الاثنين، 23 مارس 2015

رسالة إلى حبيبتي

حبيبتي الحب في المنفى كئيب ومرعب وموحش، لأن في الغربة لا يوجد سوى أنين قادم من ينابيع قلوبنا التي نهكها الإنتظار  وأتعبها الترقب، وأضناها الشوق، وترانيم حزينة تكتب شاشة الأفق مواجع العشق وحكايات الحب القديمة، وفي الغربة وحدها حبيبتي نذرف دموع المآقي شوقا للأيام الغابرة، ونستأنس زرائب الذكريات والأحلام الغاربة، ونتعلق بالماضي الفخيم لأنه يشكل الومضة الأخيرة للأيام المتألقات، وما تبقى لدينا بعد رحيل من أحببناهم.

وفي عز الحب الذي بات وخزه المؤلم مألوفا لدينامنذ أن أصبحنا أسيرين للتبعثر الجغرافي المصاحب للصوماليين منذ بداية آخر عقد من القرن المنصرم أهرب إلى لحظات الصفاء وليالي الملاح في سجلات حياتنا، فلا أجدها سوى تلك الأيام الحاضنات دفأ وحبا فأردد سقى الله تلك الأيام ما أروعها.

كنتِ أجمل فتاة رأيتها في حياتي ومنذ أن التقينا مازال طيفك يسري في داخلي، وصورتك تهمس في مخيلتي وتبث في نفسي رحيق الحياة، ومازلت أرفل بهناء الماضي والثياب التي كنت ألبسها في مواعيدنا قبل عتمة العشاء في السابعة مساء، وأنا قادم من جنوب الحيّ بعد أمسية كروية أتعبني طول الملعب وأرهقتني الساحرة المستديرة مع الخلّان وأصدقاء المدرسة، في حين كنتِ قادمة من المعهد، أو من صديقة حميمة كنت تثرثرين معها حكايات النسوان التقليدية، وتتحدثان بإتقان يحسد عليكما عن الأعراس، والأفراح، وحفلات المسرات، وعن الموضة أو الأزياء وآخر ما اشترت فلانة من الذهب والثياب، أو عن المدرسة وقصص الحب المتناثرة في فصولها.

أتذكر تفاصيل جلساتنا الملئية بالمرح وهذيان الشباب، والإنسجام التام ، والهدؤ النفسي، وتبادل النظرات التي لا تخطؤها العين، ، كنا نجلس معا نتقاسم أطراف الحب والأحاديث فيمر الوقت وكأنه يلاحق أشياء ليس يدركها،! وعقارب الساعة تطوى الأوقات طيا حينما ننغمس في لذة العشق وأحاديث الهوى!، أما الأوقات العادية فالزمن يزحف وكأنه راكب ظهر سلحفاة مثقلة بأعباء السنين وتراكمات الواقع.

كنا نضحك معا ونحلّ لغز الحب ومتاهات العشق بمزيد من التعلق والإعجاب، كنتِ حياتي وخلاصة عمرى وزهرة فواحة شذاها يعطر أركان جسدي، وكنتِ عشقي الوحيد وأمنيتي، معا قضينا أمتع أيام عمري وشربنا كوؤس الحب أصنافا ونحن في بداية الشباب أو في زمن المراهقة، في ذاك الزمن لم نكن نتوقع أن تنتهي تلك السنة دون أن ندخل في القفص الذهبي معا، ودون أن تتحد الأجساد نشوى مثل ماتحدت الأرواح في العالم اللامرئي، ولكن كانت أرادة الله عكس إرادتنانا.

كانت نبرات صوتك أجمل الألحان وأعذب من عيدان القيان، وأشجى موسيقى سمعته في حياتي، وكانت حبالك الصوتية وأنت تترنمين كلمات الصبا وجمل الغرام رنات وترية ترسلني إلى بهاء النفس والصفاء النادر، وكانت قامتك السمهرية تسحرني، وتغنج الواضح يبهرني، وعيونك الدعج وحواجبك الزج تذكرني بالأبيات القديمة: إن العيون التي بالوصل تضحكني *** هي العيون التي بالهجر تبكيني.

