الجمعة، 14 ديسمبر 2018

كيف شكّلت الحروب أجيالاً من الصوماليين وسحقت أحلامهم؟

"لا أحد يعود من الحرب كما كان" مقولة شهيرة ظلت راسخة في أفواه المقهورين بعد كل حرب عبثي كنا نستطيع الابتعاد عنه، وكذلك المدن لا تبتسم كعادتها ولا يلتئم جرح الأوطان بعد الحرب، إنه أسوأ ما عرفته البشرية، يدمّر الشعوب ويشوّه التاريخ والحضارة، ولاينجز سوى دموع الأمهات وانتشار الفقر والدماء، وتغيير الملامح والهوية والوعي.

الكتابة عن الحروب تعيدني إلى ذكريات الطفولة الضائعة في مرابع عشيرتي الممتدة بامتداد السمرة والإبل، ومعها أمرّ عبر الخيال الذي يتسع كلما أتوغل في مأساتها ثورات اللاتين، وانقلابات أفريقيا، وهمجية الحضارة الغربية المدمرة، وتخمة العرب من الصراعات الصفرية، والصومال المزدحمة بالإختلافات وحروب أفقدتها نعمة الأمن ومواكبة العالم ومحاربة الفقر الذي قال رئيسها ذات يوم وهو في قلب مقديشو: إن عام 2000م سيكون آخر عام سيوجد على وجه الأرض صومالي جائع لايجد لقمة شريفة تسد رمقه، كانت وعودا فارغة أطلقها آخر المستبدين الوطنيين كما أطلق مدافعه على المدن الصومالية، وطلقات المدافع أسرع من وعود السياسين الذين أخفقوا في إيجاد الحلول الناجعة لأزمات بلادهم.

لم تتحقق تلك الأمنية العابرة لرئيس ظل رمزا وطنيا قبل أن يجرفه الاستبداد بعيدا عن أحلام الشعب ومبادئه، بل توغلنا في عقود كريهة كان صوت الرصاص هو الفصل الحتمي لأتفه الأسباب من شجار الأطفال إلى تلاسن الأصدقاء وحكايات الجدات الطاعنات وصراع الجبابرة، وكان الفرقاء الصوماليون يبتسمون في العلن وأمام الكاميرات في العواصم العربية والأفريقية وفي مؤتمراتهم المتعددة ويوزعون الموت في الخفاء، مما أذهل العالم وجعله حيارى حيال هذه الأزمة المتجددة.

عشنا بين الأمم مطأطئ الرؤوس، والتهمتنا الجوع ونحن نعيش في بلد يعدّ من أخصب البلاد الأفريقية والعربية، وساقنا الظمأ إلي توابيت الموت ونحن على ضفاف الأنهار وبحيرات من المياه الجوفية، ولاغرو في ذلك فالعقول القاحلة حوّلت السهول والمدن المطلّة على الأنهار الى صحراء، بينما العقول المنتجه جعلت الصحراء مروجاً وأنهاراً!

لقد ترك الحرب جرحا عميقا في البئية والحياة والسلوك، فبدأ الجيمع يسأل ويبحث عن زاوية غير تقليدية لإكتشاف ذواتهم ومعرفة ماهية الحرب مما ألهم الشعراء والأدباء والكتاب، وصنع جيلا جديا أبدع بعضهم في وصف الحروب بالقصائد والأشعار والمسرحيات والنكت وقليل من التدوين والكتابة، وبرزت النكسات المتتالية كتاباً ورسامين ومواهب إستطاعت تعبير الحروب بكثير من الإبداع والمعاناة، وحولوا التشرذم إلى سرديات موجعة، ورسوم ملهمة، وحكايات شفهية تغوص في أعماق المأساة، وألحان تعبر عن مشاعر المقهورين ونبضات المحبين وملامح المهاجرين من ديارهم إلى المنافي البعيدة، وقصص تؤرخ للحروب وتخرج الحقيقة الكامنة وراء ركام الأوطان والقلوب الخانقة إلى صدارة الجرائد وشاشات التلفزة. والحقيقة في زمن الصراعات تختفي على وقع هدير الرصاص وتضيع الأشياء في عمق الجروح الغائرة.

وأخفق بعضهم كالفن الصوتي ــ الأغنية ــ حيث توارى في محراب الحب وألوان الصبا ومفاتن المرأة والرومانسية المفرطة، وكان في معظمه غريبا هابطا لايمتّ بماضي وأحاسيس وثقافة الشعب بأي صلة، ولا يحاول تخفيف الألم عن كاهيل الكادحين إلا ما ندر، وبدا الفنان وكأنه يغنّي لمجتمع مثالي تعمه السلام وتحفه الطمأنينة، ومن الغريب أنهم يحييون ليالي الحمراء في المنافي في حين كان الدم يسيل في الطرقات، وبعضهم شاركوا في فصول الحرب وأسقطوا عن عيون الشعب إلى الأبد، وقصارى القول كان الفن والأغاني "الإيروتيكية" في واد والواقع في واد آخر.

وكذلك أخفق المثقفون سياسيا ودفنوا رؤوسهم في رمال الصومال المتحرك واتصفوا بالانطوائية والشوفينية لأفكارهم بعيدا عن المجتمع ومشاكله الحقيقية، وطفقوا يحللون الواقع ويلعنون الحاضر وقد احتفظوا بأماكنهم البعيدة عن معترك السياسة بكل برودة. كانوا ينشرون نظرياتهم عن الوطن وعن الحروب وعن الإسلام والثقافة والسياسة والدولة والقبيلة دون أن يقدموا مقترحات حقيقية لإنتشال الوطن، بل كانوا يتهربون من مسؤلياتهم ويتذرعون بأسباب واهية دون أدنى شعور بالذنب، وقد انتهز هذه الفرصة زعماء القبائل ومجرمي الحرب فتصدروا على المشهد السياسي والاقتصادي مما أبعد الحلول.

