الأحد، 14 يونيو 2015

صدى الأيام (5)



     كانت فجوة الخوف والرهبة تتسع في داخلها  كلما رسم الليل لونه الأسود على ملامح مقديشو الكئيبة، لم تتضح الأمور بعد ولم تأخذ الأوضاع حالتها النهائية، وأحاطة الدولة سياجا من الكتمان الشديد عن إنهيار قوتها وهروب جيشها أمام ضربات القوى المعارضة المسلحة، ولم يظهر الإنهيار الكلى إلى السطح، بل كانت الملامح السياسية تتشكل في الخارج والمنافي، والخارطة العسكرية للمعارضة تتوسع في الداخل بدأ من شمال الوطن الغارق في حروب تقودها الصلف والجهل ونوايا ضامرة للإنفصال ومزق وحدة الوطن، إلى الجنوب والحركات المتفقة على إسقاط النظام بلغة القوة والمختلفة فيما سواها.

منحنى النعرات القبلية وصل إلى أعلى مستوياته، والبرك الدموية تملأ الأزقات في الليالي الحالكة، والأجواء كانت مفعمة بالترقب والخوف من  المجهول القادم، سيما وأنا معظم الأقاليم وحتى الضواحي القريبة لمقديشو خرجت من سيطرة الدولة، وتحولت إلى مراكز علنية للمعارضة والحركات المتمردة في نظر البعض وإكسير الحياة ورسل العناية الإلهية في نظر الآخرين.

أيا كانت، الحركات المهوسة بالدمار والدموع والدماء كانت منهمكة بنهب الوطن وتمزيق الجغرافيا وتشويه التأريخ وتشريد البشر،و كان الوطن يقترب شئيا فشئيا نحو التلاشي والإنهيار الكلى لمؤسساته وهيبته وتأريخه، وكانت الجبهات الذين يمرون في عز نشوتهم يتوغلون في خراب بلد لم يجد عقولا ناضجة تسيسه، ولا شعبا يعرف معنى الدولة والمدنية يحميه من الضياع، ومما زاد الطين بلة أن النظام الإستبدادي لم يدرك أن كبت الحريات ومصادرة الحقوق لم يعد شئيا يحتمله الصوماليون الذين عاشوا في معاقلهم ومراتعهم الأصلية أحرارا لا يحدهم شئ يلتحفون السماء ويفترشون الأرض ويرعون إبلهم ويتنقلون وفق المطر والأنواء دون أن تعيقهم الحدود ولاتزجرهم القوانين ولا تخيفهم قوة البشر.

إنزلق الجميع نحو المستنقعات الآسنة للصراعات العبثية والحروب الأهلية التي نعرف جيدأ من بدأها، ولكن منذ الطلقة الأولى لمسلسل الحروب الأهلية والمعاناة إلى يومنا هذا وبعد مرور أكثر من  عقدين من الزمان لا نعرف من سوف ينهيها،! لتشابك الخيوط، وتصادم المصالح، وتقاطع السياسة، وتكاتف الجهال نحو الهدم والتشرذم، وإنعدام الرؤية الصحيحة والمنطق السليم، ودخول جهات خارجية تصب الزيت على المحنة اللاهبة في الصومال. 

في النهار تحجبك المكاييج الزائفة لبقايا الدولة عن المشهد الحقيقي الكامن وراء ستار  الهرج والمرج واليقظة الفائقة للعسكر في الشوارع والطرقات، وبعد الغروب وحينما يعزف الليل ألحان الهدء والسكينة في العالم هناك وفي قلب المدينة تصدح أصوات البكاء من البيوت، وينتشر العويل تحت جنح الظلام، وتبدأ سيمفونية الرصاص على المسارح الساخنة للوطن، وتهدر دويّ البارود التي تحول ليل مقديشو الهادئ إلى أصوات صاخبة للقنابل المدوية والطلقات الغادرة التي تخرج عن بندقية الفرق المسلحة الظامئة لدم الشعب وهدم البلد، والموت الرابض في عتمة الزمان والمكان.

