الأحد، 15 مارس 2015

مواجع القرية


كانت ليلة شتائية معتمة وباردة، نباح الكلاب تزداد مع ازدياد البرودة. الصدفة وحدها قادت محمود إلى تلك القرية الغريبة حيث مشى مختفيا في دروب كئيبة ممتدة بمحاذات الساحل تضئيها قناديل تومض في العتمة، هموم الحزانى معلقة بين أكواخ تتدلى على التلال الرملية، وساحات ملئية بأخبار الأيام، وجثث القتلى، وهياكل بشرية تقاوم الطبيعة.

القرية صامتة ومبلولة بالمعاناة، والأحياء مكتظة بالسكان، وصيحات الشبان، وبكاء الأطفال الموجع، الحارات لا تفوح عنها سوى الفقر والملامح النابضة بالسمرة والحيرة. هناك وعلى أمام أطلال بيت غيرت الحروب وجهه يقف طفل سمين متسخ الثياب كث الشعر وأصبعه لا تفارق في منخره بطريقة مقززة، وعند الطفل ولكن أمام بيت مطل على المحيط ينام شاب أتعبته الحياة ويطلق شخيرا كصافرات الإنذار قوة وتتابعاً.

وهنا وفوق حصير الألم شيوخ إنحنى الزمن ظهورهم ورسمت السنون تجاعيدا متوازية على وجوههم يلعبون الشطرنج على وقع ألحان بدوية وضوء القمر،  يصخبون ويتعاركون ويصيحون ثم يسكتون وكأن لم يكن!، وعلى بعد أمتار قيلة من ضجة الشيوخ نسوان إمتلأ العوز في جسدهن نحافة حتى ذابت التضاريس واختفت المعالم يثرثرن كعادة حواء، وفي وسط القعدة النسوية التقليدية تحاول إمرأة طويلة وسمينة بعض الشئ تنظيم الجلسة بغير جدوي. أناشيد الأحزان متدفقة في أحياء القرية المقرونة بالعنف والقتل، والجماجم مفروشة في طرقاتها، والمباني العتيقة تجعل القرية أكواما من الرماد والركام.

على غير المألوف  صمدت القرية على وجه الزمن وتغيرات التعرية السياسية وما أكثرها في وطننا!، وبعد أن هجر السكان جميع القرى القريبة لها لم يترك واحد من سكانها الشرسين، القرية الغامضة ظلت لغزا محيرا في نظر الغرباء طيلة عقود أما في نظر سكانها فهي أجمل مدن العالم، لأنها تملك ساحلا خلابا تزينه أشجار النخيل وروابي مطلة على البحر، وطيورا تصدح باستمرار فوق زواهر أغصانها، وعلى بعد عشرين كيلو متر يوجد غابات كثيفة يعيش فيها جميع الحيوانات البرية مما يشكل رافدا سياحيا واعدا.

***
كان حلق محمود جافا وهو يرى عبر أزقات القرية صورة لأزمنة مضت لم يتوقع أن يجدها إلا في الإيقاعات التاريخية للماضي. هاجمه أطياف من التوتر عندما اقترب إلى نهاية القرية المخيفة، وقبل آخر يبت من بيوتها ظهر أمامه شبح لم يتعرف عليه في أول الوهلة لبعد المسافة ولضبابية الأجواء، في عمق الأفكار المتناقضة أصبحت الحياة من حوله مظلمة وقاتمة، وبدأت ضربات القلب تتصاعد، وسرى في جسده موجة من الخوف ورعشة غير مقصودة، وفي عز البرد تصبب العرق من جبينه، ما أطول لحظات الخوف وساعات الحزن! يسيران بتمهل ويظلان يعكفان على صدورنا.

إقترب الشبح أكثر فأكثر، واتضحت ملامحه، إنه (بُرالي) الرجل الذي ملأ الدنيا خوفا وقتلا وتلذا بتعذيب الضحية!، كثيرا ما سمع اسمه المقرون دوما بالدماء والترويع والنهب، سار ذكره بالركبان، وبات حديث السمار، وحكايات الجدات الطاعنات، وغولاً ينام على وقع  خوفه الجميع، مع أنه لا يملك جيوشا جرارة، ولا عربات مصفحة، ولا تكتيكات عسكرية تعجز عنه الآخرين.