لقد تمرّد المثقفون عن الواقع القبلي العفن وابتعدوا عن قيادة الدولة وتأثير القبيلة ــ حسب أدبياتهم ــ ولكنهم أبدعوا في حقول التعليم وإنتاج المعرفة فأسّسوا المدارس والمعاهد والجامعات، وساهموا في نشر ثقافة التدوين والكتابة، ووثقوا المجازر والانتهاكات ضد الإنسانية واغتصاب براءة الأطفال وزجهم في الحروب الأهلية، وساهموا في إبراز الزوايا الأكثر إيلاما من زوايا الحروب، وتصوير المشهد ومساعدة الآخرين على فهم الأحداث كما كانت وكيف حدثت بدون تهويل أو تزييف أو تضليل أو تجزئة.

ورغم أن الكتابة لاتستطيع برومانسيتها ورفاهيتها في خيال المجتمعات ذات الثقافة الشفهية بناء مستقبل مشرق وسلام داخلي ما لم تتكاتفه جهود القوى الفاعلة في الساحة بكل أنواعها وايديولوجياتها، إلا أنها تظل النافذة الأهم التي نشهد من خلالها سوداوية الحروب وتعليق القوانين، وعبرها نستطيع نشر ثقافة التسامح والسلام والتعايش السلمي بين أطياف المجتمع، وفي هذا السياق يجدر بنا أن نذكر أن الكتابة عن الحرب تبدوا في خيال البعض مهنة لاتقل بشاعة عن الحرب نفسه! حيث تُنقل اللحظات الأكثر بؤسا وعنفا في تاريخ البشرية إلى الأجيال القادمة لنكدر عليهم حياتهم بأحداث لم عاصروها وأهوال كانوا في غنى عنها.

ولكن الجانب الأكثر وحشية للحروب هو أنه سينتهي وإن تمدد، وتتصالح الدول والشعوب والقبائل، وسيظهر على السطح مجرمون برتبة زعماء، وسيمنح على الجنرالات أوسمة ونياشين وجوائز تقديرية لإباداتهم المروعة ضد الأبرياء، وسيجني أثرياء الحروب وصناع البؤس ملايين الدولارات من دماء الكادحين! ووحدهم البسطاء يعانون ويموتون من أجل مبادئ ظالمة وحروب خاسرة في كل الأحوال، يزهقون أرواحهم، ويفقدون أحبابهم، ويخسرون أعضائهم، وتصيبهم التشوهات من أجل مستبد همّه الكرسي وإن مات الملايين من أجله، ويستميتون في الدفاع عن ناهبي أوطانهم في حرب لايعرفون أساسه ولايدركون أهميته القانونية والأخلاقية والإنسانية! فقط سمعوا عبر أبواق المجرمين أنه الدفاع عن وطن لم يقدم لهم شئيا سوى الفاقة والأمراض والجهل، وأنه حرب جيد يستحق الموت علما بأنه لايوجد حروب جيدة وأخرى سيئة. ويتساءلون بحسرة: لماذا السلم رغم جماله مفقود والحرب رغم بشاعته موجود؟

كيف نموت من أجل دولة يملكها طاغية وتحلبها عائلة وتبدأ من حيث تنتهي القبيلة أو المصلحة أو الطائفة؟، وظلت عاملا هامشيا في حياتنا، ولم نعطها يوما ولاء حقيقيا بعد أن ترسبت الموروثات الثقافية والاجتماعية وتأثير القبيلة وقدسيتها في مخيلتنا، وارتبط ولاؤنا الأول للقبيلة أكثر من الدولة، وبالتالي أصبحت الدولة عاملا تابعا للقبيلة وليس العكس؟ لقد أخذت الدولة في أوطاننا مفهوماً كارثيا بكل المقاييس حيث اختفى التابع (الدولة) وبقي المتبوع ( القبيلة) تتعملق وتسيطر على حياة الشعب مما أدى إلى انهيار تام بالمؤسسات الوطنية واشتعال حرب أنتج شعبا شرساً ومتوحشاً للغاية يعاني من الأمراض النفسية والشحنات السالبة.

الجمعة، 21 سبتمبر 2018

الصومال.. حكايات الحروب والتاريخ 2

السماء تعزف لحن المطر، وتضوعَ الأريجُ عن أحراش خط الإستواء والقرى الناعسة على أحضان المحيط، وتنتشر الإبتسامة الموغلة في التجلد وازدراء الآلام على ربوع الوطن في ظل الحركات الإجرامية والأوضاع المأساوية، وفي عمق الجمال الشاعري تبدوا أحراش الغابات وجوز الهند والحقول الزراعية على خارطة جنوب الجنوب لوحة طبيعية باذخة المعالم.

هنا وجوه صومالية خالية من الكآبة، وشيوخ يتمتعون بروح الدعابة والضحكة الصافية، السعال في الهزيع الأخير من الليل وبريق عيونهم تخبرك حكايات الحروب والتاريخ، المساجد منتشرة في كل ركن وزاية من  تلك القرى المرصعة بجو صومالي بديع حيث ثرثرة النسوان ومرح الأصدقاء على ضفاف الأدب والأمثال تنساب في أزقة التاريخ وشواطيء المعاناة اليومية للبسطاء، الكل يراعي النجوم ويستظل القمر ودولة القوافي، وينام على وقع أنين المظلومين ويصحوا على أصوات الرصاص.

