الاثنين، 1 سبتمبر 2014

الرحيل نحو المجهول 5

رجعت إلي بيتي منشرح الصدر واثق الخطى عالي المزاج، أمتلك آمالا مشفوعة بنصف الحقيقة، ونظرتُ المستقبل من خلال نوافذ الحياة فبدا وكأنه أوراق مبدعة تحت الأضواء، أو نهرا يغذي حدائق قلبي وماء يحيي الأحلام بعد موتها، فاتكأت منارات الذاكرة وتأكدت أن ليل البؤس والشقاء قد ولّي وبغير رجعة، وأن هدية الزمن قد دقّت بابي هذه المرة بقوة و بطرق غير تقليدية، وبما أن شعوري كان لايوصف وأحتاج إلي رفيق أو خليل لم أحظي بوجوده بعد إخترت مكانا جميلا وخاليا عن المكدرات كأزقة البراءة أبث شكواي الأخير فيه وأنسى بداخله الهموم والغموم.

إخترت حديقة كبيرة تشبه ناديا ثقافيا لكثرة مايتردد في رحابها المثقفون والأدباء والكتاب وأهل الفن والرأي، وكأنها ملهمة لأصحاب الفكرة والقلم، فجمالها مبهر أخاذ كالديباج الخسرواني، وأجواؤها خلاب لا يسأمها جليس ولا يملها أنيس بل يجد كل شخص مبتغاه، وبعد وصولي إلي الحديقة التي عزمت أن أدفن فيها إلي الأبد طوفان الأحزان هالني أكاليل الزهور الحمراء وفراشة السواقي التي تزهو في المروج وقد تحررت  عن نكد الحياة وضيق الإنسان، وفي باحتها فاحت رائحة الورود وعبق الشذا وكأنها كرنفال للطبيعة التي يغفوا فيها الجمال وتشع فيها ضفائر مصابيح الضوء ليرتجف الظلام ويحلق النورس في السماء مع وجود أعشاب صارخة الألوان ترتعش وكأنها مزيجا من السخرية والدعابة تسكب الحياة في الطبيعة الأخّاذة.

بحثت زاوية بعيدة عن أعين المارة ولسان الفضوليين، وركنا هادئا لا أتذكر فيه سجل حياتي الماضية الحافلة بالإنكسارات، ولا أشعر فيه الأحزان الصامتة وصوت قطار الزمان العابر إلي الضفة الأخرى للذاكرة، بل يجب أن يكون ركنا مفعما بالروعة والحياة كالسينما المتجولة التي تحرك كوامن الروح وعطر الذكريات النقية، ولا أجد فيه إلا التعامل مع لحظة المناجاة والخواطر الظريفة للحظاة العظيمة في حياتنا، ولا ينقطع فوق كرسيها الخشبي أحلامي الوردية ولا خيالي الخصب، حيث أسبح في فضاء التحيلات البديعة أحلق في ترجيح الأفكار وتنافس الأراء.

وجدت ناحية خالية من البشر سوى زقزقة العصافير وحفيف الأوراق التي تتساقط وهي تبكي وتئن من أجل الفراق، وصوت نشاز لخرير الماء، كانت تشبه رابية تنظر إليّ بشموخ وخيلاء كأنها تتحرش بي وتحثني علي المصاحبة ولو بمنطق الطبيعة الجامد، جلست فوق الكرسي الحشبي فأحسست بفرجة الفرح بعد الضيق، وتذكرت تلك السنوات الضائعات من عمري وامتداد سنوات العناء والنضال، وفي لحظة رفض الزهج والضيق الواضح أن يبرحا من جبيني بسبب طول الفكر، نظرت إلي جنبي فرأيت فتاة كطلعة البدر أوكغرة الربيع لجمالها وبهائها تمرح في عمق البهجة والسعادة أو كهذا أردت أن تكون!.

كانت تركض كالسواقي في الحقول المزهرة وتتنقل علي أحضان الزهور والأشجار الباسقات كالعذارى، وتلعب مع الفراشات مصغية إلي أناشيد يفيض بالإحساس والمشاعر الصادقة، وكأنها في صدد بطولة مطلقة أو كرنفال بهيج يذكي النفس جذوة العشق ويهطل غمائم الحب.