رأس ماله الشجاعة والجسارة وعدم التردد، لا يخطر الخوف أبدا في قلبه، يركب في عقله ولا يستمع لقلبه أبدا، ولا يكترث سجلات الماضي ولا الحاضر، متعجرف لأبعد الحدود، مغامر لا يوازن الأشياء، وقاسي لا يعرف الرحمة، في تاريخه السوداء يقال أنه شعر الرحمة في موقف واحد، وكانت حينما أبكت فتات صغيرة كعمر الزهور خافت أن تنهشها الذئاب في جسدها الطري، صرخت على وجوههم تتوسلهم وتطلب منهم الرحمة وتناشدهم وتذكرهم بأخواتهم وكيف شرفها تعادل شرف إخوانهن، وجّهَ شقيهم لكمة أفقدت الفتاة وعيها على الفور.

وفي أثناء غيبوبتها حاول إغتصابها فوجه برالي على صدره رصاصة أردته قتيلاً، وبعدما سأله رفاقه قال: نحن لا نغتصب الأموات فتعجب القوم جميعا لأنه يدرك أن الفتاة تعاني من الغيبوبة وليست ميتة، وبعد برهة من الزمن ذكرهم بالموقف وقال: لا أدري لماذا تذكرت هذه اللحظة أختي الصغيرة التي ماتت في بداية عام 1992م حينما اغتصبها أفراد من الموريان في الضاحية الجنوبية للعاصمة.

كان طويلا نحيفا وجميلاً!، نظراته العدوانية دوما تخرج من عينيه الغائرتين في محاجرهما، شواربه معقوفة إلى الوراء وكأنها تخاطب أصداء السنين أو تشير إلى تعابير وجهه المكفهر دوما وأنفه الطويل وبشرته السمراء، لم يكن يوما ممن يهاب عن القتل وسفك الدماء، والتوغل في الأحراش أو التنقل عبر متاهات الصحاري ومطبات البحار، ولم يخضع لإرادة غيره من الناس في يوم من الأيام، ولم يلق عصى القتل والتخويف والترحال وإن كان عمره تجاوز السنة السابعة بعد العقد الخامس؟.

حياته بطولة مطلقة للعنف والمشاحنات واﻹزدراء واللامبالا قاتلة ومخاطبة الناس وكأنهم ذباب على أرنبة أنفه، وقصصه مرعبة وأحاط حياته هالة من الذعر وحكايات محزنة من القتل الجماعي والسرقة ومصادرة الحقوق والحريات ونشر الفوضي والرعب في قلوب السكان والمواطنين، وقد دأب الهدم والدمار والفوضى، وتمادى في العربدة و لم يستطع أحد ردعه أو تخويفه.


***
الساعة تشير إلى التاسعة مساء بتوقيت شرق إفريقيا، هبت هواء مشحونة بالحزن من الخلاء الشاحب، في تلك اللحظة الحرجة أيقن محمود أن الخوف لا ينجي صاحبه، والرجولة المتوثبة هي التي تترك تاريخا ولو انتهت الحياة في هذا الليل البهيم وعلى هذه التربة السوداء الممزوجة بروائح الدم وفضلات الإنسان والماشية، وأن الجبن يبقى عارا إلى الأبد وإن عاش بعد هذا اليوم عشرات السنين، واجه الرجلَ وهو واثق الخطى ولا يبدو الخوف على ملامحه المتسترة بسواد الليل ورذاذ المطر المتساقط من الأغصان.

في جنح الليل والخوف نظر إلى وجوههم الكالحة، وعيونهم الغامرة في محاجرها، ونظراتهم الزائغة وهم يخزنون القات ويحملون قنينات من المياه الغازية تتحرك تحت إبطهم باستمرار، ملامح ذابت وشوهتها المخدرات، ونضارة ذهبت بفعل الدماء المسفوكة والمحارم المستباحة، وسمرة مشوبة بالسهر والمعاناة، وأثواب بالية وممزقة، ورائحة نتنة كالبالوعات، وخناجر وبنادق وكؤوس غارقة في الأوساخ! إنها اللصوصية بأبهى صورها.

