الجمعة، 4 أكتوبر 2019

إنهم لا يعرفون كيف يضحكون !



في الطابق الرابع والعشرون وفي نافذة مطلة على شارع يرتاده الهاربون من ملل الحياة ومن قرّ الخريف الماطر تبدو المدينة وكأنها سجادة زاهية مبسطة على مساحة شاسعة من النور والغموض، نوافذ مضيئة وأخرى معتمة وسيارات تنساب كأنهار أفريقيا قوة وتتابعا، وعمال يحملون ملامح مجهدة وغارقة بتفاصيل الأيام، وأبراج سامقة تعلوها أنوار باهرة كالقناديل.

أراقب نبض المدينة ولا أعرف ما يجري في داخلها. حيوية البشر وكفاحهم ضد الفناء، الاستجابة المفرطة لنداء الطبيعة، أنقياء يعبدون الخالق في زاويا معتمة، وحشاشون يستمتعون بنشوة الجرعات، ومراهقون يضاجعون أيديهم ويمارسون الجنس الذاتي، وسرّاق يتحسسون وسط حقول ملغمة ويسيرون على أصابع القدمين خوفا من صحوة متأخرة لعجوز انتابته نوبة سعال في الهزيع الأخير من الليل، ومرضى نفسيون تقتلهم الكآبة في الغرفات. إنها مساحة مثالية وخالية نستطيع أن نسقط عليها ما نشاء من التصورات والإيحاءات. من بعيد تشبه المدن النفوس البشرية التي لا نعرف كنهها وما يعتريها من الألم والسعادة والأمراض في عالم ربع سكانه يعانون من الأمراض النفسية.

مدينة لا تبلى ولا تشيخ ولا تنقضي زحمتها. باردة الإشراق كما عهدنا، دافئة الابتسامة في كل حين، لها ملامح أمومة ورائحة أبوة وتعج بصخب المجون والملاهي، ويرتفع فيها نداء الإسلام ليذكرنا بالمآل كلما جرفتنا الأمواج بعيدا نحو هاوية الملذات، وفيها ملايين من البشر تدفقوا من الفجاج فمنهم من وجد ضالته، ومنهم من أغرقته الحياة، ومنهم من يحاول الوصول دون أن يملك مقومات الصمود، ومنهم المغرد على قمة النجاح. إنها الدنيا وتلك شجونها. مصممة بطريقة بعيدة عن تمنياتنا وتريد منا الكفاح لتحقيق مطالبنا، ومن أجل تجاوز مطباتها نحن بحاجة إلى التفكير والتأمل حول المستقبل والفرص المتاحة والعقبات التي تحيط بنا.

كانت وحدة الليل تضنيني في مدينة أبعدتني ممن قابلتهم في طرقات الحياة، وبما أن الفن السابع يعطينا مساحة من الألفة كنت ضيفا على سينما يرتادها عشاق الأفلام، ولحسن الحظ كان الفيلم المعروض "Knock Knock" من بطولة ممثل أحببته منذ أن شاهدت سلسلة أفلامه الشهيرة المصفوفة (The Matrix) التي يعتبرها النقاد من أنجح الأفلام في تاريخ هوليوود، الفيلم الذي كسر حاجز المألوف وأثار جدلا دينيا وفكريا وفلسفيا واجتماعيا ووطد أركان الخيال العلمي جعل كيانو ريفز (Keanu Reeves) ممثلي المفضل إلى جانب مايكل جاي وايت، وفاندام، ودي كابريو. ورغم المشاهد الجنسية والبذاءة إلا أنه نال إعجابي وأثار بعض التساؤلات والمخاوف، ولمس وتراً حساسا بعد أن بات الموضوع أبرز المنغصات الموجودة في الحياة الزوجية، وحديث الساعة في كثير من الأحيان.

يتناول الفيلم وبطريقة دراماتيكية تحيطها الإثارة ولا تخلو من الرعب ومفاجأة الحياة التي غالبا ما تكشر عن أنيابها، ضعف الرجال - مهما كانوا وفي مختلف أعمارهم وأوضاعهم وأفكارهم ومناصبهم وأيديولوجياتهم - أمام النساء، والرغبة الجامحة في نفوسهم لإشباع غريزتهم الجنسية، وقليل من يقاوم أمام سلاح المرأة الفتاك، فما بالك بجسدها وتضاريسها وهي عارية وتتفنن في الإغواء وإثارة الشهوة والتعذيب في ليل أمريكي مبلل بالغرابة والعواصف.

لقد مثلت الفنانة الكوبية أنا دي أرماس (Ana de Armas) وكذلك التشيلية لورينزا آيزو (Lorenza Izzo) أدوارهن بتميز شديد يضعن في مصاف النجمات. الأداء المثالي للفتيات إضافة إلى كيانو أضفى على الفيلم مسحة من الجمال والواقعية، وكشف الأفكار الفوضوية والهوس الجنسي وهتك الخصوصيات المنتشر في أوساط "الأجيال الرقمية".