نهر شبيللي وما ورائه من المدن والقرى تعتبر مروج ممتدة نحو الأفق ونهر عابر للأوطان تختلط فيه الأعراق والسياسة والمصالح والتضاريس، وبصمات الدمار بادية على جبين الأنهار والبحار والمدن الغارقة بالشحوب وعلى أرصفة البيوت التي هاجر سكانها بعد أن طردهم الوطن وأستقبلتهم المنافي، قصص الرحيل في المدن والأحياء مؤلمة ومأساوية، وفي عمق الدمار تأتي الأجيال المكافحة من أجل الحرية والمعرفة وانتهاء الصراعات وفواجع الحروب عبر العلم والقراءة والبحث عن الذات وتتبع خيوط الحقيقة رغم ندرتها في وطن تتقاذفه أمواج الصراعات والإنتماءات.

ما أجمل السفر في ربوع وطنك يرافقك كتاب يذكرك بالماضي الجميل، كنت أقرأ وأنا أسير على دروب يطول فيها العبور كتاب (سالي فو حمر وحكايات أخرى من أفريقيا) للدبلوماسي السوداني جمال محمد أحمد، الكتاب يثير كوامن النوستالجيا في أعماق نفوسنا الحزينة، حيث يتناول بطريقة أدبية ماتعة الصومال وحكاياتها وسمرة أهلها وعراقة تاريخها. الفترة التي لحقت الاستقلال كان الوطن مرتعا للكتّاب والأدباء والسياسيين والآن دمر الحرب كل شيء، لقد اختفت معالم الدولة ومظاهر الثقافة ومعهما الكتاب والإبداع. ولكن مع الاستقرار النسبي للأوضاع تحسن وضع الثقافة في الصومال عبر الأندية والملتقيات الأدبية ومعارض الكتب في معظم المدن، وبدأت بوادر المعرفة تلوح في وسط الركام مما ساهم في نشر الوعي بين الشباب الصومالي.

 كنت أحثّ الخطى نحو قاعة في قلب مدينة كسمايو الساحلية يحدوني الشوق إلى ندوة مصغرة لمثقفين يحملون هم الوطن، كانت "الهويات القاتلة" عنوان جلستنا التي تفرعت وتوغلت في جميع الميادين حتى لامست الماضي والحاضر وأضاءت المستقبل، وكان أصل الصومال كعادته لغزا حير الجميع، ومن الغريب أن الصوماليين لم يحسموا أصلهم لحد الآن ومقسمون بين عربي لا يتقن لغة العرب وأفريقي لا يحمل جميع ملامح الأفارقة يرافقهم الحيف في المنظمات حيث يعتبر الصومالي مواطن من الدرجة الثانية عربيا وأفريقيا، وتعتبر موضوع الأرومة من أشرس المواضيع في الساحة الصومالية.

لم يكن بحث الجذور الموضوع الوحيد في تلك الندوة، بل كان مبدأ "الصومال الكبير" الذي هاجمه البعض من الداخل حاضرا في أروقتها، فبعد عقود من التمسك بالنظريات الجامعة يبدوا أن التشظي نال هذه القومية المتجانسة التي كانت موزعة في عدة دول أفريقية يجمعهم حلم "الصومال الكبير" الذي كان يجري في عروقهم قبل تجزأة المجزأ إلى كانتونات قبلية ودويلات متصارعة على أنقاض وطن.

الأشواق الصومالية ومطالبتهم بالوحدة إبان التحرر الأفريقي إصطدمت بسياسة الاستعمار ومصالح الإمبريالية العالمية فقطع أوصال بلادهم وقام بتصفية عقولهم، وحارب ضد الحركات التحررية وفي مقدمتهم حركة الدراويش، ونصر الله، ووحدة الشباب الصومالي، والصومال الغربي، وثورة شيخ حسن برسني، ومقاومة قبيلة بيومال في الجنوب وغيرهم، وقاموا باغتيال أيقونة الوحدة أمثال المناضل محمود حربي الذي أسقطت طائرته في عرض البحر، حَربي رفَع شعار عودة جيبوتي إلى حضن الأم، وكان صوتا للحلم الصومالي القابع وراء الحدود التي صنعها الاستعمار.

بعد هذه النكسات لم يستسلم الصوماليون بل قاومو على المحتل فشنوا الحملات وجردوا الجيوش وهم يحملون لواء الإسلام وأحلام مشروعة تقودهم نحو إعادة مجدهم ومدنهم. ومنذ أن اعتنق الصوماليون الإسلام ظل يشكل النبض الأكبر لحروبهم فتوغلوا جنوبا وغربا عبر رحلة برية تستحق عناء البحث والكتابة بعد أن تدثرت بغبار النسيان وأصبحت حكايات ملئية بالشجن والملاحم يرويها الأجداد للأحفاد.

كان الصوماليون يتمددون على المشرق الأفريقي من أجل نشر الإسلام، أو الهرب عن صراع القبائل والأفخاذ الصومالية، أو البحث عن الثراء ومناطق لم يصلها الرعاة الرحل، وقد أفل نجم الممالك والدول التي حكمت أجزاء واسعة من شرق أفريقيا بعد مجيء الاستعمار دون أن يتركوا كتبا تؤرخ لمسيرتهم، لذا ربما لاندرك جل الطرق التي سلكوها والأحداث التي رافق زحفهم، ولكن نستطيع أن ندرك عبر الشعر الذي ظل المتحف الخازن لسجلات الماضي أن الشعوب الساكنة في تلك المناطق لم تستقبل الصوماليين بالورود والزغاريد بل بالحرب والدماء، ولكن بفعل الشجاعة والتفوق التدريبي والرشاقة إضافة إلى التجلد والرغبة الحقيقية لنشر الإسلام على ربوع الوثنيين كانوا ينتصرون في معظم المعارك ويواصلون زحفهم حتى وصلوا إلى تخوم نيروبي جنوباً وأواسط البحر الأحمر شمالاً، فيما تممددوا غربا على أديس أبابا وما ورائها من البحيرات، وكان الصوماليون من الأوائل الذين وصلوا إلى عمق الأمهرا في بداية القرن السادس عشر وتحديدا عهد الجهاد المسلح ضد أباطرة الحبشة التي قادها الغازي أحمد جري ورفاقه الأشاوس.

