الثلاثاء، 26 ديسمبر 2023

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

 


بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة الأصدقاء القدامى في مرابع الصبا والطرق التي كنا نلعب بها ونحن صغاراً؛ عدّلا مزاجي وأعطاني طاقة سردية كانت ترتفع كلما ذاب الغسق في العتمة. تحت سدول الدجى كنت أنا وأصدقائي نتحدث عن كدح القلم والهواجس الفكرية، وعن المثقف في زمن الحرب، واتفقنا على أن المثقف كغيره يتأثر على البيئة والواقع المأزوم، وأن في زمن الفوضى تختفي الحقيقة وتضيع البوصلة وتنقلب المعايير والأسس الأخلاقية. وضربنا مثلا كيف دافعت عقول مثقفة وأدمغة نابغة ومتدينون ذوو لحى، عن الحكومة الصومالية التي تخطت كل الحدود، بعد أن سلمت مناضلا صوماليا إلى العدو اللدودّ، وأدرجت جبهة وطنية كافحت من أجل تحرير ملايين الصوماليين في القوائم الإرهابية. لقد حاولوا حجب شمس الخيانة بغربال التطبيل، ولكنهم أخفقوا!

في بحر الليل البهيج وعلى ضفاف نهر الذكريات كان الحديث عن كل شيء ممكنا، فانتقلنا من النقاشات الفكرية والسياسية إلى الموسيقى التي كعادتها" أخذتنا إلى أماكن لا تستطيع الكلمات الوصول إليها" والنص مقتبس من الملحن وصانع موسيقى الأفلام فانجيليس أوديسياس (1943-2022م). بدأنا السهرة بالحديث عن الأبطال المفضلين في الفن الصومالي، ومختارات من الأغاني الكلاسيكية لعمالقة الطرب وملوك الصوت الشجي، وخاصة أغاني الموسيقار الراحل أحمد ياسين دغفير الذي كان يحمل في حباله الصوتية تفردا عجيبا ولمسة شجن ظلت ترافقه في جميع ألبوماته الغنائية، حتى قال محبوه: "إنّ ياسين لا يجيد سوى الشجا والشكوى".

بعد أمسية مليئة بالأنس والحكاوي، غادرت مجلس الأصدقاء وعدتُ إلى البيت وفي بالي أغنية «الشمس والقمر» التي أعادتني إلى بهجة الفن في صومال الستينات والسبعينات. في زاويتي الهادئة كالمعابد وقبل أن أبدأ الكتابة رنّ في أذني ألحان موسيقار الأجيال أحمد إسماعيل حديدي (1928-2020م) الذي غنت له جلّ الأصوات الصومالية أمثال: محمد سليمان تبيع، زينب عجي، هبو نورة، محمود علي برعو، وحسن نور (آر مانتا) وغيرهم من فطاحل الفنانين.

بعيدا عن الفنان الذي اشتهر بعبقرية ألحانه، فالأغاني الصومالية القديمة تصيب مني وترا ملتهبا تثير العواطف وتبعدني ولو لبرهة عن عصر موحل بالخوف والإحباط إلى الحقبة العسكرية (1969-1991م) التي شهدت فيها الساحة الصومالية نهضة فنية حقيقية بعد دعم الدولة للفن والمسرحيات الغنائية، وأسست فرقا موسيقية ساهمت وبشكل واضح انتشار الفن وتغلغله في أوساط المجتمع الصومالي الذي لم يكن يعرف غير الأغاني الدينية والمدائح الإسلامية والفنون الشعبية. ورغم أنها كانت خطوة لا تخلو من تغييب الوعي وإلهاء الشعب المطحون بأغاني رومانسية، وأخرى تمجد الحاكم الذي سخر الفن لمصالحه السياسية، وتغيير البنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع، إلا أنها كانت حقبة أفرزت أغاني هادفة ومسارح قدمت مواهب حقيقية، أما اليوم فجلّه هابط لا يحمل سوي ترنيمة الكراهية وسذاجة التكرار والتعري، والفنان الحالي عنوان للتدهور الأخلاقي والمرحلة الصعبة التي يمر بها الشعب. وهنا لا أدعي بأن الفن القديم كان خال من السلوك غير اللائق، بل كان موجودا، ولكن كانت هوية المجتمع محددة ومحصنا ضد الانحلال، وسليما متماسكا يحفظ منظومة الأخلاق والقيم، بينما المجتمع الحالي أصبح في عصر «القرية الكونية» منبهرا للعادات العابرة للقارات، وخاضعا -لا يقاوم ولا يرفض- للنظم الغربية ونمط تفكيره.

دعم الجنرال الاشتراكي محمد سياد بري للفن لم يأتي من فراغ، بل كان -كغيره من زعماء الأفارقة اليساريين الذين وصلوا إلى سدة الحكم بعد الاستقلال الشكلي للقارة-، يعتقد أن اعتناق الاشتراكية وبث روح الحماسة في نفوس المجتمع عبر الفنّ الغنائي وتوحيد الأهداف والطموحات؛ تخلد اسمه وتبني أمته وتحفظ حكمه، بدل الرأسمالية التي تعمق الانقسامات وتغذي الفوارق الطبقية والفردية وتشجع على الانتخابات وحريّة الأفراد، إضافة إلى أن الاشتراكية تصنع الزعيم الأوحد والرئيس المهاب والقائد الفذ الذي تعشقه الجماهير الظامئة للانتصارات والبطولات، وتلتف حوله الجموع الرامية لرد الاعتبار، وتساهم في تسويقه وكأنه المنقذ الموعود والحبيب المنتظر، وهذا كان ما يصبو إليه جنرال وصل إلى سدة الحكم عن طريق الانقلاب، ويفتقد أسس الشرعية الديمقراطية، ومن هنا ارتأى الجنرال أن إيجاد "الأغنية الملتزمة" -على مذهب سارتر- التي تدعو إلى مساندة الثورة ودعم اليسار، تساهم في ترسيخ حكمه وتعميق رؤيته وتلميع صورته، وهذا ما حقق في السنوات العشر الأولى من الحكم العسكري، إذ انتشرت شعبيته بين الجماهير واختفت النزاعات القبلية، وظهرت مصطلحات جديدة -أو أخذت حيزا كبيرا من الانتشار- كالوطنية والقومية الصومالية وعدم التبعية، وأصبح التغني بأمجاد الماضي وتكريم الرموز الوطنية المناضلة عبر بناء النصب التذكارية والمجسمات، وتوجيه الشعب وتحريضه على تحرير الأقاليم المسلوبة سياسة متبعة.

