الأحد، 1 يونيو 2014

الحلم الضايع3

وعندما رست سفينة العمر علي شاطئ العقد الثالث من عمري كان الوطن منهارا تماما، والشعب تفرق إلي أيدي سبأ،وأدركت أن النسيج الإجتماعي مفكك والفسيفساء المتجانس تآكل وكاد أن ينتهي، والقبائل التي تشكل لوحة زيتية رئعة بل أروع من لوحة موناليزا متناحرة، وأن سرطان المقاطعات قد إجتاح في أوصال جغرافية الوطن، وعندما سبرت غور المجتمع عرفت علي أشياء لم أكن أدريها، الإنسان يترنح تحت عبأ الحروب والصراعات العبثية والفقر المدقع، و الوطن يتلوّي في جوف اللهب، والجموع حائرة، والقوي يقتل الضعيف، والوضيع يملك زمام المبادرة، والوطني مكبّل في الزويا البعيدة والزنزانات الضيقة أو يموت علي الأرصفة الباردة، وأصبح التزويروالنهب والقتل والإغتصاب روتينيا عشنا في خضمه دون وعي وتذكر واللامبالاة قاتلة.

كبرتُ ومعي كبر هذا الوضع المأساوي الذي تمر عليه الأمة، والشخص العنيد الذي كان في داخلي يراقب الوضع عن كثب، وينظر الوقائع بعيون مختلفة وذوق خاص، كرهت النفاق المنتشر في كل مكان والمحسوبية الطافحة حتي أصبحت شعار المرحلة، وأمقتُ الخوف والتبلد الذهني والإدراكي الذي يوجّه المجتمع ويقود الأمة نحو الوصولية البغيضة التي تعني أن الجميع يعمهون في غيّهم ويتقلبون في عالم الفساد والإنحطاط.

في هذا الوضع الحرج وعلي وقع أنغام التحرك لم يجد وسيلة يظهر عن حزنه ومأساته سوى البكاء بعصبية نادرة، ورفع صوته الشروخ الذي لا يصل صداه بين دفّتي البيت، كان متوترا لحظة خروج سعيد من الغرفة الضيقة إلي الممر الرئيس للبيت، شعر أن سمتر يصارع مع السفر، والرحيل وبدون علم والدته يعني له مغامرة غير مضمونة العواقب، ربّت علي كتفه بطريقة موحية فقال: الهجرة والغربة أليمان ولكن الغربة في داخل الوطن والهجرات الداخلية والتشريد الجماعي والقتل المتعمد وتجفيف مناعب الخيرات ومنطق القوة الزائد في الوسط أكثر ألما ويجعل سفرنا نحو المجهول قرارا صائبا وبدون خوف أوجل يا صديقي.

تحرك الموكب المتجه إلي الجنة المفقودة ـ حسب خيالهم الوهمي وهلوستهم ـ الساعة الثانية
ونصف صباحا وفي جنح الظلام  وكنف السواد الذي يغطي كل شئ في عالمنا، تحركت القافلة ومعها تحرك سمتر وهو متدثر بحلمه الجميل: الهجرة إلي أرض الأحلام... إلي أوروبا... إلي الحياة الرغيدة التي تليق بالإنسان ويحقق فيها أحلامه بيسر وسهولة.


شعر بدوخة خفيفة سرعان ما تغيّرت إلي إغماء، إستفاق وعاد وعيه من جديد، المحرك ينفث المياه والسفينة تشق عباب الأمواج بطريقة قوية، إبتعدعن المراسي وعن مرابعه الأولى وذكرياته الطفولية وحنان الأمومة وعطف الجدة وباحت الجامعة والميدان التي شهدت خطوته الأولي، وأختفى البرُّ بكل جماله وآهاته وراء زرقة المياه وبعد الأفق، إذن نحن نركب عباب البحر ولا نعرف ما يخبو لنا القدر،  أنعيش ويكتب لنا أن نصل إلي أوربا وشاطئ السعادة بأن وسلام؟، أم سوف يبتلعنا البحار ويأكلنا حيوانات البحر الفريسة؟، لا أدري ولكن ربي رحيم وقضاؤه سينفذ لامحالة والأعمار بيدالله، تمتم هذه الكلمات وأستسلم للمستقبل بكل تراجيديّته وحكاياته الغامضة.