لقد تعمق الصوماليون في الأدغال الأفريقية وعبروا نهر تانا إلى الجنوب وهم يحملون عقيدتهم وأفكارهم وإبلهم ونمط حياتهم، ورغم التنوع الثقافي والعقدي بين الصوماليين وسكان تلك الأراضي فإن الروايات الشحيحة والميثولوجيا الصومالية تدلنا كيف كان التداخل بين المجموعتين بعد أن وضعت الحرب أوزاره، حيث روى لنا المسنون أن المحاربين بعد أن وصلوا تلك الأراضي واستوطنوا فيها آلت إليهم الأموال والممتلكات وتزوجوا من القبائل الأصلية، وبذلك أصبحت تلك البلاد موطنهم البديل إلى أن جاء الإحتلال الغربي والدول القطرية فانحسروا نحو المحيط بعد أن خسروا آلاف الأميال بسبب قلة عددهم وشساعة أرضهم واختلاف البيئات الماطرة عن تلك التي عاشوها في مرابعهم في القرن الأفريقي، إضافة إلى السياسة الكولونيالية التي نصت على تحجيم دور الصوماليين وتلجيم مطامعهم.

كانت القبائل الوثنية التي تسكن على المستنقعات الجنوبية وما بين نهر جوبا وتانا في الإقليم الصومالي في كينيا شديدي البأس واتسموا بالشجاعة والعدد والتكتيك القتالي، وكان لهم ثقافة مازالت بعض آثارها بادية للعيان، ورغم ذلك مازال أنماط حياتهم وطقوساتهم المعيشية والدينية شحيحة جدا إلا ماكتبه المحتل البريطاني وهي رغم قلتها لاتنصف في كثير من الأحيان، وقد امتدت مسيرة الصوماليين نحو البحيرات العظمى وخاصة تشاد التي يعش فيها اليوم قبائل صومالية كما يعتقدها طيف واسع من الصوماليين رغم أنها إندمجت تماما في المكون الثقافي والعرقي لجمهورية تشاد والبلاد المجاورة.

الاثنين، 16 أبريل 2018

الصومال .. حكايات الحروب والتاريخ (1)



الصومال وطن تلفه التاريخ وتحيطه المحيط والحروب، الأنهار تداعب جبينه، والمناطق الأثرية تستقبل زواره مع لمسات إستوائية مميزة. روائح الثقافة عابقة في أزقات مساجده الشاهدة على الحضارة الإسلامية العريقة، والمدن القديمة تشكل صندوقا مليئا بالأسرار وماضي أمة كانت همزة وصل بين أفريقيا والبلاد العربية وما ورائها من البلدان والشعوب.

وصل العرب إلى الصومال عبر موجات متتالية من البشر منذ انهيار سد مأرب، وبعد بزوغ فجر الإسلام توثقت أواصر العرى بينهم وبين سكان ساحل الصومال فأسسوا الممالك والمدن والمراكز التجارية، وبنو القلاع والموانئ وانسجموا مع القبائل، وانتشرت ثقافتهم وحضارتهم وساد فنونهم، وبذلك أثّروا على اللغة والملامح والتركيبة السكانية، وفي غضون سنوات قليلة ذابوا في المجتمعات المحلية وباتوا عنصرا مكونا من اللوحة الصومالية.

على أطلال حيّ شنغاني في مقديشو تحيطني جروح لاتندمل، وانهزمت أمام أطلال التراث الصامد، قصور السلاطين على كتف المساجد، ومتاحف تقبّل الرمال، وذكريات الرحالة كريستوفر كولومبس، وكتابات ابن بطوطة، وآثار المؤرخين والكتاب الذين مرّوا على بلاد بونت وهم يبحثون مجد الكلمة أو متعة السياحة في أجواء مقديشو "ساحرة شرق أفريقيا" فهربت أداوي جروح الحروب بالكتابة رغم صعوبة نسيان ذكرياته المترسخة في الذاكرة الجمعية للشعب.

كلما أتوغل أقترب إلى معالم قديمة، وشوارع اختفت، وتراث طمرها النسيان، وملامح مآسي بامتداد مقديشو، وتبدوا المحيط الهندي على صفح الأفق وكأنها تراقب مدينة تنام على وقع الإنفجارات وتصحو على دوامة سحب الثقة من أحدهم، وإذا توغلت في الحس الشاعري والهوية الحضارية المميزة ل"حَمَرْ" سترى طلاً من إبتسامة تبرز بعض مفاتنها وإن علاها غبار ثلاثون سنة كان خنجر الفرقاء مغروسا في جسدها.

نحو العبور إلى  تاريخ طمستها المعارك، وأمام مقر البرلمان الصومالي الذي يعاني من تضاريس الأزمنة تعيدني مقديشو إلى بداية السبعينيات من القرن المنصرم، المبنى الشامخ شهد مؤتمر القمة الإفريقية عام 1974م وضمّ في جدرانه زعماء أفريقيا العظام قبل أن تنال يد الغدر وتحوله إلى أطلال باكية وثكنات للجيوش المتصارعة على المدينة.

في تلك الحقبة كان الصومال مزدهراً ويشهد جهوداً حثيثة من أجل لحاق قطار التقدم والاكتفاء الذاتي، تصدّر العساكر في الجمهورية الثانية وانغمسوا في السياسية بعد دولة مدنية تنخرها الفساد وتقودها الدستور، في الوهلة الأولى بدا الجيش وكأنه يلبي مطالب الكادحين، تضافرت الجهود وتكاتفت جميع فئات الشعب من أجل صومال جديد، فبدأت موجات البناء وإنشاء التعاونيات والمشاريع الوطنية التي مازالت ماثلة إلى يومنا هذا.