ومن باب الإنصاف، لم تكن الدولة وحدها من توددت للفن والفنانين، وأغدقت عليهم الأموال والهدايا بسخاء، بل كان تحالفا ثنائيا قائما على أساس المصلحة ومواجهة التحديات الماثلة، فالفن كان يواجه صعوبات عدة ورفضا من مجتمع محافظ يرى المظاهر المصاحبة له انحلالا أخلاقيا وتميعا، فيما كان النظام يمر بمرحلة حرجة من الناحية الشرعية، ورفضا شعبيا بعد اعتناقه للمبادئ الاشتراكية، فتحالفت الألحان بالنياشين، ونتج عن هذا التحالف؛ أشعاراً حماسية وأغاني ثورية وتأليف مسرحيات خالدة.

الثلاثاء، 9 مايو 2023

من مقديشو إلى القاهرة.. وإن طال السفر (3-5)




أما النّدوة التي نظمتها أتيليه العرب للثقافة والفنون في القاهرة (جاليري ضي) وأدارها الشاعر محمد حربي الذي قابلني بوجه احتفالي لمناقشة كتاب «الصومال.. زوايا غير محكية»، إضافة إلى العلاقة التاريخية بين مصر والصومال، وقضايا ثقافية وأدبية أخرى كانت ماتعة بكل المقاييس. كان اليساريّ العتيد وصاحب اللمسة الإنسانية -الذي يعتبر موسوعة في فهمه وعمقه للكفر الشيوعي- يعرف الكثير عن الصومال، وقرأ الكتاب من الجلد إلى الجلد. وفي خضم قراته وقف على دولة الدراويش وقائدها الفذّ والبعد الأدبي لنضالهم. أمّا أنا فقدّمت الكتاب بكثير من الحماسة والامتنان، وذكرتُ أن الاحتلال الأوروبي هزم الدراويش في ميدان المعارك بعد أن استخدم الطيران الحربي، ولكن لم يكسر ارادتهم ولم تخمد ثورتهم، بل انتصرت مبادئها وتحققت بعض أهدافها عندما نالت الصومال استقلالها. وبعد انتهاء الجلسة تجولت في أنحاء معرض الصور فأسعدتني لوحة للفنان التشكيلي الصومالي عبد العزيز بوبي الذي مثّل الصومال في مناسبات عالمية. اللقاءات الثقافية والفضاءات الفكرية كانت تجربة ثرية لصوت يعاني من وجع العزلة الثقافية، وأتاحت لي التعرف على كتاب ومثقفين وأدباء ورسامين وفنّانين من بلاد شتى. ورغم انسجامنا الفكري والحفاوة في الوسط الثقافي إلا إنني كنت أتعرض لإحراج شديد في المجالس والملتقيات بعد رفضي للسيجارة أو الشيشة في حضرة أصدقاء وزملاء لا تفارق السيجارة فمهم بل ويتباهون بها: كانوا يستغربون بأنني لا أدخن ولا أشرب الشيشة؛ ويسألون: "ما بتدخنش خالص يا حسن!؟" كيف تكتب أو تهرب من ملل الكتابة وضغطها وهواجسها والحالة النفسية التي تعتري معظم الكتاب وأنت لا تمارس طقوسها؟ سألني أحدهم باستغراب!

لم يقتصر الإحراج على الدخان فقط بل امتد إلى المجالس الثقافية ذلك أنني كنت ذات يوم في باحة «جاليري ضي» أتحدث مع مسؤولي المعرض عندما أقحمت امرأة تحمل شهادة الدكتوراه في الرسم والفنون الجميلة نفسها في الحوار: "الصومال تقع جغرافيا في الشمال الأفريقي وقريبة لموريتانيا صحيح؟" فانبرى لها المثقف الجسور محمد حربي الذي يخفي وراء ابتسامته الدافئة فكر تنويري وأبوية شديدة: "الصومال تقع في شرق أفريقيا وتتمتع بعضوية جامعة الدول العربية يا دكتورة". وبعد انتهاء الحوار القصير بين حربي وبينها ذكرتْ بفخر زيارتها بدولتين من أفريقيا جنوب الصحراء؛ إثيوبيا وناميبيا! وكيف عادت إلى بيتها سليمة من أمراض وسطو إفريقيا! وكأنها تعيش في جنّة حيث لا فقر ولا سطو ولا سجون؟ تدخلتُ وقلت لها وقد أسائني الموقف: "نحن نعرف مصر عن كل شيء؛ من التاريخ إلى الأدب.. ومن السياسية إلى الفن.. فلماذا لا تعرفين حتى موقع الصومال الجغرافي وأنتِ تحملين لقبا علميا مرموقا؟" فقالت وهي تلتهم سندويتشها: "نحن دولة عظمى، والصومال دولة صغيرة أنهكتها المجاعة ونهشها الحرب، وأنتم مجبرون على التعرف على أم الدنيا!" كان رداً صادما لم أتوقعه من مثقفة تحمل أعلى الشهادات الجامعية! ورغم أنني ابتلعت غصة الحرج إلا أن كلماتها أيقظت جرحا قديما، وذكرتني ببرنامج تلفزيوني تابعته قبل أسبوعين عندما استضاف الأستاذ حسن راتب في برنامجه «شخصيات في حياتي» السياسي المصري ومدير مكتبة الإسكندرية، وسكرتير الرئيس حسني مبارك للمعلومات والمتابعة، د. مصطفى الفقي الذي قال في خضم حديثه عن الرئيس التركي أردوغان الذي زار الصومال في عزّ الجفاف والمجاعة عام 2011م: "ذهب مع امرأته إلى الصومال التي لا يوجد فيها مطعم واحد!" غريب كيف تقهقر المصريون معرفيا وأفلسوا ثقافيا وأصبحوا منغلقين لا يعرفون شيئا عن محيطهم؟