وبعدها تفرقت بنا سبل الحياة، ورمتنا الظروف بعيدا عن أحلامنا، وعلقت تطلعاتنا نحو تأسيس بيت ملؤه الهناء والمحبة والإحترام المتبادل، بيت مثالي أركانه الودّ، وعنوانه الرفق، وشعاره الرحمة، إلى إشعار آخر، وبدّد الواقع المخزى دوما للمحبين الثملين بسكرة الحب ما كنا نرسمه في أروقة الحب ودواوينه الخازنة لأشعار الهجر والوصال،  وتحولت أحاديثنا إلى أشجان،  ولقآتنا إلى ذكريات أيقونية نعزف على وقعها سيمفونية الشوق.
ويدهشني الفراق المرسوم بدقة قدر الله المتناهي!، لم نكن نتوقع أن السفر القريب إلى العاصمة مقديشو في صيف ذاك العام الصاخب بمشاعر الحب وشعار السياسات المصحوب باللافتات والمظاهر الإسلامية يتولد عنه كل هذا البعد وهذه المسافة والفراسخ الزمنية التي أحالت حبنا إلى أحلام، وأحلامنا إلى أمنيات، وأمنياتنا إلى كوابيس لا يطاق، ولم أكن أتوقع أن رحيلك إلى الجنوب الجغرافي سيتولد عنه هذا الألم.

إنطلقتِ جنوبا وانطلقتُ شمالا وتمادينا في البعد والنوى حتى شارفتُ حدود قارتنا الشمالي، وعشت سنوات ملئية بحكايات المنافي في الخرطوم  وعلى رحاب جامعة افريقيا العالمية، كما قضيتُ وقتا ماتعا على ضفاف النيل وحدائق المقرن وساحات السودان عامة وأنا أرفع شعار العودة والترقب الذي هو نوع من العبودية، وصاحبت الأماجد  وزاملت الأكارم في الأحياء والأزقات، ودرست الجيولوجيا وأكلت الفول صدقين الكادحين وشربت الشاى بالكركدي والنعناع، وغردت وحيدا في جزيرة الفراق والحنين، واكتويت نار الغربة والموجات المؤلمة للمشاعر والأحاسيس الوجدانية وأنا  أتوغل في الدروب التي يطول فيها العبور، وأتجول أدغال قارتنا الجميلة بشعبها وبطبيعتها الخلابة.

في حين كنتِ تتوغلين في أحراش افريقيا وتعيشين في أقصى الجنوب وبلاد مانديلا في الكيب الغربية، وتستجممين جبال تيبول وقرص الشمس الدافئ فوق الشواطئ الذهبية وعيون المناجم الذهبية، وتقضى أحلى الأيام قرب المعالم الأثرية والقلاع التاريخية لكيب تاون زهرة المدآئن وموطن العشاق وقبلة السياح، وبعدها طالت الغربة فرجعتُ أنا إلى حيث بدأنا الحب وغرسنا معا شجرته الوارفة، أما أنتِ فمازلت تركبين سفينة الغربة ومازال زورقك السريع يتقلب في عباب أمواج المنافي في داخل بلاد عم سام أمريكا أو بلاد الفرص والأحلام كما يقولون.

 دار الزمن وتوالت الأيام وعز المزار وصعب اللقاء، ولكن كان حبك نبض يردده شراييني، وخيط الحب المقدس لم ينقطع يوما، بل كان حبله قويا يربط نبضات قلبي بأنفاس روحك، ولم يتحمل القلب أن يؤسس للحب منارة غير منارته الأولى، ونسمات الصبا لم تزل تهب من مشارف قلوبنا إلى باقي الجسم الخازنة للذكريات وربما الألم المصاحب للفراق.

الأحد، 15 مارس 2015

مواجع القرية


كانت ليلة شتائية معتمة وباردة، نباح الكلاب تزداد مع ازدياد البرودة. الصدفة وحدها قادت محمود إلى تلك القرية الغريبة حيث مشى مختفيا في دروب كئيبة ممتدة بمحاذات الساحل تضئيها قناديل تومض في العتمة، هموم الحزانى معلقة بين أكواخ تتدلى على التلال الرملية، وساحات ملئية بأخبار الأيام، وجثث القتلى، وهياكل بشرية تقاوم الطبيعة.

القرية صامتة ومبلولة بالمعاناة، والأحياء مكتظة بالسكان، وصيحات الشبان، وبكاء الأطفال الموجع، الحارات لا تفوح عنها سوى الفقر والملامح النابضة بالسمرة والحيرة. هناك وعلى أمام أطلال بيت غيرت الحروب وجهه يقف طفل سمين متسخ الثياب كث الشعر وأصبعه لا تفارق في منخره بطريقة مقززة، وعند الطفل ولكن أمام بيت مطل على المحيط ينام شاب أتعبته الحياة ويطلق شخيرا كصافرات الإنذار قوة وتتابعاً.

