الثلاثاء، 9 يناير 2018

التمرد والحرية في الفن الأفرو أمريكي.. توباك شاكور نموذجاً


 
منذ بداية نكبتهم ورحيلهم من أفريقيا عبر قوارب الميت والسفن التجارية العابرة للقارات إلى أدغال أمريكا وهم مقيدون بالسلاسل والإزدراء كان السود يحاربون ضد الغبن والدونية وعدم المساواة والتنميط المؤسساتي، واستنكروا القمع والعبودية وبحثوا الحرية والعدالة الاجتماعية ــ رغم ضيق الفرص واستحالة المطالب ــ بطرق متعددة كالتمرد والثورات والفن والأدب الذيْن جسّدا ذكريات الجراحة والألم، فكانت مطالبهم رغم بساطتها بعيدة المنال بسبب العنصريين الذين كانوا يرون أن السود نصف إنسان ونصف حيوان لايملك أدوات التفكير والقدرات التي تؤهله إلى الإنسانية الكاملة 
!
وفي ظل الرق والسادية كان السود يعانون من الأعمال الشاقة وألم السوط والإذلال، ولم يستطيعوا أن يطلبوا حقوقهم ويعبروا عن مأساتهم بالفن والموسيقى بعد حظر الطبول وأدوات الفن من المزارع والتجمعات الأفريقية، أو أن يكتبوا تاريخهم وتراثهم، لأن الكتابة في نظر البيض أسمى درجات النضج والرقي الإنساني ولم يدرك العبيد إلى هذه المرحلة السامية بعد!، حيث يصور الأدب الأمريكي الإمبريالي الإنسان الأسود بالشهواني الغارق بالجنس والمخدرات والمخالفات القانونية والعيش في الأحياء المتخلفة والضواحي الكرتونية الأكثر بؤسا، ويلصقون كل التهم والمساوئ كتدنّي المستوى التعليمي والتسرب المدرسي وارتفاع الأمية والبطالة 
.
ومن أجل التصدى لهذه الهرطقة بدأت حركات السود الثقافية تدشن آراها الفكرية ونظرتها حول الحياة والحرية والذات، فكتبوا القصص والمسارح والروايات والأغاني، ومع تحسن الوضع وارتفاع الأصوات التي تطالب بإلغاء الرق إنخرط السود شئيا فشئيا في القالب الثقافي الأمريكي فحاربوا عبر كتاباتهم وسردياتهم وفنهم الموسيقي الأفكار العنصرية المأفونة، وقد حمل لواء هذا الفترة الحاسمة في تاريخ الزنوج في أمريكا كتاب وأدباء وموسيقيون مهرة كرسوا جهدهم لطي صفحة العبودية وبداية عصر المواطنة والمساواة، ومن هؤلاء  فليس ويتلي، وغوستافوس فاسا، وأولودة اكويانو، وهاري بيرلاي، وغيرهم الذين قادوا نضال إعادة قراءة التاريخ وتصحيح الأفكار وتلميع المسيرة 
.
إن المعاناة والتضيق الذي لقيته الكاتبة الشابة فيلس ويتلي وما رافق كتاباتها من ألوان العذاب والسخرية يذكرنا طغيان الطغمة الحاكمة التي كانت تسخر من الزنوج سواء كانوا في أمريكا التي ألهبت ظهرهم بالسياط وأرعبتهم بالمشانق، أو في أفريقيا التي تعاتي من التدفق الأمبريالي من أجل نهب الثروة وشراء الرقيق وإرسالهم إلى أورروبا وأمريكا ليبدأوا فصلا آخر من فصول العبودية والتسلط، ومازالت موانئ الشحن في أفريقيا شاهدة على آثار المأساة الإنسانية 
.