ورغم تغير الأحوال وصعوبة الحياة في ظل التضخم وتدهور قيمة الجنيه أمام الدولار إلا أن الوضع لم يكن قاتما تماماً، بل في شوارع ومكتبات مدينة الألف مئذنة، وصالات معرض القاهرة الدولي، وصفحات المجلّات الرائدة كدت أن أعانق نفسي لفرط البهجة. لقد نُشر في جريدة «أخبار الأدب» المصرية فصلا كاملا من كتابي، وشاركتُ في العدد السنوي لمجلة الأهرام العربي «وصفُ العرب مع 25 كاتباً عربياً رسموا صورة كاملة الأبعاد» وكتبت عن الصومال والصوماليين الذين لم يستسلموا للأمر الواقع، بل صمدوا أمام الصعاب وأنياب الحرب، ولم أنس القرارات الخاطئة والإخفاقات التي أهدرت طاقات وإمكانات كانت تقودنا نحو مستقبل مشرق لو وظف بطريقة صحيحة. إلى جانب المجلّات حفاوة دور النشر (النخبة والنسيم) وترحيب الجمهور، والإقبال الكبير على كتبي في الجناح الصومالي حتى نفدت الكمية المعروضة في النصف الأول من اليوم، كان حدثا حفر في قلبي أخاديد من السعادة. كنت سعيدا بأن الطفل الذي ولد في أعماق البادية وعاش يتيما، واستخدم قوة الكلمة لمواجهة الواقع، وحارب الإحباط بالقلم والحرب بالكتابة، تجاوز حدود اللغة وجغرافية المكان، ووصل صوته إلى أهم مدينة في الشرق الأوسط وربما العالم الثالث برمته.

وعلى ذكر الكتب والمكتبات وبترشيح من أحد الأصدقاء ذهبت ذات مساء إلى مكتبة «تنمية» التي نسيت فيها العالم من حولي. كانت الرفوف مكتظة بكتب العقاد، ونجيب محفوظ، ورجاء النقاش، وطه حسين، والشيخ محمد الغزالي، وجمال الغيطاني، وعبد الرحمن منيف، وباولو كويلو، وآندي ميلر، وألبير كامو، وفيلسوف الحزن والتشاؤم وكاره النساء شوبنهاور، وأخرى كان لهم دور بارز في تحديد وتشكيل ملامحي الفكرية وذائقتي الأدبية، وبعد عدّة ساعات خرجت منها إلى دار الشروق يحركني مزيج من الرغبة والحماسة وحب الكتب. في جناح «وصل حديثاً» كانت رائحة الكتب ممتازة جداً، وكان كتاب الصحفي الراحل محمد أبو الغيط رحمه الله «أنا قادم.. إيها الضوء» الذي صدر قبل أيام من رحيله – بعد معاناة مع السرطان- شامخا تتلقفه أيادي القرّاء. كان الكتاب نشيجا مكتوما لصحفي متألق أيقن الرحيل فواجه الموت بثبات، ورثى نفسه بكتاب مترع بجمال الأسلوب ورشاقة التعبير، وغارق بالحزن وألم مزق أحشاؤه. في المكتبة المعمورة بالكتب وصور عمالقة الفن والأدب؛ كان أمامي مباشرة يوسف إدريس بطلته البهية، وتوفيق الحكيم بعصاه، وملامح تبوح بأسرار عصره، وخيال متعب بأشياء لم يقلها رائد الكتابة المسرحية في الأدب العربي. وبعد أن بددت في الشروق كلما لديّ من مال وأفرغت جيبي من الجنيه ذهبت إلى مدبولي التي أجبرتني باقتراض المال من صديقي طاهر لشراء كتب رائدة في السياسية الأفريقية والاقتصاد اليساري.

بعيدا عن الكتب وقريبا للقاهرة، يممت وجهي ليلة ذات قرس إلى حديقة الأهرام للقاء مع صديقي الروائي أحمد مجدي فرأيت من بعيد وعلى يساري الاهرامات. كانت مبهرة وشامخة في وسط الليل وكأنها جبال راسيات. وبعد ثلاثة أسابيع من تلك الزيارة المليئة بالأنس والحديث عن الفنّ وأنماط الكتابة وطريقة اختيار عناوين الكتب وتصميم الغلاف، ذهبتُ مع إثنين من أعزّ الأصدقاء -عبد الرحمن مصطفى ومهد محمد- إلى الأهرامات التي ظلت لغزاَ يثير العقول، وعبقرية حيرت العلماء وهندسة أدهشت الزوار. لقد شعرت أمام خوفو، وخفرع، ومنقرع؛ الذين صمدوا أمام اختبار الزمن وكأنني سافرتُ عبر التاريخ.

من الأهرامات ذهبتُ رأسا إلى مقهى أم كلثوم في وسط البلد، وجلستُ في زاويتها المفضلة وتحت صورتها وهي ترتدي النظارة السوداء وتحمل في يدها «المنديل الأخضر» الذي كان يجفف العرق من يدها ويخفي رهبتها من الجمهور كما روت التاريخ. كان في بالي كيف تخاف «كوكب الشرق» من الجمهور وهي التي أحيت الحفلات والسهرات وهزّت المسارح بأعمالها الفنيّة، وتربعت على قمّة الغناء العربي بصوتها المتفرد وحنجرتها الذهبية؟ لقد أطربت فاطمة السيّد الجمهور العربي ونثرت السعادة في قلوبهم، وقدمت الأنغام الساحرة والطرب الأصيل في أنحاء العالم.. «أنت عمري».. «الحب كلّه».. «طاب النسيم العليل».. «أراك عصيّ الدمع».. «سهران لوحدي» وغيرهم من الأغاني والتواشيح الدينية التي وحدت العرب من المحيط إلى الخليج.

