومن هنا ابتعد شعراء بارزون عن الساحة خشية من "الرقيب الأحمر" وصوناً لقدسية الشعر ومسؤلية الكلمة.  وعموما كان الأدب في تلك الفترة يخدم ثورة أكتوبر لذا كان يبعد عن النصوص الخالية عن الرموز الماركسية والإيحاءات الاشتراكية وتمجيد الشيوعية عن الأثير والمجالس الثقافية والمعاهد العلمية والجامعات والمدارس، أما النص الذي يدعوا إلى اعتناق الاشتراكية العلمية التي تحرر العباد من طغيان النيوليبرلية والرأسمالية المتوحشة - حسب سرديات الشيوعية - فكان يجد رعاية الدولة.

لقد حاول عرّابو الاشتراكية الصومالية على تدجين الشعب وتوجيهه على نحو يقرب المجتمع إلى الثقافة الشيوعية وبقوالب محلية وأسلوب يدغدغ مشاعر البسطاء، فكانت خطب الرفيق " سياد برّي" في بداية حكمه رنانة وذات نغمات وطنية وقومية حالمة يجملها صوت جهوري وحبال صوتية عميقة وأبيات شعرية مفعمة بروح الثورة والكفاح وتحقيق أحلام طالما لامست عقول الصوماليين وقلوبهم دون أن تتحق على أرض الواقع. كانوا يرونه مجدد مآثرهم وموحد وطنهم، ولكن لم تدم هذه التوقعات وانكشفت زيف الماركسية عندما مارس الاستبداد وحاول إبعاد الدين عن المسرح السياسي وتطبيق المادية التاريخية وتفسير النصوص الدينية حسب مزاج الدولة.  وبما أن الدين تشكل هوية جامعة في القُطر الصومالي كانت المساجد أكثر  تاثيرا من المسارح والإعلام الحكومي، وكانت تغسل "أدران الاشتراكية" المستبدة وتدعوا عبر أساليب تقليدية إلى تطبيق الشريعة والعودة إلى الوحيين لرسم طريق جديد يصلنا إلى سعادة الدارين بعد أن جربنا الديمقراطية الرأسمالية والشيوعية الإلحادية. وكان الشعر الديني والطرق الصوفية وبعدها الحركات الإسلامية  تسهم في بناء وعي جمعي يقاوم ضد الأفكار الوافدة " النفايات الأيديولوجية" ويرسخ على المفاهيم الإسلامية.

وبعد سنوات من جهد الدولة ظهر على الساحة أدباء وشعراء تأثروا بنظريات جدانوف الثقافية وتشبعوا على المبادئ الماركسية بعد أن درسوا الفن والأدب والمسارح في الصين والاتحاد السوفيتي وكوبا وغيرهم من الدول اليسارية، وكانت الفترة الذهبية لهذا الجيل السنوات العشر التي تفصل بين وصول العسكر إلى الحكم وحرب أوغادين 1977م الذي أدى إلى هوة لم تستطع الأطراف – الصومال، والدول الشيوعية - ردمها أبداً، وأخيرا ابتعد اليسار وترك الصومال يواجه مسيره، وبعد أن جرف تيار الحاجة الصومال نحو الرأسمالية لم يصمد "أدب الأحمر" أمام الأدب الرأسمالي المتدفق على الوطن بأفلامه ورواياته المكتوبة وأغانية ومسرحياته المدعومة بالمؤثرات إلى أن انحسر   واختفى سحره نهائيا عن الخارطة الثقافية. ورغم ذلك كانت الفلسفة الماركسية تأثيرها الواضح على مثقفي وأدباء الصومال وأفريقيا عموما في سبعينات وثمانينات القرن العشرين، وكان الأدباء الصوماليون ضمن آلاف من كتاب وأدباء أفريقيا ناصروا الفكر الماركسي ورأوا أنه يناصر القضايا العادلة ويناهض التمييز العنصري والطبقي ويرفض العبودية ويوزع الثروة بطريقة عادلة. لذا تغلغل في جميع المستويات وبات البلد مشبعا بالمفاهيم والمظاهر الاشتراكية على نحو جعل مقديشو موسكو صغيرة.

ورغم إبتعاد الصومال عن التيار السوفيتي بعد هزيمة الصومال الغربي، ونهضة الفن الغنائي والمسرحي الذي فاز أفريقيا في مهرجانات ثقافية بارزة كلاغوس والخرطوم، وظهور كتّاب تجاوزت شهرت أعمالهم الأدبية حدود الوطن إلى العالمية مثل نورالدين فارح  إلا أن وكغيره من الأدب والفنون الأفريقية كان ضحية للحروب الثقافية مما جعل أدباً هامشياً لم يجد إنصافا من الدوائر الثقافية العالمية التي يهيمن عليها الغرب الغارق بالتنميط.
النقد الشكلاني البعيد عن المهنية للأدب الأفريقي مازال يسيطر على الغرب الذي يرى أنه المركز والأخرون هوامش وديكورات ليس لهم أدوار حقيقية في الحقول الإبداعية ولايستطيعون إنتاج أدبي راقي يرضي ذوق القارئ الناضج (الغربي) لذا يرون الأدب الأفريقي ساذجا وغارقا بالتفاهة والسطحية ولا يحمل أي بصمة إبداعية أو دهشة أدبية، ولاينفك أبدا عن المعتقدات الدينية والصدمات الاجتماعية العنيفة، إضافة إلى السياسة الأفريقية التي تعاني من التبعية والمراهقة والإبتذال.


ومن المؤسف أن تسيطر هذه النظرية على الذهن الأفريقي كاتباً وقارئاً حتى وصل بنا الحال إلى أن تعمقنا في ازدراء لغاتنا وثقافاتنا وأسلوب كتابتنا. ومن المبكيات التي مازالت موجودة إلى يومنا هذا أن على الكاتب الأفريقي  لكي يكون أدبه ذات شهرة عالية يجب أن يرضي ذوق "الرجل الأبيض" وأن يكون الأدب يحمل بصمات غربية ودلالات كولونيالية وفي قالب أدبي غير متسق ومنسجم مع الطبيعية الأفريقية وأدبها العريق، كتناول أفكار ومفاهيم غير موجودة في بئيته، ومعالجة مشاكل لايعرفها المجتمع الأفريقي، إضافة إلى الإباحية والجنس المكثف في بنية النص السردي، وتشجيع التحول الجنسي والمثلية. إنهم يقحمون جسد العمل الأدبي أراء شاذة ليتحول إلى هجين لايحمل بصمات الغرب ولا أفكار الافارقة، وكل هذا استعطافا " للآخر المختلف" ومن أجل أن يلقي الناقد الغربي النظرة على العمل لينتشر ويجد رواجا يليق به !

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...