وفي طيلة القرن التاسع عشر الميلادي كان السود يواصلون محاولاتهم الخجولة التي كانت في معظمها فردية الطابع وبعيدة عن التأثير من أجل رد الإعتبار واختراق جدار العزلة الثقافية والإنعتاق من الآثار السلبية لسنوات من العبودية والإنطوائية إلى رحاب الحرية وتأثير الشارع الأمريكي وثقافته الاستعمارية وتحويلها إلى ثقاة مشتركة تتسم بالشمولية والعدل والوطنية، وهكذا استمر النضال ومحاربة العنصرية والتمييز إلى أن بزغت نهضة هارلم وماصاحبها من حركات ثقافية وفكرية واسعة النطاق وعميقة الأثر، وكان جيمس ويلدون وآلان لوك وزملائهم من الكتاب يتصدرون التيارات المنفتحة على الأفكار والنقاشات والخيال الجامح نحو نفي الدونية وإثبات الذات واحترام الهوية الثقافية، كما كان المطربون اليوبيل (jubilee singers) وسكوت جوبلين وغيرهم ممن أسسوا مدرسة أفروأمريكية في الغناء والألحان لها روادها وملامحها ولغتها الغنائية يواصلون بحثهم عن الذات وقفزاتهم الثقافية المبهرة عبر ألحانهم وإيقاعاتهم الكلاسيكية الممزوجة بالعراقة الأفريقية التي أبهرت المجتمع الأمريكي المختلف عنهم والمعبأ بالنظرة السلبية للسود عرقاَ وثقافة 
.
وبعد الحرب العالمية الثانية وجد المجتمع الأفرو أمريكي منصات يستطيع من خلالها تعبير ثقافته ومشاعرة ومشاكلة وماضيه الملئ بالعبودية والأضطهاد النفسي والجسدي وتطلعاته نحو الحرية والمستقبل، فأنشأوا الفرق الموسيقية والأندية الثقافية، وبرعوا في الروايات والكتابة الأدبية، وفي هذه الفترة تَشكّل معالم الفن الأسود الأمريكي المستقل الذي يحمل بصمات أفريقية عميقة سواء كان الجاز أو الهيب هوب أو الفلكور والسينماء، ونال أول أفريو أمريكي جائزة أوسكار، وتصدرت لمساتهم الثقافية والفنية على المشهد الثقافي المحلي 
.
ومع مرور الوقت إختفت العبودية رسميا رغم ترسبها في الإرث الثقافي والسلوكي الأمريكي، وتحسن وضع السود السياسي والاجتماعي والاقتصادي عبر ثائرين قادوا الجموع وتمردوا عن الوضع المأزوم وبحثوا عن ذواتهم في وسط الظلام وتركوا بصماتهم في أروقة الفن والسياسة والسينما، ومن هؤلاء الفتي الراحل توباك شاكور الذي وقف ضد التمييز وناصر الضعفاء بألحانه وحبال صوته الأسطوري 
.
توباك شاكور أو “النبي الأسود” ولد في منطقة هارلم التاريخية بنيويورك عام 1971م وأطلقت والدته توباك تيمنا بقائد الثورة البيروفية خوسيه غابرييل توباك شاكور أماورو الذي حارب الظلم والإضطهاد الإسباني حتى أصبح أيقونة النضال ضد الإمبريالية في أمريكا اللاتينية 
.
كعادة آلاف الزنوج في أمريكا ولد شاكور مجهول النسب وترك والده وهو في بطن أمه التي كانت عضوا من حزب “الفهد الأسود” الذي كان يناضل من أجل العدالة والمساواة، وفي ملاجئ التشريد بدأ كتابة القصائد فركز على الأحياء الفقيرة والعنصرية والمخدرات في الشوارع، فبات وهو في ريعان شبابة صوت المجتمع الزنجي وساكني “غيتوهاتوعشوائيات الضواحي التي تسودها الإستفهامات متى سينتهي العنف والمطاردات فيها؟ ليجيب شاكور عبر أغانيه: عندما يكف البيض عن قتل الزنوج في الشوارع 
!
منذ صغره تبرم عن الوضع المظلم وكان في باله الطبقية الحاكمة في الحياة الأمريكية! الأسود يجب أن يكون مقيدا بالفقر والجهل والحرمان، كي يعيش البيض في رغد العيش يجب أن تعمل أمي (النساء الزنجيات) ساعات طويلة وبأجر زهيد! كيف يدير البيض الإمبراطوريات التجارية ويبيتون في الأبراج العاجية ويركبون الطائرات الفخمة؟ في حين لايجد السود كوخا يقيهم الحرّ البرد وهم يقبعون في الزوايا والهوامش والأزقات يرافقهم الحيف في العمل والحقوق والحياة ؟ والتفسير الوحيد لهذه الطبقية في نظر شاكور هي العنصرية التي كرست التفوق التعليمي والمعيشي .