ورغم أن الفيلم يفتقد إلى اللمسة المبتكرة ويعاني من التكرار وروتينية الحبكة والنهاية المفتقدة لهزة فنية مدهشة - مما انعكس على تقييم النقاد للفيلم وإيراداته المالية نظرا لسقف التوقعات – إلا أننا أمام عمل يتناول مشكلة حقيقية اتسعت دائرتها في عصر المغريات و"مواقع التواصل الاجتماعي، الزوج "الخائن" أو الضعيف أمام مغريات النساء وأجسادهن في عالم تقوده نيوليبرالية متوحشة وباتت المرأة سلعة تباع في الطرقات والحانات والفنادق وتقتحم الحياة الشخصية لإغواء الرجال وهدم عرى الأسر المفككة أصلا في عصر الفلسفة المادية.

لقد تخطت هذه المشكلة كل الحواجز وطرقت معظم أبواب الأسر بطريقة أو بأخرى، وحولت الحياة الزوجية إلى مطبات مليئة بالشكوك والشجار وربما الطلاق، ولم ينج من المتاهة أحد سواء كان قديسا راهبا، أو عاشقا ولهانا، أو سياسيا محنكا، أو رياضيا مشهورا، أو فنانا عالميا، أو شابا مفتونا بالنساء ومعاشرتهن مما يجعل الموضوع مضحكاً ومأساويا. وقد لخصت جينيسيس (لورينزا) هذا الموقف في نهاية الفيلم بمشهد حزين:

You know what’s funny? They never say no. No matter who they are. No matter how much they love their families. You’re all the same.

لقد أرهقني الفيلم بالخواطر وأبعدتني التساؤلات عن الانخراط في الأجواء الاحتفالية، وبتّ وحيدا يكتنفه الصمت في وسط همسة حانية وضحكة صافية تعلوان في قاعة باردة وخافتة الأنوار، كنت أتساءل لماذا حرمنا من السينما وكم ماتت موهبة فنّية بسبب الكبت؟ ولماذا الجمهور الصومالي كان يتذوق الفن والأدب ويحضر المسرحيات بل ويتفاعل معها تضحكه النكات وتبكيه المشاهد الحزينة، ونحن نحارب الفن والإبداع ومات فينا الحس الجمالي؟ لقد غيّرت الحروب القلوب والأمزجة وحولت الشعوب إلى هياكل حزينة "ولا يعرفون كيف يضحكون"!

في صغرنا لم نشاهد الأفلام الكرتونية ولا مسلسلات الأطفال ولم نقرأ قصص البراعم ولم نستمع كثيرا حكايات الجدات، بل كانت الحروب تلاحقنا ثم تؤذينا وتحشرنا في أضيق الزوايا حتى تركت ترسبات من الخوف، ولم نعرف شارل بير، وجوناثان سويفت، والكساندر بوشكين والأخوان الألمانيان غريم إلا في الكبر وفي نهاية العقد الثاني عندما شرعنا في القراءة الجادة وتذوق الأدب وبذلك ظلت الطفولة المتأخرة تعبث وتثير فينا كوامن الشوق، وإلى يومنا هذا وفي منتصف العقد الرابع ما زلت أحمل تلك الطفولة وأنظر بشوق إلى الأرجوحة المتدلية من الأغصان والأحبال في المتنزهات والحدائق العامة، وتستهويني النوم على وقع السرديات الشعبية وممارسة الطفولة في الفضاء الرحب، كبرت ولم تكبر الطفولة بل هي تلاحقني في كل مكان.

الجمعة، 30 أغسطس 2019

خواطر على جناح طائرة

أمام مضيفة طمس المكياج على ملامحها الأوروبية وعلى جناح طائرة تهتز وتعلو وتهبط كلما اعترتها مطبّة هوائية انتابتني هواجس أشغلتني عن تصحيح كتابي القادم " الصومال.. حكايات الحروب والتاريخ" وتصويب أخطاء الكتب وتعديلها في الرحلات الطويلة عادة اكتسبتها مؤخراً. في عمق الفضاء سألت نفسي لماذا أسافر؟ ولماذا أكتب؟ وما العلاقة بين الكتابة والترحال؟ كانت أسئلة بالغة الإيقاع وأدخلتني بحرا من التساؤلات المتشظية!

أذوب عشقا وأشعر برد الراحة كلما أحجز تذكرة لوجهة جديدة، نحو قرى صارخة الألوان، أو بلدة تاريخية واهية المباني تغفوا باكية على كتف النسيان. إنني أشبه الطيور أفرد جناحي وأغوص في أعماق المكان أتذوق تفاصيله ونكهته المتفردة، ولا أقبل القفص وملازمة العش، فالطيور تموت بدون الحرية، والمياه تكدر بدون حركة، وكذلك الفكرة تتوقف وتتجمد ثم تتعفن وتكون نتنة كالبالوعات إذا لم يحركها الترحال ولم تشذبها التجارب. في السفر أحمل أفكاري وانطباعاتي عن الزمان والمكان وأحولها إلى نص يعبر عن شخصيتي التواقة إلى اكتشاف العالم بعيون قارئ وحس كاتب. ورغم أن "الكتابة الحقيقية عملية مستحيلة" إلا أنني أمارسها لأنسى الهموم وضغوط الحياة وأشباح الحروب التي تكبلنا وتزدرينا ثم تبعدنا عن تحقيق طموحاتنا وما أبسطها في كنف القتل والإرهاب؛ رغيف خبز جاف، وكوب ماء، ونوم عميق لا تقطعه أزيز المدافع ودوي الانفجارات.