إلى جانب ذكريات «سيّدة الغناء» العربي ولمسات الحضارة ما زالت القاهرة تحتفظ بمكانتها؛ الأم الرؤوم التي جمعت بين أحضانها العرب بمختلف أقطارهم وانتماءاتهم، ذلك أنني أجلس حاليا وأنا أكتب هذه السطور مع سودانيين حملوا طيبتهم إلى مدينة المعز، إضافة إلى يمنيين ولبنانيين وسوريين تجمعهم المعاناة والهرب من شعارات رنّانة «الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل... النصر للقدس» بينما في الواقع الموت للشعوب التواقة للحريّة والحياة الكريمة، والنصر للمستبدّين. تحدثنا كثيراً عن العالم العربي المليء بالدمار ومآسي السياسة، ومن المفارقات أننا هربنا منها، وفي مجالسنا نستأنس بها ونتحدث عنها!

الثلاثاء، 25 أبريل 2023

من مقديشو إلى القاهرة.. وإن طال السفر (2-5)


في السادس من كانون الأول ديسمبر2022م استيقظت من النوم وحلكة الليل ما زالت في الأفق. كانت هواجس اللقاءات المرتقبة تتسابق في خيالي وأتساءل: ما جدوى المؤتمر؟ هل سيختلف عن المؤتمرات العبثية السابقة؟ هل كلمتنا ستجد صدى مناسبا؟ وكيف سيبدو مبنى جامعة الدول العربية الذي ضمّ يوما ما بين دفتيه زعماء العرب التاريخيين باختلاف مشاربهم ومبادئهم وفلسفة حكمهم؟ على وقع هذه التصورات ذهبنا إلى مقرّ جامعة الدول العربية التي سئمتْ من الأزمة الصومالية، ومن تسوّل وزراء تخرجوا من أكاديمية التفاهة ولا يحملون ذرة من الكرامة، وسفراء لا يعرفون البروتوكول الدبلوماسي، ومندوبين ليسوا محنكين ولا مؤهلين لتمثيل وطن يمر بمنعرج خطير. وبسببهم اقترنت "الصومال" في المحافل الدولية بالمهانة وعدم الجديّة، وكلها إفرازات طبيعية للقهر وخواء الذات، وسلوك يعكس عمق أزمتنا!

في قاعة متوسطة الجمال وفي وسط حضور عربي وأممي تقرأ على تعابير وجوههم عدم الاكتراث كنت أعاني من حرج شديد لدرجة أنني لم أتجرأ على النظر إلى عيون الحاضرين أو جذب أطراف الحديث معهم! إلى متى نقرع الأبواب ونمد أيدينا للغير نطلب منهم المساعدة؟ كنت أشعر بحمرة الخجل ونحن نعرض مأساتنا على دول أقل منا إمكانية من حيث الموارد الطبيعية والموقع الجغرافي وحيوية الشعب، وأمام هيئات تستفيد من مأساتنا. باستثناء الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط وبعض رؤساء البعثات لم تكن الوفود والممثلون معنيين لوقائع المؤتمر، بل كان الكسل واللامبالاة والاشتغال بالهواتف الذكية والمحادثات الجانبية سيد الموقف، وكأن لسان حالهم يقول: "يتكرر الجفاف ومعه تتكرر المجاعة ومناشدة المجتمع الدولي ولا أمل في الوصول إلى حل جذري لشعب غاص في وحول الحرب ومستنقعات الانقسامات، لذا من الأحسن ألا نصدع رؤوسنا بمعضلتهم". ورغم برودة الجوّ العام إلا أن النقاش اتسم ببعض الجدية ولم يخل مسحة من الامتنان وتضخيم المساعدات التي قُدمت للصومال في العقود الأخيرة، واجتهدت المنظمات الدولية التي تأخذ باسم الصومال ملايين الدولارات وتبذره بأجنحة الفنادق الفاخرة والرحلات السياحية في حلب العرب بعد أن جف ضرع الغرب. أما المبعوث الصومالي فقد أشار الكثير في كلمته ودعا الجميع إلى التحرك السريع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.

انتهى المؤتمر بتوصيات لن تنفذ وكلمات لن تصل إلى أذن واعية، وانتهت أيامي في فندق انتركونتيننتال سميراميس وعدتُ إلى الحياة الطبيعية. وقبل أن أنتقل إلى مدينة نصر حيث الطعام الصومالي وصخب الحياة وصديقي زكريا الذي ما زال نديّ الروح صومالي الطابع ذهبت إلى ماسبيرو (الإذاعة والتلفزيون المصري) لمشاركة برنامج «طقوس الإبداع». كانت مقابلتي مع الأستاذ الصحفي خالد منصور تاريخية ذلك أنها كانت الأولى من نوعها في مسيرتي الكتابية بعد سنوات كنت أتحاشى من المقابلة التلفزيونية خشية التلعثم أو التعثر الكلامي. في غيهب الغسق وقفت أمام مبنى ضخم متعدد الأقسام بني في أوج عزّ ثورة ضباط الأحرار (انقلاب 23 يوليو) ولقب باسم العالم الفرنسي جاستون ماسبيرو. كان حديثي مع الصحفي - الذي فاجأني بعد المقابلة بأنه كان يعتقد أنني لا أجيد التحدث باللغة العربية بسبب قلّة كلامي وتحفظي في الحوار والدردشة على الماسنجر- يدور حول كتاب «الصومال.. زوايا غير محكية» الذي أبهر كل من قرأه من المصريين والعرب حتى قالوا عنه: «يحمل مراثي الصومال وملامح كسمايو". وأعتقد أن السبب ليس في قوة محتواه أو أناقة أسلوبه رغم أني بذلت قصارى جهدي بقدر ما هو أن القارئ العربي لا يعرف شيئا يذكر عن الصومال التي ابتعدت عن المسار العربي في العقود الأخيرة، وبالتالي كل ما يتعلق بهذا البلد المنسي يعتبر ثروة لا يمكن التفريط فيها. في البداية كنت متوتراً وكنت أخاف أن أقع ضحية للهلع الذي يعتري الإنسان في مثل هذه المواقف، ولكن مرّ الموقف بسلام، وخرجت الكلمات من فمي بسلاسة وأريحية غير متوقعة. لقد تحدثت عن صومال الأمل والتحدي.. صومال الشعر والأدب والقوافي والنضال والرقصات الجميلة.. الصومال التي ترفض أن تحل الظلامية واللصوصية محل الجمال والإبداع.