حكومة العساكر لمست الوتر الحساس للشعب عندما ركزت الجوانب الثقافية والتوعوية والتاريخية، نفضوا الغبار عن تاريح الأبطال، وألفوا الأغاني، ونظموا الأشعار لدغدغت المشاعر، وبعد قطع أشواط نحو التطور ودولة تواكب العصر وتستطيع استعادة استقلال قرارها حدثت نكسة غيّرت البوصلة! العساكر اختاروا الأيديولوجية الشيوعية ومحاربة الأصالة والهوية الدينية المترسخة في الوجدان، ومن أجل تعميق الماركسية في أوساط الشعب أصدروا قوانين مجحفة بحق الدين فبدأ صراع العلماء والسلطة، ودارت مساجلات فكرية وثقافية تطورت إلى إعدام العلماء وإراقة الدماء!

كانت خطوة جريئة نحو الإنهيار تَعَمّق بعدها الشرخ بين الشعب والحكومة الصومالية الاشتراكية، وتوقفت عجلة الاقتصاد، وضاع الشعب وفقدت الدولة هيبتها على القلوب وسيطرتها على الأرض، وبعد سنوات من إعدام العلماء والهزيمة المؤلمة في جبهة أوغادين عام 1977م بدأت المعارضة المسلحة تشن حروبا على الدولة، وبين انتهاكات الدولة البوليسية وعمالة الجبهات المتمردة ضاع الوطن، لقد دمره الحروب وبقي تاريخه دفينا تحت عباءة القبلية و ركام المعالم وغباء المهووسين بالحكم، وقصص شفهية لشعب تواق إلى السلام ونشر المحبة بعد عقود من الإرهاب والكراهية.

على بعد أمتار قليلة من مجلس الشعب يطل تمثال ثائر الصومال السيد محمد عبدالله حسن بهامته الممشوقة وتقاسيمه الدقيقة، السيد ورفاقه الأشاوس الذين قادوا الجموع نحو الحرية والكفاح المسلح في زمن كان الوعي السياسي الصومالي في أدنى مستوياته واجهتم مصاعب جمّة كتفكك الوطن، وتأليب رأي العام واغتيال المعنويات عبر وكلاء الاحتلال، وعدم الحصول على الأسلحة والذخائر بسبب الحصار الأورروبي المفروض على السواحل الصومالية، ورغم ذلك حاربوا الترويكا المحتلة ( بريطانيا، إيطاليا، فرنسا) إضافة إلى الحبشة، وكابدوهم خسائر جسيمة طيلة عقدين كان نار الجهاد يومض على ربوع القرن الأفريقي.

السبت، 7 أبريل 2018

إفريقيا .. ظلم الجغرافيا



كنت في مدينة صومالية تصافح المحيط عندما انهالت عليّ الذكريات وأنا أتأمل حياة أفريقيا الملتهبة من أقصاها إلى أقصاها، في أعماق الألم حلّقت بعيدًا فوق القارة الغنية بمواردها وبؤسها أراقب أحلام شعوبها وتطلعاتهم في ظل القهر وتكميم الأفواه الذي جعل الشعب كتماثيل حزينة لا إرادة لهم، إضافة إلى العبودية الجديدة المتسترة وراء رداء الهيئات العالمية.

منذ ربع قرن وشعبي الصومالي قابع في أوحال الحروب وفواجع التشريد، وصوَبوا بنادقهم صوب صدورهم بعد أن كانت تدافع المقدسات والمعتقدات عبر سلسلة من النضال الطويل من أجل المبادئ والمقدّرات، فقد حاربوا البرتغال في عمق البحار، واستحوذوا على أجزاء واسعة من أراضي شرق أفريقيا ينشرون الإسلام ويحاربون الجهل، وتوغلوا جنوبًا نحو السافانا والتلال المغطاة بالثلوج والسمرة الغامقة، وفي بداية الحملات الأورروبية قسّم الاستعمار أراضي الصومال إلى خمس أجزاء تجمعهم الأمنيات، وفي سبيل تحقيق مطالبهم سقط الملايين وجرح مثلهم، ولم يكن الطريق مفروشًا غير الدماء ومقارعة نصارى أوروربا وأباطرة أباسينا وسياستهم التوسعية عبر التاريخ.

من مقديشو اتجهت غربًا نحو بلاد الشعر (أوغادين) وكأني ألاحق الشمس وهي تعزف لحن الغروب خلف روابي إقليمٍ جرى فيه صراع عالمي مصغر منذ أن منحته بريطانيا الإقليم الغني بالثروات لإثيوبيا نكاية على الشعب الصومالي الذي أبى أن يعيش الإنجليزُ بسلام في أرضهم، كنت أحث الخطا نحو تاريخ أمتي وأمجادها الضاربة في عمق التاريخ، الألحان الشجية، وأريج اللبان، ورائحة الإبل الممزوجة بالأدب، وتكايا السلاطين والمدن التي تحاور الثروات تثير في وجداني مشاعر عتيقة وتشكل «زوايا غير محكية» تنتظر حكّاء ماهرًا يقدمها للعالم.

الصومال العريق بتاريخه منذ مملكة بونت وما تلاها من الممالك والحضارات اشتهر في السنوات الأخيرة بأزمته الإنسانية المتكررة! ولكن ما لا يعرفه العالم أن هذا البلد يعني قرابة مليون كم مربع من الإبل والمحيط والملاحم. والجريمة الوحيدة التي اقترفناها أننا أردنا أن نعيش أحرارًا يحملون لواء الإسلام وأنفة ورثناها عن أسلافنا، وأرادت الكولونيالية أن نعيش بلا وطن ولا هوية ولا انتماء، وأن نكون موزعين على البلدان المجاورة لكسر شوكتنا وتمزيق وحدتنا!