الترحال يعطيني هامشا من الحرية ومساحة للتفكير، إنه يخرجني من الفضاء الضيق إلى رحاب المعمورة، ومن القوالب الجاهزة للمدن الرمادية إلى حياة متعددة الألوان مختلفة الأذواق، وكلما أبتعد عن دياري يتسع العالم من حولي وتزداد المسافة وأتوغل في دروبه المختلطة بالثروات والثورات والدماء. أسافر لأداوي جروح الحروب بالكتابة، في بلد يغلب عليه الطابع الشفهي ونقل الأخبار والأحداث بالحكايات والقصص والأشعار، وظل الأدب محمولاً على كاهل الأدباء والمثقفين والشعراء الذين لم تتح لهم كتابة إبداعاتهم. "والأدب المحمول" هو الذي لم يرو ولم يكتب، بل بقي قابعا في أدمغة الأدباء وأفئدتهم حتى رافقهم إلى الأجداث قبل أن يرى النور. وبعد رحيل معظم عمالقة الفن الأدب دون أن يدونوا ما كان يجيش في صدورهم حمل الكاتب الصومالي عبأ ثقيلا وتحديا صعبا يتمثل في إخراج هذا الأدب من براثن النسيان، وهذه مسؤولية تتطلب على قدر كبير من الخبرة والكتابة الجيدة والإلمام لخبايا الثقافة ودقة تقودنا نحو كتابة التاريخ بعيون صومالية، وكلها عوامل تلقي علي وعلى أمثالي من الكتاب ظلالاً من التأمل في ملامح حاضرنا ولمسات ماضينا وخيوط مستقبلنا.

في جميع رحلاتي كانت آهات بلدي المجزأ تصرخ في وجداني وتبحرني في موجات حزن لا ضفاف لها. وطن من إبل وأدب وشرفات مطلة على البحار والمحيطات والحضارات، ومساجد صامدة رغم غزو البرتغال وصدمة الطليان وسطوة الإنجليز وجور الجوار الأفريقي، وشعب حباه الله خصالا حميدة ويتمتع بعقلية جبارة ورغم ذلك يعاني من الحروب الأهلية والتشريد. كانت أسئلة بعينها تلاحقني في الممرات المفضية إلى الغيتوهات، وفي ردهات الفنادق، وبهو الصالات، وعلى ضفاف الأنهار والمدن المكتظة بعتمة الغياب وأطفال ذابهم الحنين، وكنت أحمل  همّ الأطراف (جيبوتي وأنفدي) الذين أخشاهما من الذوبان الثقافي، كما كنت صوتا للصومال الغربي (أوغادين) التي لم تجد اهتماما إفريقيا وعالميا وتأييدا من المنظمات الحقوقية والإنسانية لكون إثيوبيا تعتبر رأس الهرم في الاتحاد الأفريقي سياسيا، ولأن الافارقة لايتصورون دولة محورية أفريقية تحتل إقليميا أفريقيا يطالب استقلاله كانوا يهمشون الصوت القادم من أعماق المحرقة، بل كانوا يرون الحركات التحررية في الإقليم جبهات انفصالية يجب معاقبتها ومحاصرتها. كنت أتتبع خيوط الحكايات، وعيون الأدب والشعر، وقصص بطولية تنتظر من يكتب ويروي، وأحاديث مدن مازالت تمد يديها للكتاب والباحثين من أجل الغوص في جذورها التاريخية. شحوب القلاع الأثرية تبكيني، وشوارع المدن المنكوبة تطبع على مخيلتي قصص حزينة، أين سكانها؟ لماذا ذابت ملامحها وشاخت ابتسامتها؟ هجر السكان ولم يبق فيها سوى بيوت خاوية وطرق لا يسلكها أحد. تبدو البلاد عند هجرة أبنائها كما لو كانت خالية من الحياة منذ الأزل، سكون رهيب يطبق على الأحياء، وفي ظل المليشيات الإرهابية والحكومات الفاشلة باتت الحياة حلما صعب المنال.

أتهرب من غربة تقتلني في عقر داري، وبريق عيون المسافرين وملابسهم الممزوجة بالعرق والسهر تعطيني اكسير الحياة. تؤنسني رومانسيات الأدب، ويسحرني الفضاء بعظمته، والصحراء بصفائه ومتاهاته، وصوت العندليب يدغدغ مشاعري، وأمواج البحار تمنحني شذرات من الجمال، وانسيابية الطبيعة تنسيني بؤس الصراع وقتامة الحروب، أضيع هائما في أحراش القارات. إنني أبحث عظمة الخالق في آياته الكونية، في أفول القمر وبزوغ الشمس وشفق المغيب، وتناثر النجوم في كبد السماء.