وهنا وفوق حصير الألم شيوخ إنحنى الزمن ظهورهم ورسمت السنون تجاعيدا متوازية على وجوههم يلعبون الشطرنج على وقع ألحان بدوية وضوء القمر،  يصخبون ويتعاركون ويصيحون ثم يسكتون وكأن لم يكن!، وعلى بعد أمتار قيلة من ضجة الشيوخ نسوان إمتلأ العوز في جسدهن نحافة حتى ذابت التضاريس واختفت المعالم يثرثرن كعادة حواء، وفي وسط القعدة النسوية التقليدية تحاول إمرأة طويلة وسمينة بعض الشئ تنظيم الجلسة بغير جدوي. أناشيد الأحزان متدفقة في أحياء القرية المقرونة بالعنف والقتل، والجماجم مفروشة في طرقاتها، والمباني العتيقة تجعل القرية أكواما من الرماد والركام.

على غير المألوف  صمدت القرية على وجه الزمن وتغيرات التعرية السياسية وما أكثرها في وطننا!، وبعد أن هجر السكان جميع القرى القريبة لها لم يترك واحد من سكانها الشرسين، القرية الغامضة ظلت لغزا محيرا في نظر الغرباء طيلة عقود أما في نظر سكانها فهي أجمل مدن العالم، لأنها تملك ساحلا خلابا تزينه أشجار النخيل وروابي مطلة على البحر، وطيورا تصدح باستمرار فوق زواهر أغصانها، وعلى بعد عشرين كيلو متر يوجد غابات كثيفة يعيش فيها جميع الحيوانات البرية مما يشكل رافدا سياحيا واعدا.

***
كان حلق محمود جافا وهو يرى عبر أزقات القرية صورة لأزمنة مضت لم يتوقع أن يجدها إلا في الإيقاعات التاريخية للماضي. هاجمه أطياف من التوتر عندما اقترب إلى نهاية القرية المخيفة، وقبل آخر يبت من بيوتها ظهر أمامه شبح لم يتعرف عليه في أول الوهلة لبعد المسافة ولضبابية الأجواء، في عمق الأفكار المتناقضة أصبحت الحياة من حوله مظلمة وقاتمة، وبدأت ضربات القلب تتصاعد، وسرى في جسده موجة من الخوف ورعشة غير مقصودة، وفي عز البرد تصبب العرق من جبينه، ما أطول لحظات الخوف وساعات الحزن! يسيران بتمهل ويظلان يعكفان على صدورنا.

إقترب الشبح أكثر فأكثر، واتضحت ملامحه، إنه (بُرالي) الرجل الذي ملأ الدنيا خوفا وقتلا وتلذا بتعذيب الضحية!، كثيرا ما سمع اسمه المقرون دوما بالدماء والترويع والنهب، سار ذكره بالركبان، وبات حديث السمار، وحكايات الجدات الطاعنات، وغولاً ينام على وقع  خوفه الجميع، مع أنه لا يملك جيوشا جرارة، ولا عربات مصفحة، ولا تكتيكات عسكرية تعجز عنه الآخرين.

رأس ماله الشجاعة والجسارة وعدم التردد، لا يخطر الخوف أبدا في قلبه، يركب في عقله ولا يستمع لقلبه أبدا، ولا يكترث سجلات الماضي ولا الحاضر، متعجرف لأبعد الحدود، مغامر لا يوازن الأشياء، وقاسي لا يعرف الرحمة، في تاريخه السوداء يقال أنه شعر الرحمة في موقف واحد، وكانت حينما أبكت فتات صغيرة كعمر الزهور خافت أن تنهشها الذئاب في جسدها الطري، صرخت على وجوههم تتوسلهم وتطلب منهم الرحمة وتناشدهم وتذكرهم بأخواتهم وكيف شرفها تعادل شرف إخوانهن، وجّهَ شقيهم لكمة أفقدت الفتاة وعيها على الفور.

وفي أثناء غيبوبتها حاول إغتصابها فوجه برالي على صدره رصاصة أردته قتيلاً، وبعدما سأله رفاقه قال: نحن لا نغتصب الأموات فتعجب القوم جميعا لأنه يدرك أن الفتاة تعاني من الغيبوبة وليست ميتة، وبعد برهة من الزمن ذكرهم بالموقف وقال: لا أدري لماذا تذكرت هذه اللحظة أختي الصغيرة التي ماتت في بداية عام 1992م حينما اغتصبها أفراد من الموريان في الضاحية الجنوبية للعاصمة.

كان طويلا نحيفا وجميلاً!، نظراته العدوانية دوما تخرج من عينيه الغائرتين في محاجرهما، شواربه معقوفة إلى الوراء وكأنها تخاطب أصداء السنين أو تشير إلى تعابير وجهه المكفهر دوما وأنفه الطويل وبشرته السمراء، لم يكن يوما ممن يهاب عن القتل وسفك الدماء، والتوغل في الأحراش أو التنقل عبر متاهات الصحاري ومطبات البحار، ولم يخضع لإرادة غيره من الناس في يوم من الأيام، ولم يلق عصى القتل والتخويف والترحال وإن كان عمره تجاوز السنة السابعة بعد العقد الخامس؟.