في القاهرة لم أكن حبيس العزلة ولا بعيداً عن نبض الشارع وندوات المثقفين وزحمة الأسواق ودهشة التاريخ، بل وطدت علاقتي بكتاب ومثقفين من شتي الأقطار الأفريقية والعربية وانخرطت في الحياة الثقافية. في الندوة الأولى في الصالون الأفريفي بالتعاون مع الاتحاد العام للطبلة الأفارقة بمصر تحدثنا عن حقيقة الهوية الإفريقية والانتماء، ومن هو الأفريقي في زمن السيولة؟ وهل البشرة السوداء مقياسا للأفريقانية؟ إذا كانت الإجابة بنعم فكيف يمكن للبرازيلي الأسمر والجامايكي أو الزنجي الأمريكي أن يكون أفريقيا رغم بعد المسافات واختلاف الثقافات؟ بينما المصري والجزائري والمغربي ليسوا أفارقة وهم يعيشون في أفريقيا؟ هل المعيار هو الجغرافيا والمكان؟ إذا كانت الإجابة بنعم فكيف لمارغوس غارفي ألا يكون أفريقيا؟ وهل التمسك بالهوية الأفريقية تعني عدم مواكبة العالم والتقوقع في محارات الذات؟ وكيف نوازن الهويات المتعددة؟ كان نقاشا مستفيضاً خاصة وأن الحضور كانوا نخبة مثقفة تحمل الهمّ والانتماء، وتدرك أن قارة المستقبل أمام مفترق الطرق، وأنها تفتقر إلى قيادة ذات كاريزما بعد جيل الاستقلال الذي حاول بناء هوية افريقية جامعة وعاش مع حلم التحرير وتوحيد أفريقيا. في القاعة التاريخية التي مرّ عليها عمالقة القارة التقيت بجيل شاب اعتنق البان آفريكانيزم حتى النخاع، ويسعى بعزم وإصرار نحو أفريقيا الموحدة والمحررة من التبعية.

السبت، 15 أبريل 2023

من مقديشو إلى القاهرة .. وإن طال السفر (1-5)




كنتُ منغمسا في القراءة في وسط غرفة مطلة على أطلال الكاتدرائية الكاثوليكية القديمة في حيّ حمرويني في مقديشو عندما اتصل عليّ المبعوث الرئاسي الخاص للشؤن الإنسانية والجفاف عبد الرحمن عبد الشكور يخبرني بأننا سنسافر إلى جمهورية مصر العربية لمشاركة «مؤتمر جامعة الدول العربية والأمم المتحدة حول الجفاف والأمن الغذائي في الصومال». على جناح السرعة جهزت نفسي للسفر ورافقت المبعوث -الذي منذ أن تولى مهمّة لفت انتباه المجتمع الدولي للجفاف الحاد اختارني ضمن فريق عمله- إلى القاهرة؛ جوهرة الشرق وقبلة المفكرين والأدباء. في مكتب المبعوث الذي كان يعج بالحركة والعمل الجاد، كنتُ مسؤولا عن الملف العربي الذي كانت الحكومة الصومالية تعوّل عليه بعد انشغال الجهات الغربية المانحة بالأزمة الأوكرانية وتراجع أداء اقتصاداتهم.
كغيري من الصوماليين كنت أبحث عن مهرب من حياة محاطة بالخوف، ومدينة تفتقر إلى كيمياء الحياة السعيدة، وتتسابق فيها البنايات الشاهقة وركام الحرب والعشوائيات مما جعلها غير متناسقة. وفوق هذا كله سأبتعد ولو مؤقتاً عن المتاريس والطرق المغلقة على الدوام والرعب الناجم عن إطلاق الرصاص العشوائي يوميا في مدخل مقر محافظة بنادر الذي لا يبعد عن شقتي سوى أمتار قليلة. بعد كل إطلاق مكثف للنار كان الألم يجتاح أضلعي فأطلّ بعنقي بطريقة اللاإرادية من النافذة لأقيّم الوضع بعينين حزينتين وقلب يخفق بشدّة. أجول ببصري حول طريق غارق بمليشيات معفرة بالبؤس وتوك توك (Auto rickshaw) تنتظر الركاب، وملامح لا تبالي ولا تكسوها الخوف. الحياة تسير بوتيرتها الاعتيادية، والمارّة تضحك ولا تهتم بهدير البنادق وكأنها تتلذذ بموسيقى البيكا، وأنغام الدوشكا، وألحان آي كي 47، والعزف على وتر المسدسات.
"لا شيء يدعو إلى القلق يا حسن.. مجرّد حراسة أمنية تطلق الرصاص على الهواء لكي تفسح الطريق أمام سيّارة مسؤول عالقة في الزحمة" يقول صاحب الشقة؛ وهو يتابع التفاهات السياسة، ويتصفح غثاء المواقع الالكترونية الصومالية بنهم ستيني عاد لتوّه من الغربة ويمني النفس بحياة مستقرّة في خريف العمر.

في زيارتي الأولى لمصر عام 2017م كنتُ هاربا من العزلة الثقافية، وسائحا يحدوه الشوق إلى زيارة معالم القاهرة وآثارها الفرعونية ولمساتها الرومانية ومعمارها الإسلامي،‬‬ وبعد 5 سنوات ها أنا أسافر إليها من جديد ولكن بمهمة رسمية وآمال عريضة؛ لفت أنظار أشقائنا العرب إلى الصومال التي -إلى جانب الحرب الأهلية- تزخر بالثروات الطبيعية، وإمكانات استثمارية هائلة. ورغم أن العرب لم تغب يوما عن الصومال إلا أننا كنّا نحمل تصوراً جديدا لحل الأزمة الإنسانية المتكرر في بلادنا: "الإغاثة والمساعدات الإنسانية بعد كل موجة جفاف -رغم أهميتها- لا تعزز قدرة الشعب على الصمود أمام الكوارث الطبيعية، بل ستساهم في تعزيز الكسل والاتكالية. والشعب الصومالي في أمسّ الحاجة لمشاريع انمائية واستثمار عربي على القطاعات الاقتصادية الواعدة والخالية من التنافس. الاستثمار العربي للصومال ليس حلاً جذريا لها فحسب، بل سيكون حلاً للوطن العربي - برمته- الذي يواجه تحديات مستقبلية لعل أبرزها «انعدام الأمن الغذائي».