أسعى سائحا ومتأملا تداهمني النوم في الطرقات الوعرة، وينتابني الخوف على مشارف المداخل الحدودية، وربما أتضور جوعا وأنا لا أعرف لغة القوم ولا أستسيغ طعامهم، وكثيرا ما أخذ قائمة الطعام أتفحصها على مهل وأختار طبقا لا أعرف مكوناته! وعند إحضاره تباغتني ريحته النتنة، أو طعمه المقرف، وربما يكون كراعاً أو أمعاء أو بطنا محشواً بالفلافل والبهارات وهذا مما لا يأكله صومالي بدوي وإن طبخت بألف نوع ونوع. كثيرا ما تجمعني قاعات المطارات مع مسافرين توحدنا الوجهة ويقسمنا الهدف والانتماء وربما العقيدة وكذلك اللون، ورغم ذلك الطيبة الوادعة في قلوبهم لا تنضب أبداً، وجمالية البشر لا تختفي وإن تمادينا في أتون المدنية الرأسمالية التي حولت الأشخاص إلى أرقام ومجرد سلع في الأسواق، واغتالت القيم النبيلة وكرامة الإنسان. ابتسامة مختنقة لعابرة تهرول نحو طائرة مغادرة، أو غمزة دافئة لسمراء في الكرسي المقابل، أو لمحة صبي غارق بالبراءة وربما البكاء، أو لقاء مع مثقف تمنحني جرعات من الحيوية والنشاط.

في رحلتي الأخيرة كان بجانبي أمريكي أشقر باهت الوجنة دافئ العينين مدور الرأس يبتسم بسعة موغلة في الثقافة الأمريكية المرحة، جاء من ولاية غارقة بالبرودة أطلق عليها الأمريكيون " نجم الشمال" وأطلق عليها الصوماليون "ثلاجة العالم" بعدما أصبحت وطنا بديلا لهم. درس الهندسة المدنية دون أن يكابد عناء البناء ومشقة المقاسات ورسم الشرفات على الأوراق، بل دلف إلى ممارسة هوايته المفضلة وهي الموسيقى بأنواعها، حتى أصبح بارعاً في المقامات الموسيقية، وذاع صيته كملحن ومغني يدير مدارس منتشرة على ربوع العالم تدرس الموسيقى للبراعم.

لمسات الفن كانت واضحة على كلامه وأفكاره. تحدثنا عن الفن والموسيقى التي أحبها ولا أتقنها وسألني ومرارة السؤال تقطر على كلماته لماذا العالم ملئ بالصراعات والدماء ولغة القوة؟ ولماذا لا يتذوقون الموسيقى التي تستطيع أن توحدهم وتضمد جراحهم؟ وبعد حديث دام ساعة أخبرته أن زوجتي تعيش في ولاية مينيسوتا الأمريكية. فغر فاهه بدهشة! وقال وقد اتسعت عيونه وكادت أن تخرج من محاجرها إذن لماذا لا تزور أمريكا؟ ستعجبك أقوى وأغنى دولة في العالم. قلت وذكر الشريكة أثارت شجوني لعنة الأوراق يا ريتشارد! فالأوراق التي تسمونها "جواز السفر" ونسميها نحن أوراق العبودية في القرن الحادي والعشرين أغلقت المنافذ وحشرتنا في أضيق الزوايا!  ولكن يا ريتشارد لماذا تكبلنا الأوراق وتحدد حرياتنا؟ لماذا تعطي مجموعة من الأوراق شخصا حرية مطلقة يتجاوز الحدود وتقف له الجنود وتستقبله المطارات بالابتسامة والترحاب؟ بينما البعض يعاني من الحرمان والمضايقات والتمييز العنصري؟ ألسنا بشراً متساوون في الخلقة والكرامة؟ قطعتْ المضيفة كلامي حول الجنسية والأوطان بابتسامة باهتة، وبعد برهة أغمض عينيه بامتنان وأخلد إلى الكرى غير آبه بثرثرتي!

الاثنين، 1 يوليو 2019

تحولات الأدب الصومالي .. من المقاومة إلى الماركسية .


لقد احتل الأدب مكانة بارزة عند المجتمع الصومالي في مختلف مراحله وأجياله، فكان خزينة حكاياتهم وقيمهم وسجلات تاريخهم وتراثهم ومتاحف بطولاتهم وحِكمهم والمحرك الأول لشعب عشق الأدب ودولة القوافي، وظل شفهيا ينقل الأخبار ويحفظ الأيام والماضي بالأشعار والحكم والأدب والفنون. وقد قرن الأدب صومالياً بالنضال ودفاع المقدرات والثوابت الوطنية حيث لايوجد – عبر التاريخ - كفاحاً وطنياً خالياً عن "أدب المقاومة" وشعراء بارزين حوّلو الأدب إلى أسلحة فتاكة واستطاعوا تخليد قضيتهم عبر قصائدهم، بل كانت المقاومة تأخذ طابعا وطنيا ودينيا قويا في مشاعر المجتمع بضمها عظماء يتقنون الأدب ومخاطبة الشعب بأشعار يحرك وجدانهم. ومن الأمثلة الشهيرة في هذا المضمار السيد محمد عبدالله حسن الأب الروحي للحرية الصومالية الذي كان شاعرا فحلا أتقن أبواب الشعر وأغراضه واستخدم لصالح قضيته.