فوق ممر ترابي ضيق ومظلم ومفتوح إلى نافذة الخوف وقف محمود أمام مجموعة من السفاحين ومن بينهم برالي الصامت في حين كان الباقي يصرخون، يرقصون يشربون ويغنون، أغاني افريقيا المترعة بالمرح وطبولها الندية حاضرة في داخل حبال صوتهم المتهدج، مرح وهذيان سريالية وضحكات صافية!، سأل محمود نفسه متحيّراً:  كيف يظهر على هذا الشكل من أرهب الناس وروّع الآمنين؟ الا يشعرون العار والخزي، أين تأنيب الضمير؟، وأين حمرة الخجل؟ وكيف يستمتع بالموسيقى جلّاد؟ لأنها تحتاج إلى قلوب بيضاء نظيفة، ومشاعر شفافة، وأحاسيس صادقة مترعة بالنبل والعطف وملئية بالحنون.

***
وقع على أيديهم أسيراً،  أو قل إن شئت أصبح ضيفا على مواجع الزمان، وقيدوه بالحبال وقادوه إلى قاعدتهم، أسلاك شائكة وفوضى عارمة في كل شئ، ومغارة لصوصية ومناظر مرعبة، وغابة من المتناقضات، وإنسان ترك الآدمية بارادته و تحول إلى حيوان كاسر! هذه مكونات القاعدة العسكرية للصوص.

أصبح صيدا ثمينا للمفترسين، وأحاطه الخوف من كل حدب صوب حينما ذهب نحوه بُرالي وثلاثة من حاشيته، من كل قوته تخلص من خوف ظل يقيده طيلة الدقائق التي كان مكبلا فوق ربوة صغيرة على مدخل كهف مملكة تديرها الجنون وتقودها النرجسية.

نظر إليه وهو يمشي بين الحجارة المتناثرة على الأرض الداكنة بالدماء والأوساخ المتراكمة فسأل برالي بنبرة مليئة بالتعجرف والسادية: من أنت أيها الشقيّ؟ فأجاب محمود على الفور: مجرد عابر سبيل قاده الحظ إلى مملكتكم العامرة رعبا ونتنا وخوفا!، تطاير الغضب من عيونه وهو لم يكمل  كلامه، وصرخ بأعلى صوته أهلا بك أيها الأخ المسكين المتعالي، فقال محمود في قرارة نفسي كيف يوجد كلمة "الأخ" في قاموس برالي؟ وكيف يكون المسكين متعجرفا والسفاح ملكا يسمع صوته ووديعا لا يضر ولا يؤذي؟ لا أدري إن لم تكن من المنطق المعاكس للحياة!

***

بات محمود ليلته مكبلا في القيود الوجدانية قبل القيود الحقيقة، وحده يواجه طوفانا من أقضية الزمان، حاول النوم ولكن أنّى له أن ينام وهو يتقلب على فراش المعاناة والألم النفسي والجسدي، وحياته ركبت على كف عفريت لايحترم الدين، ولايقدس الحياة، ولايراعى القيم، ولا يأبه لأحد، ولايكترث، ولا يخاف، ولا يرعوى، الحياة بالنسبة له أن يفعل لا ما يعرفه اﻹنسان ولا ترشده اﻷديان، وما يمليه ضميره ولو كان ضميرا أنهكته المخدرات وأتعبته الحروب والسهر.

في الصباح الباكر وقبل أن تخرج الطيور من أوكارها جاء بُرالي المرعب بحاشيته،  فوقف فوق ربوة مطلة على البحر تجمع حولها الموريان تظللها ضباب البرودة والدخان المنبعث من الأكواخ المنتشرة على المنطقة، وفي وسط ضجيجهم الصاخب وصيحة المشردين وصوت الرصاص الطائشة إنتصب واقفا وأنفه معلق في الثريا .

قصد محمود  إلى ناحية برالي وهو يريد أن يجرب مدى قوته وعنفه!، وهل اﻷساطير المروية عنه حقيقة أم خيالا تناقلته اﻷجيال واﻷفراد، وقف أمامه مباشرة وفي وجهه ملامح من التعنت وعدم الرضى، وفي وجه برالي نصف إبتسامة خبيثة ومكبوته، مرت لحظات كثيفة غريبة وهو يتحدى هذا الرجل الذي يرتعد فرائص القوم من رؤيته، أراد أن يجاريه وأن يبادل المكر بالدهاء والعجرفة بأنفة العظام، ولكن كان مكر برالي يسبق برآة محمود اﻷصلية ومحاولاته البآئسة بملايين اﻷميال على مقياس مواجع هذا الزمان.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...