مستسلما لأفكاري ومتاهة الليل وصلت إلى المطار. كان مزاجي مكتئبا وأنا أضع رجلي على سلّم الطائرة بسبب تداعى ذكريات الطائرة المصرية التي تحطمت فوق البحر الأبيض المتوسط عام 2016م. أقلعت طائرة بوينج 737-800التابعة لــ «مصر للطيران» ولساني يلهج بــــ {يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف} وحلّقت فوق «مدينة يجد فيها المرء أحلامه» بعتبير كارين بلكسين. في المقاعد الأمامية جاورت مع ممثل مصري صوّر مشاهدا من مسلسله القادم في المحافظة الساحلية الكينية. كان سعيداً بدوره كضابط شرطة يتحاشاه الجميع، ويعاني من رهاب الطائرة، وطيلة الساعات الأولى من الرحلة كنت أبدد مخاوفه بالحديث عن الأحداث العالمية، وعن كرّة القدم ومحمد صلاح، وعن الأفلام والكتب، ومفكرين مصريين صنعوا المجد الثقافي لبلده، ورغم أنه لم يكن متضلعا في الشأن الثقافي إلا أنه استأنس بالحديث معي، وحدثني بدوره عن الاعتبار الذي وجده في الفن ولم يجده في الحياة الحقيقية.

في وسط أجانب يتهامسون ومصريين يبدو على ملامحهم سعادة العودة إلى وطنهم كان صومالي في ميعة الصبا ويتحدث الإنجليزية مثل ريموند ردينغتون (جيمس سبيدر) في مسلسل «القائمة السوداء»، محاطاً بفتيات شقراوات يغنين ويضحكن باستمرار، بينما كنت وحيداً في ركن قصيّ من الطائرة أقرأ الثورة الساندينية ومذكرات الشاعرة النيكاراغوية جيوكوندا بيلي «بلدي تحت جلدي». ورغم الدور البطولي الذي كان يمثله (في نظره) إلا أنني شعرت بالشفقة تجاهه. كان ضحية من ضحايا الحرب الذي دمّر صومالية الصومالي، وشوه شخصيته واغتال قيمه وبنيته الاجتماعية، وهذا ما يريده الغرب الذي فتح أبوابه للصوماليين الهاربين من جحيم الصراعات العبثية؛ صناعة صومالي يتقن نحت أفكار الغرب، ولا يعرف من الإسلام إلا الشعارات. وهنا لا ألوم الشعب الذي عاش وما زال يمارس حياة لا جودة لها بين مطرقة زعماء الحرب وسندان التطرف الذين لم يتركوا لهم أي خيار آخر. في الغرب ليس هذا الشاب الذي يرتدي ويتزين بأقراط الأذن مجرد مهاجر يعاني من أزمة الهوية وعدم قبول المجتمع فحسب، بل هو أسود مسلم وصومالي أيضاً، ومن الممكن أن الهزيمة النفسية ورحلة البحث عن الذات أبعدته عن تقاليده ولم تشفع له أمام أصحاب «تفوق العرق الأبيض». ولولا المرأة الصومالية المسنّة والمحجبة، والملامح التي لا تختفي لما عرفت بسبب مظهره وجسمه المغطى بالوشوم والرسوم والبعيد عن الذائقة الصومالية.

بعد رحلة استمرّت 5 ساعات إلا قليلاً حلّقت الطائرة فوق النّيل المهيب الذي شكّل هوية مصر ونهضتها عبر التاريخ، وأفردت جناحيها فوق مدينة متوهجة على كتف «النهر الخالد» وأفكاري تتحدث إليّ. هل كلمتنا ستعكس على حدّة الجفاف الذي تركناه وراءنا؟ هل مخرجات المؤتمر سيساهم في إنقاذ شعبي من الانزلاق نحو المجاعة؟ كان رأسي ملئ بالاجتماعات المرتقبة والمآلات الممكنة عندما لامست عجلة الطائرة على مطار القاهرة الدولي. استقبلتني صالة الوصول بآية من الذكر الحكيم: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقابلتها بذراعي مفردة على اتساعهما. مزهواً بسلامة الوصول ومستغربا بشحوب المطار مقارنة بأقرانه من الدول العربية وحتى الأفريقية وقفت أمام شرطي الجوازات الذي الصق جوازي بشاشته الآلية، وبعد إمعان وقراءة متأنية للاسم والتعمق في تفاصيل الوجه طلب مني أن أنتظر وراء الحاجز الزجاجي ريثما يعود لأن اسمي مدرج على القائمة الحمراء! سألت باستغراب: "لماذا اسمي مدرج في القائمة الحمراء ولم أقترف جرما؟" فردّ عليّ: "مهلاً يا حسن! أما تعرف أن نصف المصريين يحملون اسم حسن، والسلطات القضائية تلاحق الكثير منهم، إضافة إلى أن بلدك يعاني من سطوة التطرف؟" وقفت في ركن قصي من المبنى أنتظر قرار الشرطي الذي لم يعاملني كإرهابي محتمل، بل كبريء حتى تثبت إدانتي، وهذا لو تعلمون عظيم في مثل هذه المواقف. أمرني شرطي آخر بأن أتبع صديقه الذي يحمل على يده اليمنى جوازي واليسرى جهاز اللاسلكي، فذهبت أقتفي أثره حتى وصلنا إلى كابينة فيها ضابط رفيع المستوى -وفي منتصف العقد الخامس من عمره تقريبا- قابلني بوجه سعيد وابتسامة تعكس طيبته. قلّب الضابط صفحات الجواز وسأل صديقه دون أن ينظر إلى ملامحي: "هل هو صومالي؟" فأجاب بنعم. فقال له: "أعط جوازه.. مجرّد تشابه في الأسماء ليس إلّا.. أهلا بك يا حسن.. نوّرت مصر". غادرتُ المبنى ولساني يردد: نوّر الله قلبك بالإيمان يا رئيس.