توغلت في أفريقيا وتجاوزت الحدود المصطنعة بعد نكسة برلين 1884-1885، وتعمقت الجرح الأفريقي النازف منذ قرون، في صغري كنت أحمل همّ قارة المستقبل، أعجبني لحن المناطق المرتفعة، وأبهرني قوة ساكني الأحراش، وسحر الحلم القابع وراء الحناجر التي تهتف بالحرية ولو بصوت متهدج خلف ضجيج الجغرافيا ومونولوجيا الذات، كنت أكتب قصصهم وأحكي عن أشواقهم عبر مداد قلمي الحامل بفيض من اللذة والألم ومحاربة الركود الثقافي للمجتمعات.

في قلب حيّ كابيرا الكارتوني في نيروبي وعلى جدار مقابل للبيوت المطلة على المزابل التقيت شابًا في مقتبل العمر، كان يتحدث عن مأساتنا وهو ينفث دخان سيجارته: «لقد حوّلت الأدمغة العفنة أفريقيا إلى أوكار للفاقة والجريمة، الاستعمار لم يذهب بل بقي في بلادنا يجثم على صدرنا، ويقتل أبناءنا تارة عبر وكلائه الذين أوصلهم إلى رأس الهرم، وتارة بالتدخلات، ومرات عبر السيطرة المطلقة على الإنتاج وتحديد أسعار الخامات، ليأخذ الغرب الأموال ونحن لعنة الثروة.

في المعابر والمطارات لا صوت يعلو فوق الترقب وهاجس الجنود والأسلاك والجدران الفاصلة بين الأفريقيين. المؤسسات المدنية الفاعلة والتحول الديمقراطي باتا ضربًا من الخيال في ظل جيوش ذابت في السياسة وتحمي عرش الطغاة، القوات المسلحة في أقطارنا هي اليد الباطشة للأنظمة المستبدة، فبدلا من ابتعادها عن السياسة وانغماسها في المهام الرسمية انخرطت  فيما لا تتقنه فتاهت في مسالك القمع والإرهاب، وبامتزاج رغبة العساكر مع أطماع المؤسسات المدنية المأزومة تكونت دولة المافيا، وأجهزة بلا كفاءات تغرق في الشبر الأولى من مشاكل الوطن بعد أن هربت الأدمغة المثقفة إلى الخارج خوفًا من السجن أو القتل.

الأربعاء، 28 فبراير 2018

رسالة إلى سالم .. المولود البريء


أهلا وسهلا بك يا صغيري في هذا العالم، ودّعت اليوم بطن أمك الذي كنت تجول فيه بدون منافس يفسد حياتك الطرية وينكد مزاجك الجنيني، وجئت إلى عالم مختلف، شعاره التحدي والبحث عن البقاء في حقل من الألغام والانتهازية والجمال الممتد بامتداد الحب والطيبة في كوننا الفسيح.

يوم قدومك احتفل كاتب هذه السطور الذي بدأ مع والدك رحلة الحياة من مهدها، كنا أطفالا في نعومة أظفارهم، تسعدهم الكرة وتبغضهم الأفلام الرديئة في عطلة الأسبوع، إختطفت الحروب الأهلية طفولتنا البريئة واختفت الآمال وراء معضلة القبلية في وطن ظل مأزوما منذ عقود، ذاكرتنا الطفولية كانت ملطخة بألوان من الماسي، وعيوننا الناعسة كانت كاميرا تسجل الأحداث والمؤتمرات العبثية للفرقاء الصوماليين في العواصم العالمية.

في خضم الصراعات وفي كنف اليتم المبكر عشنا حياة بلا طفولة ولا أبوّة، بل بلا ملامح ولا طلاء، حيث كانت المدافع تزهق الأرواح وتخطف الابتسامة، والمليشيات الجهوية والدينية تنهك الأعراض وتشوه التاريخ والدين والقيم والأخلاق، التعليم كانت ردئية أو معدومة، والصحة حدث ولا حرج، والسلام الداخلي كان في كف عفريت.

ورغم ذلك كنا نضحك ونتوغل في دروب السعادة نلعب ونمارس الحياة بشغف الطفولة وعناد الأيتام الطامعين في تغيير مجرى التاريخ نحو الأفضل، أو على الأقل المساهمة في تخفيف الأعباء عن كاهل البسطاء، كنا ننافس بل نتغلب على أطفال الحي الذين كانوا يتلقون دعم الأب وحمايته، في المدارس كنا الصفوة، وفي المستطيل الأخضر كنا نرهق المنافس بسيمفونية كروية وحماسة منقطعة النظير.

كنتُ أكبر منه سنا وهو أكبر مني حيوية ونشاطا، أو قل إن شئت حماسة وإتقانا، أتذكر كيف كان سريعا مراوغا ماهرا في التسجيل والشجار والطبخ، كان كريم المشاعر باسط اليدين مبتسما يحب مساعدة الأخرين، وهذه صفات أتمنى أن تجري في دمك وأنت في المهد صبيا هناك في نيروبي لندن أفريقيا وعاصمة القرن الأفريقي بمشاكله ومساوئه وإمكانياته الهائلة، نيروبي التي شهدت صرختك الأولى يا سالم ضمت قبر أمي وجسدها الطاهر! وتعتبر نبض إفريقيا ومن أكثر مدن القارة نشاطا وحيوية وتلتقي فوقها آلاف السحنات والمصالح والمؤسسات، وتطبخ في فنادقها ومكاتبها السياسات وبنار هادئة وحارقة أحيانا.