حياته بطولة مطلقة للعنف والمشاحنات واﻹزدراء واللامبالا قاتلة ومخاطبة الناس وكأنهم ذباب على أرنبة أنفه، وقصصه مرعبة وأحاط حياته هالة من الذعر وحكايات محزنة من القتل الجماعي والسرقة ومصادرة الحقوق والحريات ونشر الفوضي والرعب في قلوب السكان والمواطنين، وقد دأب الهدم والدمار والفوضى، وتمادى في العربدة و لم يستطع أحد ردعه أو تخويفه.

الأربعاء، 11 مارس 2015

صدى الأيام (3)


     ومن الأسرة التي عاشت في جوف اللهب وكانت حياتها بطولة مطلقة للمعاناة  بعد إنهيار الحكومة الصومالية وإنفراط عقد الأمة وبعدما ركب الأمن في كف عفريت أسرة (عَنَبْ) المكونة من خمسة أفراد حياتهم كانت تسير بدفء المحبة وروابط الإحترام المتبادل، ويعيشون حياة الرفاهية والكرامة في حي بونطيري في العاصمة الصومالية مقديشو.

الأسرة العريقة ذات التأريخ الناصع في السياسة الصومالية كان محمد الذي يعيش في إيطاليا منذ ثلاثة سنوات التي ذهب إليها ضمن البعثة العسكرية المرسلة من قبل وزارة الدفاع الصومالية نهاية عام 1987م بكرهم وولدهم المحبب، لأنه جاء بعد فترة طويلة من عدم الإنجاب مرة عليها الأسرة، فكانت ولادته حدثا طال إنتظاره مما جعله مدلل الأسرة وحبيبها بدون منازع.

إجتهد في الدراسة العسكرية ونال معظم الجوائز التشجيعية التي تمنحها المؤسسة العسكرية الإيطالية المدربة والمؤسسة العسكرية الصومالية على السواء، وبعد ثلاثة سنوات من التدريبات الشاقة والدراسة العسكرية المكثفة نظريا وعمليا قارب الإنتهاء والتخرج من الكلية العسكرية في مدينة تورينو في الشمال الإيطالي.

الشوق يحدو محمد والأسرة معا رغم انه رجع إلى الوطن  قبل ستة أشهر وتزوج زميلته في الثانوية هدن أحمد وذهبت معه إلى إيطاليا، وهناك وعلى ضفاف المدن الإيطالية الخلابة يعيشان حياة ملؤها الحب والهناء والتناغم والإنسجام التام، أما اسرته هنا وخاصة أمه حوّاء فهي تعد الدقائق والثواني ولا تستطيع أن تنتظر عودة إبنها ومعانقته، وأن ترى أحفادها وهم يلعبون عندها.
أما عمر فتخرج للتوّ من كلية  الجيولوجيا لجامعة الأمة وأصبح معايدا لنفس الكلية وهو يحاول أن يجد دراسة في الخارج ليتخصص التراكيب الجيولوجية التي أصبحت متعته أثناء الدراسة، كانت الصفائح التكتونية والأخاديد العظمية والتكوينات الصخرية ونشوء الجبال تذهله، ومنتصف أعراف المحيطات وبداية العالم تجعله يتعلق بهذا التخصص الذي يعد بمثابة الطبيب للأرض.

 أما الصغيرة جُباد  التي يعني إسمها الحرية ولدت عام 1977م إبان الحرب الصومالية الإثيوبية أو حرب أوغادين كما اشتهر لاحقا، وكما يبدو على إسمها فهي ولدت مرحلة حساسة من النضال الصومالي المتجدد ضد التجزأة والتفرقة، وإسمها يلخص أشواق الصوماليين في تلك الحقبة للحرية وتوحيد أجزاء الوطن، لقد كان الشعب الصومالي يتنفس الحرية وشرب النضال من أعلى شعرة في مفرقه إلى أخمص قدميه، وشاعت أدبياته بينهم وأحبو المناضلين حتي إشتهر في تلك الحقبة إطلاق المواليد الجدد بأسماء المجاهدين ومن حملو لواء التحرير والملاحم، أو إطلاق الحرية وألقاب الوحدة التي تدل على أن الشعب الصومالي كان متحد الأفكار، متناسق الأشواق والرؤي، قبل أن تنهار دولته وتنهار معها الأخلاقيات والقيم الصومالية النبيلة.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...