السيد ورفاقه الأشاوس استخدموا كافة أنواع الأدب وخاصة الشعر لإلهاب العواطف وبث الحماسة ونشر فضائل المقاومة ومدح أبطالها وذم المتخلفين عنها، والحث على محاربة المحتلين، وهجو أذيال الاحتلال والمتقاعسين حتى باتت أشعاره أحاديث السمار  وحكايات الركبان وحقلا خصبا ساعد الكتاب والمؤرخين لفهم الدراويش وأيديولوجيتهم. وبعد مئآت السنين من بدأ شرارة جهادهم ضد الطغيان الأوروأفريقي مازال الصوماليون يحفظون أيامهم ويعرفون تاريخهم ويصونون تراثهم ويتبادلون حكاياتهم ويعشقون بطولاتهم ويسردون تفاصيلهم، وما ذاك إلا لقوة الشعر وجزالته وجذوة الأدب الموقدة في نفوسهم حتى تعلقوا بأبطال الدراويش ومآثرهم، وصار  إسماعيل مري وحسين طقلي وآخرون أيقونات وطنية وقامات أدبية وقيادية بارزة، ولولم تكن الأمة تتذوق الشعر وتمتلك حسا جمعيا يحب الأدب لكان ماضي الصومال يختفي وراء تتابع طبقات التاريخ وطيات النسيان.

لقد اهتم الصوماليون في تاريخهم الشعر  وجعلوه ذروة إنتاجهم الأدبي وحظي مكانة لايصل إليها جميع أنواع الأدب، فالشعر ديوان حاضرهم وماضيهم وسجلا أخلد الأحداث ونقل إلينا جانبا من سلوك الأجداد ويومياتهم المترعة بالتنقل ومقارعة النصارى في المشرق الأفريقي. وبما أن للأدب سطوته كانت القبائل تهادن وتتصالح وتتصارع وتغير  بعضها بعضا خشية الهجاء وأن يخلد ذلك في الذاكرة الأدبية لمجتمع لاينسى الأدب ويحفظ الشعر مهما تقادم عهده، وهكذا صار الأدب بشتى صنوفه العنوان الأبرز للمجتمع حتى لقب الصوماليون بأمة الشعر. وحافظ الشعر هويتهم وخصائصهم وحمل قصائد مشبعة بالوطنية والولاء والاعتزاز بالموروثات والذات. ولم تكن من السهل ترميم الهوية الصومالية التي هدمها المحتل بعد أن قسم الأرض إلى خمس أقاليم تخضع للاحتلال إلا بوجود أدب مترع بأشعار وأغاني ومسرحيات عابرة للحدود الوهمية وترسخ على الوجدان وحدة الأمة وإن تقاسمت الآلام والمرارة واغتيال الأمل وراء قضبان الحدود ومخرجات مؤتمر برلين.

ورغم المحاولة الكولونيالية الجادة لتضييق الخناق على الأدب الثائر  وإغراق الشعب بالدوجما الفكرية إلا أن الأدب الصومالي كان جامحاً بعيدا عن المحتل ومزاجه الغثائي فكان الأدب سلاحا فتاكا واجه الصوماليون على الترويكا الأورروبية (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا) وأجبروهم على الرحيل. وبعد الاستقلال بدأ الأدب ينتعش ويحرك الجموع الصومالية الظامئة إلى الحرية، ومن الشعراء الذين برزوا في تلك الحقبة الشاعر عبدالله سلطان تمعدي الذي ظل معلما من معالم الحرية في ربوع "الصومال الكبير".

وبعد ثورة أكتوبر (الإنقلاب العسكري) وجد الأدب اهتماما خاصا من الحكومة الصومالية فبنت المسارح وشكّلت الفرق الموسيقية وشجعت الكتابة باللغة الصومالية واعتمدت بذلك الحرف اللاتيني، وانغمس الناس في الفن الغنائي فأخذ دور الشعر يتضاءل فيما كانت المسرحيات والأغاني تسيطران على المشهد الأدبي ويعزى هذه إلى جغرافية الدولة الوليدة التي لم تستطع ضم أقاليم يعتبر منبع الأدب الصومالي، إضافة الى الحكومة التي كانت تشجع على الأغنية والمسرح على حساب الأدب التقليدي، ولا ننسى الدور التحفيزي والامتيازات التي كان يناله من يكتب أو يلقي قصيدة عن تمجيد الثورة و "الجيش الأحمر" والاشتراكية العلمية، ومن هنا ابتعد شعراء بارزون عن الساحة خشية من "الرقيب الأحمر" وصوناً لقدسية الشعر ومسؤلية الكلمة.  وعموما كان الأدب في تلك الفترة يخدم ثورة أكتوبر لذا كان يبعد عن النصوص الخالية عن الرموز الماركسية والإيحاءات الاشتراكية وتمجيد الشيوعية عن الأثير والمجالس الثقافية والمعاهد العلمية والجامعات والمدارس، أما النص الذي يدعوا إلى اعتناق الاشتراكية العلمية التي تحرر العباد من طغيان النيوليبرلية والرأسمالية المتوحشة - حسب سرديات الشيوعية - فكان يجد رعاية الدولة.

