السبت، 6 ديسمبر 2014

أحلام طفل لم تتحقق


حب الوطن غريزة إنسانية وعادة بشرية متوارثة منذ فجر التاريخ، وهي جبلة طبيعية أبدعها الخالق في الإنسان ليعيش البشر علي أرض أحبها وتعلق بجمالها، ويضحي من أجلها المهج والأرواح، ويتكاثر عليها ويعيش فوقها بوئام وأمن ومحبة، والشعوب رغم إختلافاتها المتنوعة في العالم إلا أنها مقتنعة بأرضها وعاداتها وتاريخها وتراثها، ولا غرو فهذا ناموس الكون لتسيرة القافلة البشرية إلي منتهاها الطبيعي ولمواصلة الحياة وتكافؤ البشر علي سطح المعمورة.
 
وحب الوطن لا يتولد في الفناء ولا ينشأ من العدم، بل له مسببات ينمي الوطنية في قلب الإنسان، وروافدا يغذي شجرة الوطنية لتكون في قلوبنا  شجرة مثمرة وارفة الظلال، وسواء كانت الروافد مدرسيا، أو أسريا، أو بيئيا، وحتي في المجتمع والكون فهو العنوان الأبرز الذي يغرز قلب الطفل حب الوطن وحب المواطنين واحترام ترابه وتأريخه وتراثه المجيد.

في صغري وكغيرى من أطفال العالم الحالمين بوطن يسع الجميع وتربة يموت من أجلها، كنت أحلم  بوطن يليق بنا ونليق به، وأبني في داخل خيالي الطفلي الطري دولة عملاقة من سراب أعمدتها من تصورات طفل أحب الدولة ولم يراها، وأرسم وطنا بريشة قلبي وأرسل أمنيات من الرماد إلي عنان السماء ، وأكتب بمداد عقلي الطفولي نشيد الوطن الرقراق:
Soomaaliyeey toosoo
Toosoo isku tiirsada ee
Hadba kiina taagdaranee
Taageera waligiinee
Idinkaysu tookhaayoo
Idinkaysu taamaayee
Aadamuhu tacliin barayoo
Waddankiisa taamyeeloo
Sharcigaa isku kiin tolayoo
Luuqadaa tuwaaxid ahoo
Arligiina taaka ahoo
Kuma kala tegeysaan oo
Tiro ari ah oo dhaxalaa
Sideed laydin soo tubayoo
Ninba toban la meel marayoo
Cadowgiin idiin talin oo
Tuldo geel ah oo dhacan baad
Toogasho u badheedhanee
Ma dhulkaas dhanee tegeybaan
Ninna dhagax u tuurayn

وأنسج من قماشي المهترئ علما لدولة رائدة، لم يقدرأن تكون كذالك بفعل البشر، ولكن هكذا أردت أن تكون،
لم أكن طفلا عاديا أنهكته اللعب بالدمي، ولكن كنت أحمل هما أكبر من عمري، وطموحات عالية تعانق الثريا، وكنت في صغري أعتقد -ساذجا- أن بلدي جميل وله أريج يحمل تاريخا ناصعا وماضيا مرصعا بالذهب والبطولات، وله مستقبل مشرق وحاضر جميل، وأن وطني الصومالي ممتد أكثر من مليون كم مربع من القرن الإفريقي وشرق القارة، وأن وطني جميل كجمال أهله وأنيق كأناقة أبنائه، سهوله واسعة وبحاره ممتدة ،وانهره جارية، وخيراته طافحة، وثرواته متعددة، وكنت أردد أن خريطة وطني ليست ما يمليه المستعمر وما رسمته الأيادي الحاقدة والأقلام المتربصة.

ولم أعترف يوما حدوده الوهمية وخريطته المزيفة، بل أعتقد إن خريطة وطنني ممتدة غربا من هضاب هرر ومرتفعات هواش وقمم دردوا، وشرقا إلي المحيط الهندي حيث درة الصومال وجوهرة الشرق (مقديشو) رابضة بشموخ وخيلاء، وخليج عدن حيث تتجلي أصالة المكان وعبق التاريخ في نغال وبوصاصو، ومن أبخ شمالا إلي أدغال افريقيا وخاصة أوكاسي(علي بعد 150كم جنوب قاريسا حاضرة الإقليم الصومالي في كينا)، وكنت أحلم عندما أكبر وتشرق شمس الأمل أن أفطر صباحا من مقديشوا قلب الصومال النابض، وأن أشرب شاي العصرية من بيدوا جنة الصومال وأتلذذ بشرب مائها العذب الزلال ومن نمير معينها الذي لا ينضب، وفي المساء اسافر عبر بلدوين موئل الجمال ومنبت beerlula إلي هرجيسا تلك التحفة الرائعة التي تليق كل الجمال.