عم شذى الصباح على القلوب المضنية والعيون الساهرة ألما وترقبا، وندى الشفق بدد جحافل الظلام، ونور الأفق أرسل سهامه إلى صفحة الكون، وبدأ التائهون في أودية المعاناة والكدح  يتدفقون في الطرقات والشوارع والأرصفة الباردة وهم ينشدون دفء الحياة في براثن الموت وفي داخل التعب والإعياء، وفي مقديشو لا يستطيع الموت ولا الحروب وقف نهر الحياة المتدفق منذ أن تعود الناس أن الحياة يجب ان تسير بوتيرتها السريعة مهما حدث، ومنذ أن عرف الشعب طريقته الخاصة لتكيف المصائب والنكبات مهما عظمت.
لم يكن يوما عاديا ابدأ، بل هبت رياح السياسة الهوجاء في ساعاته الأولى وقامت المخابرات العسكرية بحملة إعتقالات واسعة وملأت السجون من الناس، سواء كانو سياسين تعتبرهم الدولة الواجهة الناعمة للمتمردين حسب القاموس اللغوي للحكومة، أو أفرادا تعتقد الدولة البوليسية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة أنهم ينتمون إلى الجبهات المسلحة، وبدأت الإعتقالات والمطاردات بعدما ظهرت شائعة مفادها أن الحركات المتمردة سيطرت أحياء واسعة من العاصمة مقديشو، لم يكن خبرا عاديا للشعب المترقب لمآلات الواقع، بل كان بداية لنهاية محزنة ودخول نفق مظلم وحياة التشريد واللجوؤ التي أصبحت عنوانا لكل صومالي منذ سنة تسعين الميلادية.

جهزت عنب نفسها للدراسة، وخرجت من البيت تقصد المدرسة، ولكن وبعد خروجها من المنزل بدأت السماء تبكي وتجود بما لديها، ربما لتطهير الأرض من درن البشر ومن الدم المراق هدرا وعبثا، إنهمرت المياه وسالت الأودية، وبلل المطر على تربة مقديشو المنتظرة دما ودموعا ستشهدها العاصمة طيلة العقدين القادمين، وتغلغل الخوف في أوصال عنب التي أثقل السهاد أجفانها، ذهبت إلى مدرستها الواقعة قرب السوق الرئيس للحي أو المديرية، كانت تدرس في الفصل الثالث الثانوي، وكانت مجتهدة في تعليمها، متفوقة في درجاتها، ومتميزة في التحصيل يملأها البشر والحبور كلما تعمقت في جيوب الذاكرة وشاهدت عبر طيف الخيال شريط الحياة وما مرت عليه طيلة أيام المدرسة وسنوات الدراسة والتحصيل.

إختارت لها الأسرة أعرق مدرسة في الحي وبحثوا لها منذ السنوات الأولى مدرسة تهيأ للطلاب مناخا تعليميا يشجعهم على الدراسة والتميز، وبيئية تربوية تحثهم على العلم والدراسة، وتقدم تعليما نموذجيا ذات جودة عالية، وأساتذة أكفاء لهم الخبرات الكافية للتربية والتعليم وإخراج جيل مسلح بالعلم والأدب وحب الوطن، ومن جانبها كانت عنب تواظب الدراسة والمذاكرة وتثقيف نفسها معظم ساعات اليوم.

وعندما ترجع إلى البيت أو ساعات الفراغ كانت عنب تساعد والدتها في البيت وشوؤن الأسرة، تطبخ الطعام، وتكنس البيت، وتغسل الثياب، وتنظم الأثاث، وتعيد لأختها الصغيرة دروس المدرسة وتساعد لها تحليل التمارين الرياضية التي كانت صعبة عليها، وتقوم بريّ الأشجار المغروسة على فناء البيت، كما كانت تطعم الحمائم والدجاج التي كان والدها يولي إهتماما خاصا لولعه الشديد بتربية الدواجن ورعايتها منذ الطفولة حتى أصبحت مهنته في البيت وساعات الإسترخاء من العمل الشاق.