الفراق المؤثر ونهاية مروعة حزينة وتصورات مخيفة ومآلات ضبابية وشبح الموت المركون في فؤاده أثر في توازنه فمادت الأرض تحت قدميه وسقط  ثانية، ولكن ومن حسن حظه أنه استفاق بسرعة مذهلة وإلا لكان فريسة سهلة للضياع ولتركها الذئاب البشري في عرض البحر وفي هذا الليل الديجور.

لا أحد يتحرك، سكون كبير داخل السفينة كأنهم جثة هامدة، تسمرت العيون في الأفق، صمت رهيب وحضن قوي للذكريات، الجميع جامدون وموحدون مع الألم، الأجساد مرتجفة والقلوب مضطربة والعيون جاحظة ومحملقة من اللاشئ، والوجنات بارزة والنظرات حائرة لايطربهم الكلام ولايهز مشاعرهم الإيقاعات الطويلة للموسيقي التي تصدح من الراديو العتيق للسفينة وكأنهم مردة الجن أو كراسي بلاستيكية غارقة في الظلام، لاصوت يعلو فوق نبض القلوب المتسارع وأسلحة الوجدان الداخلية والترقب لما سيحدث في عالم المفاجآت.
وقبل أن تتوغل السفينة في الأمواج المتلاكمة ألقي سمتر نظرة تفقدية علي وجوه الجميع ،الأجساد نحيلة والنظرات زائغة والبطون ضامرة والأحلام كبيرة والأخطار متعددة والتحديات ماثلة للعيان،جفون ثقيلة وجبين شاحب وسمارة ذابلة في وسط المعاناة، الكل مشغول بما تخبؤه الأيام في طياتها، وما سيحصل في خضم رحلة التيه والضياع، أشفق علي حالتهم ومنظرهم البآئس، ثم قال: لو أنهم وجدو علي ظهر وطنهم  وفي وسط شعبهم ما يستحق الحياة لما تركوا عنه.

جلس سمتر بزاوية خالية من المهاجرين أو من إختارو ركوب الأمواج ومصارعة الأخطار، ورأو أن الوطن عبارة عن نار تلتهم الجميع، وأن تربة الوطن لا تستحق الحياة، طالع الكون من خلال ذاكرته الخربة وتوغلت أعينه لجهة الشمال الموغل في زرقة المياه الصافية، فجأت المشهد يتحول إلي حياة البساطة في عقر دارهم حيث أخته الصغيرة كعادتها تطبخ العشاء، وجدته تصلي وتقرأ أورادها الصباحية بكثير من الأخطاء، أما أمّه فتوزع  الدعاء والإبتسامات الصادقة علي الجيران، كما تمنح عطاء من لا يخشي الفقر علي الفقراء وتواصل الصدقات والطيبة رغم قلة اليد وتواضع الحالة المعيشية للأسرة.
بدأ الحب والتعلق الواضح لأفراد أسرته  يعزف علي الوتر الحساس لسمتر، تذكر حياة أمه وكيف كانت صراع مع سيمفونية الحياة، وتذكر الحب المتدفق من شقيقته وهو في أعتاب الرحلة والمغادرة فكاد الحنين والحب المصاحب بالأنين والتوجع أن يقتله، همس في أذن الزمن مؤنباً أختي هي قرة عيني وحب أمي يشكل نبض يردده شرايني وكان قلبي يتكلم حبها قبل فمي، ولكن ماذا أصنع وقد طفح الكيل وظلمني القريب قبل البعيد؟، وقل لي بربك كيف أواجه الحياة وقد تعودت الفشل الوظيفي رغم نجاحي التعليمي؟.