لقد حاول عرّابو الاشتراكية الصومالية على تدجين الشعب وتوجيهه على نحو يقرب المجتمع إلى الثقافة الشيوعية وبقوالب محلية وأسلوب يدغدغ مشاعر البسطاء، فكانت خطب الرفيق " سياد برّي" في بداية حكمه رنانة وذات نغمات وطنية وقومية حالمة يجملها صوت جهوري وحبال صوتية عميقة وأبيات شعرية مفعمة بروح الثورة والكفاح وتحقيق أحلام طالما لامست عقول الصوماليين وقلوبهم دون أن تتحق على أرض الواقع. كانوا يرونه مجدد مآثرهم وموحد وطنهم، ولكن لم تدم هذه التوقعات وانكشفت زيف الماركسية عندما مارس الاستبداد وحاول إبعاد الدين عن المسرح السياسي وتطبيق المادية التاريخية وتفسير النصوص الدينية حسب مزاج الدولة.  وبما أن الدين تشكل هوية جامعة في القُطر الصومالي كانت المساجد أكثر  تاثيرا من المسارح والإعلام الحكومي، وكانت تغسل "أدران الاشتراكية" المستبدة وتدعوا عبر أساليب تقليدية إلى تطبيق الشريعة والعودة إلى الوحيين لرسم طريق جديد يصلنا إلى سعادة الدارين بعد أن جربنا الديمقراطية الرأسمالية والشيوعية الإلحادية. وكان الشعر الديني والطرق الصوفية وبعدها الحركات الإسلامية  تسهم في بناء وعي جمعي يقاوم ضد الأفكار الوافدة " النفايات الأيديولوجية" ويرسخ على المفاهيم الإسلامية.

وبعد سنوات من جهد الدولة ظهر على الساحة أدباء وشعراء تأثروا بنظريات جدانوف الثقافية وتشبعوا على المبادئ الماركسية بعد أن درسوا الفن والأدب والمسارح في الصين والاتحاد السوفيتي وكوبا وغيرهم من الدول اليسارية، وكانت الفترة الذهبية لهذا الجيل السنوات العشر التي تفصل بين وصول العسكر إلى الحكم وحرب أوغادين 1977م الذي أدى إلى هوة لم تستطع الأطراف – الصومال، والدول الشيوعية - ردمها أبداً، وأخيرا ابتعد اليسار وترك الصومال يواجه مسيره، وبعد أن جرف تيار الحاجة الصومال نحو الرأسمالية لم يصمد "أدب الأحمر" أمام الأدب الرأسمالي المتدفق على الوطن بأفلامه ورواياته المكتوبة وأغانية ومسرحياته المدعومة بالمؤثرات إلى أن انحسر   واختفى سحره نهائيا عن الخارطة الثقافية. ورغم ذلك كانت الفلسفة الماركسية تأثيرها الواضح على مثقفي وأدباء الصومال وأفريقيا عموما في سبعينات وثمانينات القرن العشرين، وكان الأدباء الصوماليون ضمن آلاف من كتاب وأدباء أفريقيا ناصروا الفكر الماركسي ورأوا أنه يناصر القضايا العادلة ويناهض التمييز العنصري والطبقي ويرفض العبودية ويوزع الثروة بطريقة عادلة. لذا تغلغل في جميع المستويات وبات البلد مشبعا بالمفاهيم والمظاهر الاشتراكية على نحو جعل مقديشو موسكو صغيرة.

ورغم إبتعاد الصومال عن التيار السوفيتي بعد هزيمة الصومال الغربي، ونهضة الفن الغنائي والمسرحي الذي فاز أفريقيا في مهرجانات ثقافية بارزة كلاغوس والخرطوم، وظهور كتّاب تجاوزت شهرت أعمالهم الأدبية حدود الوطن إلى العالمية مثل نورالدين فارح  إلا أن وكغيره من الأدب والفنون الأفريقية كان ضحية للحروب الثقافية مما جعل أدباً هامشياً لم يجد إنصافا من الدوائر الثقافية العالمية التي يهيمن عليها الغرب الغارق بالتنميط.
النقد الشكلاني البعيد عن المهنية للأدب الأفريقي مازال يسيطر على الغرب الذي يرى أنه المركز والأخرون هوامش وديكورات ليس لهم أدوار حقيقية في الحقول الإبداعية ولايستطيعون إنتاج أدبي راقي يرضي ذوق القارئ الناضج (الغربي) لذا يرون الأدب الأفريقي ساذجا وغارقا بالتفاهة والسطحية ولا يحمل أي بصمة إبداعية أو دهشة أدبية، ولاينفك أبدا عن المعتقدات الدينية والصدمات الاجتماعية العنيفة، إضافة إلى السياسة الأفريقية التي تعاني من التبعية والمراهقة والإبتذال.

الثلاثاء، 28 مايو 2019

أركيولوجيا الموت !

على امتداد طريق قديم ومليء بالقاذروات والأشواك كانت مشاعر محمود ممزقة، وأهدافه ضائعة، ومبادؤه مهتزة مثل معظم شريحة الشباب الهائمة في متاهات مجتمع يعيش تحت وطأة حياة متناقضة وثقافة أبت أن تواجه تساؤلات المراهقين بثبات ومنطقية.