كان يؤمن أن الحاضر يصنع المستقبل، وأن النضال ضد المآسي المتراكمة عبر الدهور حتما سيشكل الملمح الرئيس للحياة القادمة، وأن الإنسان يجب أن يعيش من أجل هدف يقدم له التضحياتK وأن يتحرر عن الإهتمامات الآنية والتستر وراء الحجج الواهية، وأن ترنوا النفوس إلى الأهداف السامية والأمل بعيدا عن نار العبودية والكبت، وغنّى “بعيدا عن النار سيأتي المطر” مطر العدالة والحرية والحياة السعيدة.

شكسبير الأسود لجزالة لغته ورصانة ألفاظه وجمالية أغانية أنصف نساء السود ومدحهن كثيرا في وسط الثقافة الأمريكية العميقة في قدح كرامتهن (داعرة، ساقطة، سافلة) فكان يقدس النساء السود عبر أمه وفي أغنيته الأيقونية Dear Mam ندرك مدى عمق محبته للملكة السوداء التي كافحت من أجل تربيته وتغذيته للمثل العليا والأخلاق الحميدة رغم الفقر واليتم والمجتمع الطبقي، ولئن غنّى لأمة الحنونة فالأغنية التي باتت من أكثر أغاني الفنان شعبية تعني صوت الأمهات الضائع في دوامة العنصرية والفقر.

فنّه كان ثوريا يغرد خارج السرب الإمبريالي وألقي حجرا من ألحان موسيقاه الشجية في مياه الثقافة الأمريكية التمييزية العفنة، وفي أغانية كان ينشد دولة تحترم التعددية والأقليات، وشعب يقوده القانون والتفاهم والمصير المشترك، فأراد البعض إسكات هذا الصوت المتمرد الذي يشجع البسطاء على الانعتاق والتحرر من العبودية والخوف، في حين يهين المتنفذين أصحاب الثروة والسلطة ـ وكان هذا مطلبا لجهات عدة جمعتهم الكراهية والخوف من المارد الأسمرـ فاتهموه بأشياء كثيرة، وفي عام 1995 حكم عليه بالسجن، وفي داخل الزنزانة واصل نضاله الأدبي والفني، بل زاد تألقه عندما أصبحت أغنيته في السجن من أكثر الأغاني مبيعا في تلك الحقبة لكونه صاحب رسالة آمن بها وناضل من أجلها.

ذاع صيته وعم خبرة المشرقين، وتناقلت أخباره كبريات الصحف والمجلات العالمية والمحطات التلفزيونية فأصبح توباك الفنان المفضل والرمز الحي للناقمين على الظلم، و قائدا ملهما في جيله المتمرد الممتد بامتداد الفساد والضيم من أفريقيا إلى اللاتين ومن سهوب آسيا إلى أزقات منهاتن، كما أثر الاجيال اللاحقة الذين اقتدو به وأحبوه عبر فنه ولغته الغنائية وتفردة في اللحن وإلهاب العواطف فدخل الموسوعة العالمية للأرقام القياسية جينس بألبوماته وشهرته.

وفي منتصف شهر ديسيمبر عام 1996م وبعد سجال فني وكفاح أدبي جعل أيقونة عالمية وظاهرة فنية رحل الفنان الذي ألهب تصفيقه أكف محبيه في شتى البقاع، وأسدل الستار على حياة المغنى الأشهر في الهيب هوب والفنان الذي قاوم الظلم والاضطهاد بكلماته وثوريته إثر طلقات نارية من مسلح قيل إنه مجهول غييب أيقونة الفن إلى الأبد. 

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...