خرجت من المطار مثقلا بالبحث عن إجابة مقنعة للتوقيف المتكرر. في باحة المطار وفي وسط شتاء أرخي بظلاله على الشارع لمحت صديقي عبد الفتاح طاهر عِلمي يلوح بيديه من بعيد. ذهبتُ مع عبد الفتاح الذي شاركت في حفل زفافه في الأسبوع الأخير من شهر يناير 2023م إلى فندق انتركونتيننتال سميراميس ونحن نتحدث عن أشياء كثيرة.. عن الكتابة والمنافي التي تهدّ نضارة الجسد، وعن تفاهة مواقع التواصل الاجتماعي والوعي الزائف، ولم ننس عن حثالة متطرفة تسيطر على مفاصل الوطن، وشعب يتشبث على الحياة ويبحث عن معناها. وفي خضمّ حديثنا أشدنا بالحملة العسكرية ضد حركة الشباب واتفقنا على أن وحشيتها ورفضها لكافة الحلول أعطى الشعب حافزاً للمقاومة وزرع في نفسه روح التحدّي والتمرد، وأنها (إي الحركة) فقدت جزءا كبيرا من هيبتها وقوتها، ليست لأنها انهارت عسكريا أو أفلست اقتصاديا، بل لأن الشعب تحرر من الكبت، ولم يعد يخاف من بطش حركة تجيد ثقافة الخوف، ونهب الأراضي وفرض الاتاوات. لقد بدأت حناجر لا تصمت تهتف ضد التوحش، وتدعوا إلى الحرية والسلام.

الأربعاء، 3 أغسطس 2022

الحرب .. والبحث عن الذات (٢)



في منتصف سبتمبر وفي أجواء يسودها الترقب واللايقين عاشها الصوماليون بعد سيطرة المحاكم الإسلامية على العاصمة سافرت برّاً نحو الشرق البعيد. كانت الطرق التي يعتبر «أساس الحضارة» منهارة ومليئة بحفر ومطبات ومليشيات مسلّحة وقطاع الطرق. في هدوء الصباح توغلنا في قرى محاذية لنهر شبيللي حتى وصلنا في قرّ الظهيرة إلى مدينة بولو بوردي الوادعة على ضفاف نهر يعتبر الشريان الرئيس للصوماليين زراعياً.


على مشارف غراتسياني وفي أحضان جبال هيران كانت شمس أيلول تحرق الأرض وتجعل السيارة اليابانية قطعة من حديد ساخن. ورغم الخوف ووعورة الطريق إلا أن الأيام الثلاثة التي قضيتها في السفر بين مقديشو وبوصاصو تنعمت بلحظات هانئة وأصابني فرح طفولي وأنا أجوب وهاد الأغاني وآفاق الشعر مع شاب يقرأ الأدب الصومالي بحماسة مفرطة ويهيم في أودية القصائد الكلاسيكية والسلاسل الشعرية الهجائية مثل غُوبا وهَامِي ورَيَّدْ وديلّي (القصيدة الدالية) وغيرهم من عيون الشعر الصومالي.

وصلنا إلى مدينة غالكعيو التي كانت مقسّمة – على أساس القبيلة - إلى شمال وجنوب - كان الجنوب عالقاً على هامش المدينة في حين كان الشمال نابضا بالحياة والعمران وإن كانت بقايا الحروب وندبات الصراعات بادية على ملامحه! استغربت، كيف يمكن لمدينة واحدة أن تكون مختلفة إلى هذا الحدّ؟ كنت أتضور جوعاً فذهبت مع الشاعر العبقري إلى مطعم لا يبعد كثيراً عن سوق الخضار والفواكه. بخلاف التوقعات كان المطعم الذي أكلنا فيه أرزا سيئا بالمقاييس الصومالية مليئا بالزبائن ويعج بأطعمة محلية مختلفة، وفي زاوية بعيدة منه كان الجميع يصغي باهتمام حكاية مسنّ كان يحمل وجها فيما مضى وقبل أن تعبث عليه عاديات الزمن جميلاً ويتحدث عن وصول طلائع قوات المحاكم الإسلامية إلى كسمايو. كان يقول بصوت مرتفع: " لقد سيطر جناح رأس كامبوني على مدينة كسمايو وهرب زعيم الحرب برّي هيرالي إلى الأدغال ومن ثمّ إلى إقليم غدو ومنها إلى أوغادين المحتلّة". لم يتأخر الخبر كثيراً بل سرعان ما انتشر في وسائل الإعلام المحليّة والعالمية، وبعد دقائق قرأته في الشريط الإخباري (السبتايتل) لقناة الجزيرة التي كانت مصدرا مهما من مصادر الخبر في عموم الصومال قبل أن تظهر القنوات المحلية والمواقع الإلكترونية، والشبكات الاجتماعية. كنت سعيداً بسيطرة المحاكم على إقليم جوبا السفلى وانتهاء ليالي زعماء الحرب وحزينا بالرحلة الطويلة التي كانت تنتظرني.

أخيرا وبعد رحلة طويلة قطعت خلالها مئات الأميال وصلت إلى بوصاصو في يوم قائظ أجبرني الحرّ على احتماء كش صغير لا يقي لهيب الشمس. كان الجوّ يفيض ظمأ وجسدي يحتاج إلى تبريد.. ترى هل سأصمد أم سأسقط مغشيا عليّ من شدة الحرّ؟ ومن العجائب أنني كنت في العشرين من عمري وقارئاً جيداً ملمّا بالجغرافيا ورغم ذلك لم أكن أعرف مناخ وطني وطقس مدنه المطلّة على بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر! فور وصولي بدأت بجمع الأخبار والاستعداد إلى اليمن، وقبل شروع الرحلة، اتصلت بأمي للوداع ولكنها رفضت فكرة الذهاب إلى اليمن ولابد أن موجات الهاربين من الصومال إلى الجزيرة العربية والسفن الغارقة في عرض البحار وقصص الذين ابتلعتهم المحيطات ترك في نفسها كثيراً من المخاوف. 