ذهبت إلى المدرسة  غارقة مع الحكايات المؤلمة والمشاهد المروعة المخزونة في ذاكرتها الصغيرة، خرجت من البيت وهي شاردة الذهن واجمة ومتفردة، وتشعر بخوف ورجفة شديدين  وشعورا غامضا يثقل كاهلها ويدوخ رأسها، كان يتردد على أذنها كلمات وصدى شبح ظاهر  مخيف ولا تدري منشأه، دخلت المدرسة وفي فنائها الفسيح رأت الطلاب وهم يبتسمون بحزن ويضحكون بقهر، أطفال في عمر الزهور حياتهم تدور في فلك البرآءة وسذاجة الطفولة ونزوات الشباب وهفواتهم القاتلة.

تنحت بإنكسار وسرحت في المجهول وتصورات غريبة ينتاب خاطرها المنهك بفك طلاسم الواقع ومعرفة خبايا الحياة المقبلة، ولأنها متأخرة كغير عادتها ذابت في الحياء وتدثرت بحمرة الخجل، الأطفال كانو يرددون ألحانا تفضي إلى سديم الفناء بدل ألحان الوجود وأنغام السرور، قرعت الباب بحياء فأدهشت أستاذة التأريخ التي كان تشرح بإسهاب وبحماسة شديدة بطولات المجاهدين وأمجاد الآباء الذين خلدو أسمائهم في صفحات التأريخ وأروقة فصولها التي تقطر بكاء ودما، وتفوح عنها شذى الجهاد والملاحم الخالدة، والفتوحات الإسلامية الكبيرة، والإنكسارات والهزائم المؤلمة التي أصابت المشروع الأهم في حياة كل صومالي عاش ما بعد منتصف القرن العشرين.

كانت الحصة تلخص بطولات الصوماليين الممتدة عبر  سهول الوطن ووديانه إلى جباله وصحرائه، وتقدم للشباب الذين هم سواعد البناء لمستقبل أفضل أبطال لهم صولات وجولات في القطر الصومالي قبل أن تنالة الأيادي الكريهة والأجندات المتصارعة والتبعثر الجغرافي الذي فرق بين الأشقاء وشتت شملهم وجعل حياتهم معاناة لاتنتهي.

بطريقة سريعة ومثيرة كانت كلمة الأستاذة جذابة منمقة تثير الحماسة في قلوب الطلاب، وتغرس الإنتماء وحب القادة في عقولهم المهيأة للعلم والتلقي، وكانت حكاياتها مرصعة بثورات عاتية صنعت مجد الصومال، وحركات نضالية مجيدة خرجت الحرية بقوة من براثن الإستعمار وأوكار الموت ومخالب الموت، وأشخاصا كانو شعلة للنضال وللجهاد، ووقودا للثورة الصومالية التي استعصت على المحتل إخمادها حتى استخدم ضدها الطائرات والقنابل الحارقة في سابقة أول من نوعها في القارة السمراء قاطبة.

لم تكن الأستاذة الشابة التي تخرجت كلية الأدب قسم التأريخ من الجامعة الوطنية تقدم التأريخ  بطريقة بدائية بمفهوم التلقي والتلقين الكلاسيكيين، بل كانت تشرح التاريخ بمعرفة وتتفاعل مع الوقائع وتنسجم مع الأحداث وتورد بطريقة شائقة حكاوي معفرة بتربة الوطن وحمرة الدماء،  وأحاديثا مشبعة بالتضحية وحب الوطن والإيمان العميق، وقصصا ملحمية ذات أسلوب ناصع كالقلائد المتدلية من جيد السمراوات في ربوع بلدنا.

صادف دخول عنب للفصل المليئ بالطلاب والأستاذة تشرح مسرح العمليات البطولية والمقاومة الشريفة للدراويش وسيدهم الشجاع، الذي كان يلهب الضمير ويثير الحماسة بأشعاره، وأراجيزه وألغازه وكتاباته وأيامه الغر الطوال، وكانت تتناول وبنبرة عالية تبعد عن عيون الطلاب النعاس بعد فطور دسم، وتوقظ الروؤس الناكسة من أجل النوم والكسل، وتغدوا الطلاب معها إلى عبق الجغرافيا وصدى الأيام الخالدات في الذاكرة الصومالية، وعمق التأريخ إلى الملاحم البطولية لأجدادنا العظام، إلى الفصول المشرقة من التضحية والنضال، إلى العظماء الذين واجهوا الموت ليجد الأحفاد حياة تليق بهم، إلى من تربعوا عرش العزة والكرامة وأخلدوا أسمائهم في سجلات التأريخ، إلى نفوس أبت إلا أن تتنسم عبق الحرية وأريج الحياة المكسوة بدفء الإستقلال والتطلع نحو الحلم الجميل.