تعبتْ فجلست فوق الأعشاب المزهرة وهي تترنم وتغني ومنهمكة لكتابة شئ كان غامضا عني، في حين يداعب النسيم العليل خصلات شعرها الغجري، أردتُ أن أكسر السكينة العذبة والصمت العميق الذي خيّم علي مشاعري ولكن كانت الفاظي مرتعشة كما المشاعر المرتبكة أمام منصة الإعجاب الواضح، فرمقتني بنظرة رمادية تحمل ألف عتاب ومليون الحكايات مما ضعف حرارة الإستمرار، كان شعرها يتوهج كشرائح الرقيقة الفاحمة، وفي هذه اللحظة وحين بدأ النسيم يعبث خصلات شعرها لتبعث أصواتا سيمفوينية تلهب الحشىا وترسم في وجهها الجميل بسمة ماكرة وربما هالة لم أر روعتها بعد، كأنها لوحة ليوناردو دافنشي "الموناليزا" بدأ قلبي يعزف لحنا بلا وتر وتركتني ألاعب أحلامي في وسط إيقاعات الإعجاب الصاخبة والملوثة أحيانا.
كنت أسير الدهشة الممزوجة بالشوق والحنين وأنا أصغي حفيف خصلاتها كأغنية عميقة تصدح من الأوبرا الناعسة علي ضفاف الفن والجمال. إنطلقت من عيوني  شعورا يفيض بالحب وشذا الألحان كنهر شبيللي الخالد، ونظرات غير مركزة تحمل عظمة الوصال وتباريح الحب، ومن فمي بحر من الإبتسامات تخترق الرموش والجفون، وشكل غنج الفتاة وتبخترها معينا للسعادة لا ينضب ومصدرا لحبوري وإلهامي لساعات كنت أتجول بين رائحة الزهور ومسحة الحب الآسر، لأنها كانت كالكتب المفتوحة أقرؤها علي عجل وأستقي منها الحس الشاعري كالأنغام الشرقية.


قبل منتصف الليل بدقائق غادرت المكان ومعي مجرد إعجاب مقطوع الوصال يلهب القلب، ولم أستطع نسج خيوط الحب ونثر الود كإنتثار العقود، ولكن قضيت وقتا ممتعا مع الضباب اللطيف ورحلت عن الحديقة ومعي حب ملتحف بالمعاناة وذكريات أيقونية ساطعة، فاتجهت إلي بيتي الذي تحول فجأة إلي مكان جميل وجذاب فسبحان مغير الأحوال، النية تصنع العجائب والمزاج الجيد يصنع البهجة ويجعل المحن منحا، وبت هذه الليلة وأنا أعزف علي الأوتار الحساسة للحياة وفي داحلي مشاعر متناقضة، نمت نوما ملئ جفوني وأنا واثق برؤية وجه الحسناء ولو في الأحلام، وأعلل نفسي أن مايخبوا لي القادر أجمل وأحلى.

دارت الأيام دورتها الطبيعية وتحركت عقارب الساعة معلنة بأهم يوم في حياتي، وفي الصباح الباكر لبست أغلي ما أملك من الثياب وتزينت للعرس البهيج وكأني متجه إلي حفلة بهيجة أو إلي عرس جميل. مددت يدي للمرآة فعجبتي أناقتي المفرطة وتسآلت:كيف لا أجد وظيفة مرموقة ومحترمة وأنا علي هذه الهئية الجميلة المتناسقة وأملك شهادات لا يملكها معظم من يتصدرون المجالس، ولكن أعتقد وأدين الله به أن الرزق مقسوم ولا يأتي بالقوة ولا المظهر الخارجي.

دقت ساعة الصفر ووصلنا إلي مكان الموعد ودخلت مكتب الرئاسي للشركة مستفسرا، جلست مقاعد الإنتظار، كانت عقارب الساعة تشير إلي السابعة وعشرة دقائق، قلبي بدأ يرتجف وجسمي يضطرب،! وبعد ربع ساعة من الترقب والإنتظار وصل الجميع إلي المبني الفاخر  للشركة العملاقة، كان إجمالي عدد الحضور 150 شخصا، والعدد المطلوب كان محدد جدا  (50شخصا) ويتم الإختيار بضوابط وقوانين صارمة.
إمتلأت القاعة، وفي تمام الساعة الثامنة والنصف أعلنت اللجنة المخولة لإختيار الموظفين اللوائح المتعبة في إختيار العامل أو الموظف المثالي الذي تريده الشركة حسب ما قالوا، ومن الغريب أن معظم الإختبار في قسمه الأول كان يتعلق بالمظهر الخارجي وكيفية الملبس من البدلة ونوعيتها إلي ربط العنق وساعة اليد والخاتم وتناسقهم مع اللباس الخارجي، والسير عشرة أمتار تقريبا ذهابا وإيابا، وإلي الآن لا أدري ما سر هذا النوعية من الإمتحانات!، ولكن قد تكون أن الأنيق في مظهره المرتب في هيئته والمكتمل في خلقه يستطيع إقناع الناس ويحمل المسؤلية بأكمل وجه غالبا.