أخذتْ يد الزمان بعيدا عن أهله ومرابعه، ولكن نيّة الرجوع وشعلة العودة وهو يملك ما يستطيع أن يؤسس عالمه الخاص ويمكنه الخروج من سرادب الفقر والحرمان إلي رحاب الثروة والغناء مازالت تتّقد في جوفه المتعب، ترك البرَّ وهو في سجن من الصمت الرهيب وغبار الصراع الداخلي يلهب أحشائه، غاص في بحر من الدموع وبحيرة من وحل الأماني والآمال، نهره أصدقاؤه المحيّرين بالدموع المتثاقلة في مقلته، ولكن كانت إجابته مزيدا من العبرات ونظرات تحمل معاني الحب والوفاء.

مضت بهم رحلة العمر وتوغل سمتر في عباب البحر، وسرعان ما أسدل الليل ظلامه على الكون وتحول المشهد إلي روعة طبيعية خلابة تزينها الرياح المحملة بنسمات البحر ورذاذ المياه الخفيف، مرّة كان ينظر إلي الأفق وحيث تلامس زرقة السماء بزرقة المحيط الصافية، ومرّة كان يتحملق حول السماء الصافية والنجوم المرصعة في كبدها بأناقة منقطعة النظير وبهندسة ربانيه بديعة، وتارة يجذب أطراف الحديث وبشكل متقطع مع سعيد الذي أصبح أنيسه في رحلة المتاهات.
إنبلج الصبح وأشرقت الأرض بنور ربها بعد ليل بهيم وبعد رحلة إستغرقت ساعات من الوحدة والشجن الصافي وعلي ضيافة المياه، تصعد السفينة علي هامة الأمواج وهدير البحار إلي قيعان المحيط وقعر المياه، تنفّس الجميع الصعداء لإقتراب الهدف والنجاة من حبائل الليل ومن مفاجآته الكثيرة، وفي الساعة السابعة والنصف حان وقت الفطور، ولكن الفطور هنا له معني خاص، لأن الجميع لا يحملون سوى الماء وبعض السندويتشات المتعفنة الجاهزة الذين يسدون رمقهم في عرض البحر.

في كامل اليوم كانت السفينة تسير وتتهادى فوق المحيط وعين الله تكلؤها وترعاها، في منتصف الظهر فتح مصحفه الشريف الذي لا يتركه في الحل وفي الترحال فبدأ يقرأ سورة "هود" وبصوت خاشع مرتل يستشعر عظمة الخالق بواسطة آياته الكونية الكثيرة، تأثّر الركاب المسلمون بصوت سمتر فطلبوا منه أن يكمل الصورة، وبعضهم كانو يرددون الآيات بعد قرآته وبصوت جماعي جميل.

ذهب الصباح وتوالت الساعات ورسم الشفق علي جبين السماء أكاليلا من الورود وباقات من الأزهار المتنوعة، واقتربت السفينة الشراعية إلي قبالة السواحل الإيطالية، وفي بقعة من المحيط خالية من الناس سوى المهاجرين والمتاجرين علي البشر وممن تجردو عن الشعور والإنسانية وانسلخوا عن البشرية والآدمية، ومن أصبح الإنسان عندهم أرقاما تتكلم، لاحس لهم ولا نبض، ورموز تجارية لا تملك أية حقوق، لأن الجشع أعماهم والصلف أرداهم والغرور أصابهم في مقتل، وأحجب عن ضميرهم شفقة الإنسان ورحمة البشر، طلب عنهم مسكّن للألم لأنه كان يشعر صداع رأسي رهيب ودوّارا نجم عن الأعراض الجانبية للسفر، خاصة وأنه يسافر عبر السفينة المرة الأولى في حياته..

المياه متشابهة والأمواج متلاحقة والعلامات معدمة في عرض البحر، ولم يكن هناك ما يعكر صفو الرحلة سوى الذكريات الأيقونية للأهل والأسرة، وطيف الوطن الباهت الذي يمر أمامه بين فينة وأخرى، وأسماء الأتراب والخلّان الذين تركهم هناك وخلف آلأف الأميال والأمتار، وحب يانع داسته المشاعر الجامدة.