كان في بالنا أننا سنتغلب على الصعاب، ونستمتع بغد أفضل طال انتظاره بسبب غباء المسؤلين وغياب زعماء يحملون كاريزما القيادة والتأثير على الآخرين، بتنا ندور في المربع الأول وتراجع بصيص الأمل الذي لاح في الافق القريب بعد ظهور المحاكم الإسلامية الذين اعتقدنا في غمرة الهلوسة أنهم المنقذون الحقيقيون لبلدنا، كانوا الوجه الآخر لعملة التيه فكدنا نفقد الأمل وابتعدنا كثيرا عن مسارح طفولتنا وميادين حداثتنا هربا من الحركات الاجرامية والجهل الذي أطبق أطنابه على الجميع، ذهبنا معا إلى السودان في رحلة العلم والمعرفة، كانت تجربة جريئة وماتعة في ظل الثقافة والنيل وطيبة أهلنا السودانيين، دار الزمن وتوالت الأيام إلى أن ودّعنا النيل وكلية العلوم، مفارقة المالوف مشقة يا صغيري! ربما تمنيت وأنت في رحلة الولادة من رحم أمك إلى عالمنا المشحون بالكراهية والبارود وأنغام الحياة أن تترك القوة الدافعة جسدك لتكون عالقا في عالمك المثالي، كنتَ سعيدا يقضم أصابعه برومانسية الأطفال في داخل مشيمتك، وبعد سنوات ستصبح شابا مفتول العضلات مليئا بالحيوية والنشاط، ستضحك كثيرا وتحمد ربك إذا عرفت أنك مررت في ضيق الرحم وظلام البطن باكيا.

وكذا الحياة يا ولدي سلسلة من التجارب والمحطات، بعد التخرج رحلنا جنوبا نحو بلاد الشعر وفي بالنا أمنيات هرمت وشاخت، الطريق لم يكن مفروشا بالورود، بل كان مترعا بالتنقلات في القرن الأفريقي بحثا عن لقمة العيش، واصلنا الكفاح من أجل المستقبل وتأمين سبل الحياة الكريمة لفيلق قادم من المحاربين الأشاوس أنت قائدهم، حاولنا أن نؤسس لكم حياة أحسن من تلك التي عشناها نحن، وأن تمارسوا الحياة مع أترابكم جنبا على كتف، وإن لم نصل إلى مطالبنا فأنتم اليوم في ظرف أحسن بكثير من وضعنا في جميع المستويات، قُدر لجيلنا التعاسة! وأن يكون وقودا للصراعات، وقّدر لجيلكم ـ كما نتمنى ـ الريادة وإعادة المياه إلى مجاريها.

الوضع لم يكن مثاليا، كان الوطن في قعر الخوف والمجاعة رغم الموارد الاقتصادية المتوفرة، لم نستسلم بل صرنا أكثر قوة، وبدأنا رحلة الحياة وإعادة الوعي الغائب منذ عقود، فتحنا مراكز تعليمية ووجهنا الشباب نحو التثقيف الذاتي، والدك صار "الجندي المجهول" في مدينة ظلت متقلبة في أحضان الدماء والدموع، مع أصدقائه رسم الابتسامة على وجوه الأطفال، والسعادة على جبين السمراوات، وغرس الطمأنينة في قلوب الكبار فأصبح محبوب الجميع، اليوم كسمايو سعيدة تنافس المدن العالمية وترفع ذؤابتها من جديد.

ستنخرط في دنيا جميلة بطبيعتها ومجانينها وعرق كادحيها، مخيفة بتصرفات مجرميها وجشع أغنائها، من الغرابة أن قلوب الفقراء ناصعة البياض، القناعة تسعدهم، والفاقة تعلمهم الصبر ومغالبة الأحزان، وقلوب الأغنياء شاحبة قاتمة تغمرها الكآبة والأحزان القاتلة، يعانون من الأرق ويبحثون النوم ويمشون كثيرا من أجل هضم الوجبة الدسمة في بطونهم!، ستكبر على كنف أمك ـ إن شاء الله ـ وعين الله ترعاك وترشدك إلى الدروب الصحيحة بعيدا عن الغواية والضلال، وربما ستصبح طبيبا ماهرا أو مهندسا بارعا أو صحفيا متألقا أو أديبا مفوها أو عالما مشهورا أو جنديا شجاعا، أو سياسيا لبقا يعيد للصومال مجدها فاطلق العنان لنفسك ولاتخف، وليكن شعارك القادم أفضل لامحالة، وكن مرحا يحب الترحال واكتساب المهارات وطرق أبواب العلم ماستطعت إليه سبيلا.

إنطلق نحو الخير ونشر المحبة، واغرس في ذهنك حب الوطن وعشق المسيرة الطويلة من أجل حماية الدين والجغرافيا، إبحث الإلهام في سيرة العظماء، الرسول الأعظم وصحابته الكرام، أجعل سيرة المجاهد أحمد الغازي نبراسا لك، وكفاح الدراويش مثلك الأعلى، حاربوا ضد الظلم والعبودية ونهب التاريخ والثروات فعاشوا كراما وماتوا أبطالا.