وتؤوب الطلاب مع الأستاذة إلى المقاعد الدراسية وهم تجولوا عبر القلم وسحر الكلمات وسسلاسة الشرح وعمق المادة المنطقة الشاسعة بين مدينة عيرجابو التي كانت مسرحا ساخنا للمعارك الدائرة بين الثوار وبين المحتل وأعوانه، ومدينة بوهودلي ومشارف القلعة الخالدة قلعة "تليح" التي كانت مقر القيادة العليا للدراويش ودارت رحى الحروب على الأراضي المحيطة بها.

فطنت الأستاذة أن جذور عنب تعود إلى عيرجابو، تلك المدينة التي رأسها شامخ في ذرى الجبال والأكمة العالية المطلة من القمة على الطبيعة الخلابة والروابي المقوسة والفصاحة الظاهرة، فأطنبت الكلام وأسهبت، وأستنشق الطلاب معها أريج التاريخ، وعبق الماضي، وأصداء الموروثات القديمة لأمتنا الصومالية التي قاومت ببسالة، وناضلت بشجاعة، وخاضت كفاحا مريرا من أجل طرد المحتل وأذنابه عن وطننا المعطاء.

وقفت عنب تحت الشجرة الوارفة التي أغصانها المتدلية تظلل ساحة المدرسة وخاصة أمام فصلها الواقع أقصي اليمين بعد الممر الأمامي لفصول المدرسة، وأنتصبت بقامتها الفرعاء على يمين الباب التي كانت الريح تقرعه بدلا منها  تستأذن وتغض طرفها بحياء، أذنت لها الأستاذة بالدخول، فرأت الشحوب يعلو على وجهها وأنعدم الألق على جبنها فقالت: ما بكِ يا عنب؟وما بال نظراتك زائغة وجسمك منهك وخطوات وئيدة؟ لم تنطق بكلمة بل نظرت إلى الأرض وتوشحت بالحياء الأنثوي التقليدي، ولم ترد الأستاذة أن تحرجها فواصلت حديثها عن الصومال وتأريخها وفصول تراثها المجيدة وإن بدت اليوم بلدا لا يملك ماضي مترع بالعراقة والأصالة.
وأثناء حديثها كانت الأستاذة تراقب عنب وتصرفاتها، لم تكن عنب تتحرك بل كانت متجمدة فوق كرسيها كتمثال حزين، نظرت إليها بعينين شرستين وإبتسامة لينة ذات نغمات تحمل في طياتها المعاني. عم الصمت وأدركت الأستاذة أنها أمام حالة خطيرة طرأت على حياة عنب التي كانت شعلة مضئية من النشاط والمرح، وزهرة فواحة يصل عبيرها إلى جميع الطلاب والمدرسين ومن يعيش معها في محيطها البيتي أو المدرسي أو حتى الشارع.

كانت جميلة المحيّا، عذبة الكلمات، راقية التعامل ذات إبتسامة برئية مغرية يجملها غمازة في وجنتيها اللامعتين، وعيون دعج تحن إلى الجمال والضياء وتنفر من الحنادس والظلام وقهر النفوس، وكانت تبادل الإبتسامة بضحكة موغلة في البهاء والسناء، والفكر بالفكر،  والحب بالعشق، والأحترام بتقدير وكرامة، ولم يكن الضجر يوما يتلصص على ثقوب حياتها أو يدخل تفكيرها الراقي.

لم يكن مرض عنب مرضا عضويا أو جسديا أصابها يحتاج أن ترقد فوق أسرة المستشفيات وتخضع إلى التطبيب وتناول العقاقير، بل كان حالة نفسية معقدة نتجت عن الأحاديث الكريهة والحكاوي الحزينة والكلام القاتم والأساطير الحبلى بالموت والمقصص المروية المرعبة الذي كان يتناهى إلى سمعها عندما كان أبوها يتكلم في التلفون المنزلي.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...