في غضون نصف ساعة تضآءل العدد إلي 104 شخصا، ومن حسن الحظ أني كنت من بينهم، وبعد إستراحة قليلة أعلنت اللجنة "يجب علي الحاضرين والسادة المتنافسين أن يذهبوا إلي القاعة رقم "2"، كانت القاعة كبيرة ومستطيلة الشكل، ورغم أن عقارب الساعة تشير إلي العاشرة صباحا كان في القاعة إنارة أعتقد أنها كانت فوق المطلوب، الجدران كانت بيضاء ناصعة البياض كأنها قطعة صوف نقية، والشبابيك والبوابات زجاجية فائقة الجمال، يشعر المرأ فيها الهدؤ وقليلا من الإطمئنان، وفي عتبة بوابة القاعة أعطي كل واحد منا رقما يطابق الأرقام الموجودة في داخل القاعة، أو قل إن شئت رقما للجلوس.

جلست علي الكرسي الذي يحمل رقم 13 علي يمين القاعة قرب البوابة الخلفية وتحت الشباكة الرابعة، الأسئلة كانت مقسمة إلي ثلاثة أقسام، القسم الأول: الذي يمثل نحو 50% كانت مسائل علمية دقيقة تحتاج إلي فهم ودراية تامة ومعرفة كاملة وأخرى أدبية وثقافية شاملة، بأمانة لم يكن صعبا ولم يكن سهلا رغم أنه يميل إلي الصعوبة أكثر منه إلي السهولة.

القسم الثاني كان الأصعب علي الإطلاق إختبار دقيق يتعلق مسائل الذكاء وسرعة البديهة والحضور الذهني والفطنة، ولم يخلو الموقف عنصر المفاجأة والتشويق التي من بينهم مسائل كان يسألها رجل يقف علي مدرج مرتفع بمترين تقريبا، السائل لاينظر إلي الشخص الذي يجب أن يجيب علي السؤال لكنه يذكر علي الأرقام وخاصة إذا كان المرأ المراد منهمكا ومشغولا بحل المسائل ، ولابد أن تكون الإجابة في خمسة ثواني لا أكثر وبدقة فائقة، حقا كانت ممتعة كما كانت مسائل معقدة وألغازا صعبة حتي تحولت السطور المكتوبة إلي ألغاز تحتاج إلي كمبيوتر لحل كلماتها المتقاطعة.

والقسم الأخير الذي يمكن أن نطلق عليه أنه كان أسهل الإختبار كان يتعلق بالأماكن التأريخية والشخصيات البارزة في تأريخ الوطن وبعض المسائل الهامشية، بصراحة كانت محطة الإستراحة في رحلة صعبه وشاقة مع الإختبار، وأعتقد أنهم أرادو أن ننسى معها المتاعب والمتاهات التي قطعناها وخاصة في القسم الثاني من الإختبار ، وبعد ملحمة كتابية ومعرفية دامت أكثر من ثلاثة ساعات متواصله أعلن إنتهاء وقت الإختبار وعندما خرجنا من القاعة وجدنا إعلانا صغيرا كتب فيه " النتيجة سوف تطلع بعد إسبوع وسوف تأتي لكم مكالمة هاتفية من المكتب " ومن نافلة القول أن أقول أن أرقام الهواتف والعناوين الشخصية قمنا بكتابتها سلفاً في اليوم الأول وكان من بين معلومات الإستمارة .

إنقضى الإسبوعان وحان وقت إعلان النتائج أو قل إن شئت وقت صراع معادلة الحياة والنضال من أجل الإحتواء اللمشاعر المزدوجة، مادت الأرض تحت قدمي وأنا أنظر الحركة الدؤبة في الغرف المزدحمة من رؤساء الشركة والصالات التي تعج بالحضور،كلما اقتربنا موعد الإعلان كان دقات القلب تتصاعد وتكثر، ونبضاته تزيد وتتسارع، والأحشاء يتحرك وكأن شئيا باردا قد صب فيه.

بعد لحظات أعلن الفائزون ومن بينهم إسمي فهاجمت عليّ موجة عارمة من الفرحة دخلتني هيستيريا جميلة غصت في خلالها إلي أعماق ماكان في بالي ومثّل أمامي كل أحلامي وكأنها حسية أستطيع ملامستها وتقبيلها،! وفي وسط الأهازيج والصيحات الهيستيرية لشباب لم يعرفوا إلا العطالة في حياتهم إبتسمت ملء الشدقين ورسمت إبتسامة رقيقة علي وجهي المتلألي وجبيني المشرق وهلل معي الفائزون حتي قرأت علي كل جبين سطور الفرح والفخر والإعتزاز بالنبأ المفرح والخبر السار.


فقت من حلمي الجميل وقد أيقنت أنه يجب أن أجتهد لكي لا أفتقد هذه الوظيفة مهما كانت ظروف العمل وقسوت الحياة وصعوبة الإجراءت وقلة الراتب، لأن المرأ يهان عندما يكون عاطلا ولا يجد ما يسد رمقه واكتفى بمراقبة شروق الشمس وغروبها بالإضافة إلي صعوبة العيش في ظل ظروف إقتصادية بالغة القسوة .

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...