الثلاثاء، 9 يناير 2018

التمرد والحرية في الفن الأفرو أمريكي.. توباك شاكور نموذجاً


 
منذ بداية نكبتهم ورحيلهم من أفريقيا عبر قوارب الميت والسفن التجارية العابرة للقارات إلى أدغال أمريكا وهم مقيدون بالسلاسل والإزدراء كان السود يحاربون ضد الغبن والدونية وعدم المساواة والتنميط المؤسساتي، واستنكروا القمع والعبودية وبحثوا الحرية والعدالة الاجتماعية ــ رغم ضيق الفرص واستحالة المطالب ــ بطرق متعددة كالتمرد والثورات والفن والأدب الذيْن جسّدا ذكريات الجراحة والألم، فكانت مطالبهم رغم بساطتها بعيدة المنال بسبب العنصريين الذين كانوا يرون أن السود نصف إنسان ونصف حيوان لايملك أدوات التفكير والقدرات التي تؤهله إلى الإنسانية الكاملة 
!
وفي ظل الرق والسادية كان السود يعانون من الأعمال الشاقة وألم السوط والإذلال، ولم يستطيعوا أن يطلبوا حقوقهم ويعبروا عن مأساتهم بالفن والموسيقى بعد حظر الطبول وأدوات الفن من المزارع والتجمعات الأفريقية، أو أن يكتبوا تاريخهم وتراثهم، لأن الكتابة في نظر البيض أسمى درجات النضج والرقي الإنساني ولم يدرك العبيد إلى هذه المرحلة السامية بعد!، حيث يصور الأدب الأمريكي الإمبريالي الإنسان الأسود بالشهواني الغارق بالجنس والمخدرات والمخالفات القانونية والعيش في الأحياء المتخلفة والضواحي الكرتونية الأكثر بؤسا، ويلصقون كل التهم والمساوئ كتدنّي المستوى التعليمي والتسرب المدرسي وارتفاع الأمية والبطالة 
.
ومن أجل التصدى لهذه الهرطقة بدأت حركات السود الثقافية تدشن آراها الفكرية ونظرتها حول الحياة والحرية والذات، فكتبوا القصص والمسارح والروايات والأغاني، ومع تحسن الوضع وارتفاع الأصوات التي تطالب بإلغاء الرق إنخرط السود شئيا فشئيا في القالب الثقافي الأمريكي فحاربوا عبر كتاباتهم وسردياتهم وفنهم الموسيقي الأفكار العنصرية المأفونة، وقد حمل لواء هذا الفترة الحاسمة في تاريخ الزنوج في أمريكا كتاب وأدباء وموسيقيون مهرة كرسوا جهدهم لطي صفحة العبودية وبداية عصر المواطنة والمساواة، ومن هؤلاء  فليس ويتلي، وغوستافوس فاسا، وأولودة اكويانو، وهاري بيرلاي، وغيرهم الذين قادوا نضال إعادة قراءة التاريخ وتصحيح الأفكار وتلميع المسيرة 
.
إن المعاناة والتضيق الذي لقيته الكاتبة الشابة فيلس ويتلي وما رافق كتاباتها من ألوان العذاب والسخرية يذكرنا طغيان الطغمة الحاكمة التي كانت تسخر من الزنوج سواء كانوا في أمريكا التي ألهبت ظهرهم بالسياط وأرعبتهم بالمشانق، أو في أفريقيا التي تعاتي من التدفق الأمبريالي من أجل نهب الثروة وشراء الرقيق وإرسالهم إلى أورروبا وأمريكا ليبدأوا فصلا آخر من فصول العبودية والتسلط، ومازالت موانئ الشحن في أفريقيا شاهدة على آثار المأساة الإنسانية 
.
وفي طيلة القرن التاسع عشر الميلادي كان السود يواصلون محاولاتهم الخجولة التي كانت في معظمها فردية الطابع وبعيدة عن التأثير من أجل رد الإعتبار واختراق جدار العزلة الثقافية والإنعتاق من الآثار السلبية لسنوات من العبودية والإنطوائية إلى رحاب الحرية وتأثير الشارع الأمريكي وثقافته الاستعمارية وتحويلها إلى ثقاة مشتركة تتسم بالشمولية والعدل والوطنية، وهكذا استمر النضال ومحاربة العنصرية والتمييز إلى أن بزغت نهضة هارلم وماصاحبها من حركات ثقافية وفكرية واسعة النطاق وعميقة الأثر، وكان جيمس ويلدون وآلان لوك وزملائهم من الكتاب يتصدرون التيارات المنفتحة على الأفكار والنقاشات والخيال الجامح نحو نفي الدونية وإثبات الذات واحترام الهوية الثقافية، كما كان المطربون اليوبيل (jubilee singers) وسكوت جوبلين وغيرهم ممن أسسوا مدرسة أفروأمريكية في الغناء والألحان لها روادها وملامحها ولغتها الغنائية يواصلون بحثهم عن الذات وقفزاتهم الثقافية المبهرة عبر ألحانهم وإيقاعاتهم الكلاسيكية الممزوجة بالعراقة الأفريقية التي أبهرت المجتمع الأمريكي المختلف عنهم والمعبأ بالنظرة السلبية للسود عرقاَ وثقافة 
.
وبعد الحرب العالمية الثانية وجد المجتمع الأفرو أمريكي منصات يستطيع من خلالها تعبير ثقافته ومشاعرة ومشاكلة وماضيه الملئ بالعبودية والأضطهاد النفسي والجسدي وتطلعاته نحو الحرية والمستقبل، فأنشأوا الفرق الموسيقية والأندية الثقافية، وبرعوا في الروايات والكتابة الأدبية، وفي هذه الفترة تَشكّل معالم الفن الأسود الأمريكي المستقل الذي يحمل بصمات أفريقية عميقة سواء كان الجاز أو الهيب هوب أو الفلكور والسينماء، ونال أول أفريو أمريكي جائزة أوسكار، وتصدرت لمساتهم الثقافية والفنية على المشهد الثقافي المحلي 
.
ومع مرور الوقت إختفت العبودية رسميا رغم ترسبها في الإرث الثقافي والسلوكي الأمريكي، وتحسن وضع السود السياسي والاجتماعي والاقتصادي عبر ثائرين قادوا الجموع وتمردوا عن الوضع المأزوم وبحثوا عن ذواتهم في وسط الظلام وتركوا بصماتهم في أروقة الفن والسياسة والسينما، ومن هؤلاء الفتي الراحل توباك شاكور الذي وقف ضد التمييز وناصر الضعفاء بألحانه وحبال صوته الأسطوري 

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...