كان رقيق المشاعر، رومانسي التفكير تجرحه الابتسامة العذبة في الأمسيات المترعة بمثاليات الشباب والأنا المضخمة التي تستبدّ به قبل أن يدمن المخدرات التي باتت ملجأ لمشردين عاندتهم الحياة على ضفاف مفاهيم تمثل تابو غير محكي في مجتمعاتنا الشرقية. والمخدرات مثل الإرهاب والتطرف تنتجها البيئة المغرقة بالبطالة والعنف والفقر والفوارق الطبقية، وتطاردها البيئات المحصنة من الأمراض المجتمعية.

البيوت القريبة للملعب الكبير كانت مقراً للحشيش وأصحاب الهلوسات والأمزجة الفانتازية. في المساء وقبل انطلاق مباريات كرة القدم كانت الطرقات تتحول إلى ساحات مفتوحة للسكر وشجار العصابات، وتتحول الأزقات الجانبية إلى ميادين للعراك ومشهد مقزز من معارض تقدم للمراهقين لفافات الحشيش، وأقراص من المخدرات الثقيلة، وكوكايين رديئ، وأنواعاً من الكحوليات القادمة من الحدود الجنوبية عبر الطرق البرية أو المحيط الهندي، وجرعات من خمر محلي.

في ليلة خانقة بالبرد وتحت كوابيس الحقن كان يجر خيالاً مغرقاً بأماني التحرر من المخدرات وهو على سطح بيت مطل على أطلال قاعدة عسكرية عتيقة في مدينة تتوسد ثروات خامة وموقع حيوي وتصحو على وقع الفاقة والتشريد. 

المدينة لاتقدم سوى الحروب وحياة مغمسة بالفقر والسطو المسلح، ولا يجد المرأة فيها سوى أكواخ عائمة فوق بحار من الدموع الصامتة، وقناعة تشكل نواة صامدة ومذهلة لفقراء يحلمون بغد أفضل بعيدا عن الألم وجرح الذات.

كان أصغر من أن يقيّم الوضع، ويحطم قيود الواقع، ويفهم المنطق المعكوس للصراعات دون أن يرتكب حماقات قاتلة. عن كثب كان يراقب أطلال دولة هدمها معول القبلية وصواريخ المليشيات الثائرة على الاستبداد العسكري رغم ما تحملها من الأجندات الخارجية، والمفاهيم السطحية، والخطاب ذات الطابع الإقصائي والجهوي في وطن ظل قابعا تحت بطون متشاكسة وقبائل متصارعة وريفيون تقودهم الأناركية البدايئة إلى محاربة الأنظمة وتعليق الدساتير وتقويض الدول والتنقل عبر الحدود بكبرياء البدويين وجسارة حملها الصوماليون في جيناتهم بامتداد الأجيال والأزمان.

النياشين العسكرية تومض وراء بقايا مباني جرفها الزمن بعيداً نحو النسيان، والجبال الرسوبية المحاذية للثكنة العسكرية تواجه المغيب بثبات مشرقي مهيب وتضفي على المشهد رونقا استوائياً متفردا قبل أن تتوغل في عمق مياه تتكسر على أهداب المحيط، وتلامس مقابر الهنود، وأطلال العرب، ولوحات رسمها الحرب بإتقان موغل في مأساة شكّلت الذوات والإنسان وغيّرت المفاهيم والطباع، وأصابت الأوتار الحساسة للمجتمع حتى جعلت الحياة سلسلة من الخيبات والمخاوف والهجرات المتعاقبة نحو الدول المجاورة والمنافي الباردة.

من الصعب أن نعبر عن مأساة الحروب ودمويتها الموحشة في الأوطان والأشخاص والقيم الحميدة للمجتمعات المنكوبة، إنها تحمل ثيمات قاتمة تغيّر الأفكار وتشوّه الطفولة البريئة وتغذي الفقر وتنهك الاقتصاد، وفي ظل جحيمها يستخدم الزعماء أموال الشعب، وممتلكات الدولة، لشراء الأسلحة، والذمم، والتحالفات، وتدمير المدن، والتاريخ، واغتيال كل الفروق والاختلافات التي كانت تثري حياتنا وتمنحنا ألواناً من الاتساق والانسجام، وبعد سنوات من عبث الصراعات الصفرية يهدرون الأموال بعقد مؤتمرات عقيمة، ومصالحات وهمية هدفها إطالة أمد الحروب، ودغدغة مشاعر المجتمع، والاستثمار بخيباته.

المصالحة والمؤتمرات الخارجية والداخلية لا تستطيع ــ رغم كثرتها ــ أن تصل بنا إلى بر الأمان، بل في ظلها تتكاثر المليشيات، وتتفرع الصراعات، وتتوالد المأساة هندسيا، ويتأزم الوضع، ومن رحم مأساة مهلكة تنشأ أخرى أكثر فظاعة وأعمق إيلاما من سابقتها لأن المفاهيم الأساسية التي نستمد منها مفهومي "الحرب والسلم" قد غيب تماما وأبعد عن المسرح السياسي والاجتماعي فتبحرنا في عالم من الدموع وآهات ممتدة بلا نهاية.