زحفت عقارب الساعة إلي الأصيل أو الدقيقة الرابعة وعشرون دقيقة في الساعة الرابعة مساءً من اليوم الثاني للرحلة، تكيّف الجميع الأجواء الجديدة وأرتفعت المعنويات بسبب قرب الساحل الإيطالي، نشأت بين الركاب صداقة وليدة لا تقف علي أقدام قوية وانجلى الشعور المسيطر من الخوف والرهبة، وزاحت غيمة كبيرة علي صدور الجميع، اللغط والصخب والحكايات الطويلة بدأت، والنكات الطائرة إرتفعت من هنا وهناك، وفجأة وفي خضم المرح  إضطربت السفينة وتحركت بشكل عرضي مخيف وكأنها إصطدمت بجسم غريب كاد أن يغرقها وبسرعة البرق، سكتَ الجميع وكأن علي رؤوسهم الطير، حاول الملاحون أن يتفادوا عن هذا الجسم الغريب ولكن لسوء الحظ كانت المياه تتدفق وتدخل في السفينة بشكل سريع أربك الركاب والملاحين.

ساد موجة من الهرج والمرج والصخب علي متن السفينة، الموت يبرز أنيابه الكريهة في كل جانب من السفينة، الكل متعلقون بحبال السفينة أو بأركانها الضعيفة أو ما وقعت اليد عليه، بدأت المياه تغمر السفينة وتنزل تدريجيا وبشكل دراماتيكي ،إرتفع الصخب والدموع وتصاعد البكاء وهنا فر الجميع إلي الله، وكل شخص ما يدين به، فهنا كهل يقرأ الأوراد والذكر وأعصابه متشنجة والعرق يتصبب من جبينه، وهناك فتاة جميلة في عمر الزهور ترفع أكفها إلي السماء وتتضرع إلي الله، وهناك عجوزة مسيحية تطلب النجدة من صليبها المتدلي في عنقها وتبكي بهستيريا، واللادينيون تذرف الدموع عن مقلتهم.

غاصت السفينة تدريجيا وتحقق الجميع الهلاك ونظرو إلي الأفق هناك في إيطاليا وأسطولها ونجدة قد تأتي هناك ولو متأخرا، ومددا إلهيا قد يأتي من اللمبدوزا وخفر السواحل، أو حتي من أسطول الغرب الذي يبحر كل ساعة في البحر الأبيض المتوسط بين الجنوب العربي والشمال الأوروبي.

هطل المطر كأفواه القرب وسآت الأمور كثيرا، وبدأت أسماك القرش والقواقع تحوم حول السفينة التي تشرف علي الغرق، لا يوجد بصيص أمل في النجاة طمر المياه أجزاء السفينة وهرب البحارة بقوارب مطاطية صغيرة كان بحوزتهم،! وتركوا الركاب يواجهون مصيرهم المحتم وبصدور عارية، وحينما أيقن أن الموت قد دان وتعب من السباحة التي لا يتقنها أصلا نظر إلي السماء وترك أمنييته الوحيدة:أيها الراقدون علي أكتاف الأحلام أفيقوا، ويا أيها اللّاهون علي ضفاف الأماني الأرجوانية والطموحات الكاذبة التي تعانق السماء والراحلون إلي دروب المنافي إنتظرو ريثما يصل أخبار الغربة ولوعة الشوق قبل أن يصلكم أنياب الموت في عز المحيط أو عرض البحر أو تخوم الصحراء العتمور، لا يوجد أمامكم سوى رحلة مجهولة العواقب محفوفة بالأخطار سياجها الموت وسبيلها الإهانة ورفيقها الألم والمعاناة.

مضى البطل إلي ربه وهو يلوح يديه وينظر إلي السماء كأنه ينتظر رحمة ربه التي وسعت كل شئ، ولكن تركنا بوصية خالدة وحكمة جميلة تتناقل الأجيال شذاها عبر العصور.


الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...