وقبل أن يؤذن المؤذن صلاة العشاء أسامر مع رجال شجعان في شاطئ جيبوتي الذهبي عروسة بحر القلزم، وفي الصباح أسافر سائحا إلي جبال هرر الشاهقة وأتنفس هوائها الطلق مع رفاق أحببنا وجمعنا الوطن، وفي الظهيرة أكون ضيفا علي أهل ديردوا حيث التاريخ تتجدد والأجيال تتوارث جودة العلم وجمالية الإنسان وغزارة المعرفة، وفي العَشاء تقف اقدامي فوق تربة جكجكا الحبيبة وبعد جولة قصيرة وشيّقة أكون علي موعد مع مائدة عليها جميع أصناف الطعام ومع كرمهم الحاتمي أخاف التخمة وأن أكون شهيد الشبع ولأول مرة في التاريخ!.

وفي الصباح وقبل أن تغدوا الطيور أركب في القطار السريع إلي كسمايو مرورا بطجحبور وقبردهري وجدي ولوق وبارطيري وأشاهد عبرنافذة القطار صفوف الإبل التي تشرب وكأنها لوحة رسمها فنان مبدع وشتي أصناف الحيوانات وملايين الهكتارات الخضراء المصطفة علي ضفاف نهر جوبا والتي تجعل الصومال البلد الأغني إفريقيا، وقبل أن يصل القطار وجهته يقف في بؤالي ونستمتع بطيبة أهلها وجمال طبيعتها وعذوبة مآئها، وبعدها نستريح بجلب ونرتشف القهوة علي وقع الأغاني الوطنية للقوات المسلحة الصومالية الصادحة من راديو مقديشو:

xoogii dalkaan ahay xubin lagu hirtaan ahay

Xeer ilaaliyaan ahay xog ogaal dhab aan ahay

وقبل منتصف النهار سأكون ضيفا من نوع آخر، وساشوي سمكي الطازج علي ساحل كسمايو المتميز، وأشاهد ثورة الطبيعة في أبهي صورها عند التكايا الطبيعية المفروشة على الروابي المعشبة في dhasheega waamo، وأتجول داخل الغابات العذراء شمال خط الإستواء بدرجة واحدة، وأقطف عنقود العنب وأتلذذ بأكل الباباي والجوافة والليمون وحبات موزنا ذات الجودة العالية، وقبل أن تغيب الشمس ويكون الأفق محمرا كجبين غانية رومية أركب زورقا سريعا إلي الجزر القوسية المنتشرة في المحيط الهندي جنوب كسمايو مرور بكطا وكيونجو إلي كمباني وأدلف من هناك إلي بطاطي وكلبيو، وأغض الطرف عند مروري البنات الساقيات وضفائرهن تتدلي علي ظهورهن المبللة لتزيد سوادا ونعومة عجيبة علي رقتهن وجمالهن الأزلي، وفي هدأة السحر سارقد بسلام فوق سرير وثير في فندق كبير بقاريسا، وهنا أبدأ رحلتي من جديد إلي أم الصومال وعروسة المحيط الهندي وعاصمتنا الحبيبة (مقديشوا).
 
ولكن ماذا حدث!؟، وبعد ربع قرن من أحلامي الطفولية أدركت أن أمنياتي كانت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ومعظم الأمنيات لا تتحقق! أما الوطنية وحب الوطن فتم اغتيالها في رحم أمها ولم يولد، وأماخريطتي الوهمية فتلك قصة لم تكتب بعدوأدركت أن وطني أصغر من هذا الحلم الجميل بكثير، وأن المدن التي طالما حلمت بزيارتها وعشت بتفاصيلها لم تكن كما تصورت، لأني أصبحت أجنبيا أو لاجئيا أو إرهابيا أوغريبا أو صاحب ألقاب وأوصاف شنيعة عند زيارة الأولي لها.

وفي مدن كانت صورها معلقة على جدران قلبي وأركان بيتي إحتجت الجواز والتأشيرة لدخولها! والعيش فوق تربتها ولو ليوم واحد!، وبعد رحلة طويلة من المعاناة وزمن عشت فيه الترقب بتحقيق حلم الطفولة هل أتنازل عن أمنياتي وأقنع نفسي بأرض الواقع واقول أن وطني هو معشار ما كنت أحلم، وأن الباقي ليست لي ولا أنتمي إليها؟ وأن بلادي هي مسقط رأسي فحسب والباقي للأجانب?!؟

أم أتمسك بخيوط الأمل وأردد كادت شمس الإستعمار والظلم والفساد أن تغيب؟

أترك الجواب للقارئ الكريم؟

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...