من الغريب أن يصر البعض على استنساخ التجارب وتوريد الحلول الجاهزة، والتمادي في البلاهة بحيث يهمشون نقاط قوتهم ويروجون لمصالحة غامضة وبمفاهيم طوباوية لاتبحث الحلول، ولاتحقق المطلوب، ولاتردم الهوة بين الفرقاء، ولاتمت للمفاهيم المحلية ولا الأعراف القبلية بأي صلة. فبينما نستمد تعاليم الدين والتقاليد القبلية مفهوم السلم والحرب والمصالحة، يستمد رعاة المؤتمرات العبثية أفكارهم من الفكر الغربي الذي يموّل مسار السلام في الدول الفاشلة، وعلى ضوئه استوردوا مصالحة بمقاييس غربية تكرس الانقسام الداخلي ولا نعرف عنها شيئا مما ساهم في إطالة أمد الصراع وتقديم الوطن بتاريخه وإرثه الحضاري والثقافي على الآخر بشكل قاتم يصعب مسحه عن الذاكرة الجمعية لسكان المعمورة الذين لايعرفون عنا سوى الجوع والقرصنة.

وأخشى أن تترسخ هذه المفاهيم في المخيلة العالمية حتى وإن وجدت الإرادة الحقيقية والكوادر الوطنية الموهوبة التي تحاول حسب قدرتها تغيير القالب النمطي الذي يروجه الإعلام الغربي والعربي عن وطن لم يجد من ينصفه أو ينبري لدحض تلك الصورة المشوه بعد أن انخرط كثير من شعرائه وكتابه ومفكريه وأدبائه الكبار "المسرح العبثي" ووحل الإنقسامات الحادة في المفاهيم والجغرافيا، ومجّدوا الحروب الأهلية ودول الكانتونات بأقلامهم وأشعارهم وآدابهم وإنتاجهم الثقافي.

في عمق المباني الأثرية كان يبحث كعادته شيئا يدفئ معدته الخاوية قبل أن يمتلكه الحنين وتجتاحه "النوستالجيا". قلاع الدراويش ومسرح جهادهم البطولي، وآثار ممالك الطراز الإسلامي الذين نشروا الإسلام حتى في الأعماق العبيدة للقارة السمراء، ومقار المستعمر الأورروبي وبعثاته الاستكشافية، ورحلات المستشرقين عبر القرون، ومسجد القبلتين في زيلع المنسية، ومنابر هرر الخاوية، ومدن الحضارمة، وممالك العمانيين في المشرق الأفريقي منتشرة على طول الساحل وأعماق مناجم حضارته الخامة التي لم تجد حظها من الأبحاث والدراسات.

ذهب محمود بعيداً وتجاوز المناظر المحيطة به إلى سحيق التاريخ قبل أن تقطع النشرة المسايئة ل"هيئة الإذاعة البريطانية" تفكيره. كان يخطط وهو يصغى السمع إلى الراديو الذي يتحدث عن مآسي العبودية الجديدة في ليبيا كيف يهرب عن وطن غارق بالدموية والفوضى الإدارية حتى أصبح مسرحاً مفتوحا للقوى العالمية؟ لقد سئم مراقبة شروق الشمس وغروبها، والأيام الخالية من الإنتاج والإنجاز والإثارة، وكان يمني النفس الهجرة إلى أوروبا دون أن ينسى طول المسار، ووحشية تجار البشر، ومتاهة الرمال المتشابهة.

عبر فلم وثائقي لقناة عربية مرموقة كان الموت يطل أنيابه من كل مكان، والمسافرون يتساقطون عبر طرق سحقتْ أحلامهم، ولاحت أجسادهم فوق حرارة الصحراء هشيما تذروه الرياح. الشجيرات المتناثرة على المنطقة شاهدة على بؤس المكان المفروش بالهياكل، والجماجم، واغتيال الآمال. هزّته جثّة إمرأة لم تتحلل، الملامح الصومالية كانت واضحة على جبينها الذي بدأته البكتيريا في تفتيت ما تبقى من سمرته، ربما كانت إثيوبية أو إرترية أو سودانية أو حتى تشادية من يدري، ولكن آلمه المشهد وترك في وجدانه جرحاً لايندمل.

وسط مزيج من الأعراق المختلفة كان "الصحراء الكبرى" صامتا بعظمته، وكانت الرياح تلعب بقايا عظام الكادحين، وتبدد آثار الحكايات، والذكريات، والملامح، وربما الآهات التي تركها الراحلون قبل أن تنهشهم أنياب المنية، ويذيبهم هجير الشمس أثناء عبورهم صحراء إفريقيا نحو أوروبا وتحقيق الأحلام الوردية الراسخة في مخيلتهم.

في غمضة عين تشكّل الرمال تلالاً متفردة، وجبالاً ذهبية مترامية الأطراف، وهضاباً راسخة على خارطة الصحراء، وفي غضون دقائق تتلاشي التلال، وتختفي المعالم، وتذوب الجبال وتتوارى عن الأنظار، وتبدأ تضاريس الصحراء تتشكل من جديد، إنه شبح في عمق الطبيعة الجافة وأركيولوجيا قاتمة لبسطاء طردهم استبداد تحكم على مصيرهم وماتوا وهم ينشدون حياة كريمة تليق بهم.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...