لم أكن أملك حق الرفض ولا إبداء رأي مغاير لأم عصامية تعبت من أجل تربية ستة أيتام لا يملكون المال ولا الجاه فتنازلت عن حلمي مؤقتاً ولم أجد بدّاً من أن أعيش في بندر قاسم وأن أبحث عن فرصة عمل. لم تطل فترة الانتظار بل وجدت وظيفة أجني منها دخلا شهريا مغريا بمقاييس ذاك الزمن وفي بلد مثل الصومال إضافة إلى عمري والظروف المحيطة بي، وأصبحت معلماً لأطفال مشاغبين وثرثارين مقارنة بأطفال الجنوب ومراهقين جريئين.

في بندر قاسم كنت سعيدا في اكتشاف الحياة والاستقلال المادي، وعشت فيها أياماً لا أنساها أبداً ذلك أنها كانت المدينة الأولى التي أتاحت لي أن أعيل نفسي دون أن أعتمد على أحد. ورغم ذلك كنت بعيداً عن ذكرياتي ومللت من روتينية الحياة وعانقت ألواناً من الوحدة وأصبحت المدينة صعبة الاحتمال على مرّ الأيام وعدت إلى كسمايو بعد أن فاض بي الحنين. لقد خرجت من بندر قاسم بروح صلبة وشخصية مختلفة واختفت - وربما إلى الأبد - الجدّية في التعليم ونظر الحياة بمنظور واحد؛ منظور التميز العلمي والتفوق الأكاديمي والاستمتاع باحتلال اسمي في صدارة الجدول، إلى حياة أرحب ونظرة أشمل، ثم ذهبت إلى السودان وإلى جامعة افريقيا العالمية وخضتُ غمار المنافي وأمواج المعرفة. وتلك قصة أخرى.

الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

الحروب.. والبحث عن الذات (١)



في شهر تموز عام 2006م وبعد تخرجي من الثانوية العامة سافرت إلى حمر التي كانت مدينة حقيقية مقارنة بكسمايو، وفي سط رمال الحروب السائبة التحقت بجامعة مقديشو المحسوبة على حركة الإصلاح التي تمثل «الإخوان المسلمين» في الصومال. كانت الجامعة مناسبة لشخصيتي واهتماماتي ولكنها لم ترق لخالي الذي تولّى رعايتي وتعليمي بعد رحيل والدي باعتبارات فكرية وحركية. كان خالي العزيز أطال الله عمره -الذي كان رمزا من رموز التيار السلفي- يرى في ذلك الوقت أن الإخوان المسلمين بعيدون عن النهج الصحيح وفكرهم يتّسم «بالميوعة» والتساهل في «آفة الاختلاط». ورغم خلفيتي الأسرية والوسط الفكري الذي نشأت فيه إلا أنني لم أكن أحمل أي اهتمام لأفكار التيارات المتنوعة والحركات الإسلامية المتصارعة في بلدي، بل كنت أرى أنها حركات متشابهة وجماعات تتنافس على مسرح العبث. كنت مجرّد شاب تحدوه المعرفة ويريد الالتحاق بجامعة تمتاز بجودة التعليم والنشاط الطلابي والنقاش الفكري وهذا ما لمسته في جامعة مقديشو التي كانت حياتها الثقافية مرضية بخلاف الجامعة الإسلامية بمقديشو التي لم تثر في نفسي أي حماس.

تحت الحاح خالي وبعد أسبوعين فقط من التحاقي بجامعة مقديشو تحولتُ إلى الجامعة الإسلامية. وإن أنسَ لا أنْس يومي الأول بأسوارها، أتذكر وكأنها كانت بالأمس القريب. كان صباحا مشرقا من صباحات آب عندما دخلت مبنى الجامعة الذي يقع في ناحية تليح. بدت الجامعة من خلال عيون شاب يريد التحدّي واكتشاف الحياة والغوص في أعماق الثقافة والنشاطات الطلابية وكأنها خامدة وبعيدة عن الأجواء المرسومة في ذهني. كان التجانس واضحا في كل ركن من أركانها حتى ظهرتُ من بينهم غريبا لا يمت للجامعة ولا الجماعة بصلة. وكان أول ما لفت نظري هو أن عمر معظم الموجودين في الحرم الجامعي فوق الأربعين والشيب قد تخلل في لحاهم! رجال حليقي الشوارب كث اللحى يبدوا الوقار على جبينهم! الطلاب دون الثلاثين قليلون جدا ولا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، أما العنصر النسائي فشبه معدوم وهذه وحدها كفيلة بالانسحاب عن الجامعة. دخلت في وسط جموع تتحدث عن السياسة والحروب ويصغون إلى رجل كان يفرض سحراً هادئاً عليهم، استمعت إليه وهو يتحدث بشغف واضح عن المعارك الضارية التي انتهت قبل شهر ودحر تحالف «مكافحة الإرهاب» رغم جبروتهم وطغيانهم وقوتهم العسكرية. كان الحضور يتفاعل مع وتيرة الحكاية وشذي الأناشيد وسرد الأحداث وكرامات المجاهدين والقصص البطولية لشباب لا يأبهون بالموت بل يحملون أرواحهم على أكفهم.
سأحمل روحي على راحتي * * وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق * * * وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
كان القيادي الفصيح منتشياً بسيطرة المحاكم على أحياء مقديشو وهزيمة عبدي قيبديد آخر زعماء الحرب في العاصمة الجريحة.

ذهبتُ رأسا إلى قسم شؤون الطلاب، كانت ثلاثة فتيات منقبات يجلسن أمام المكتب وفور دخولي تهامسن وهن يتحدثن عني وينظرنني بعيون حادّة كشمس آذار على مشارف كسمايو، وصلني صوت إحداهن: "لماذا هذا المسبل؟ هل يريد الانضمام إلى الجامعة؟" والغريب أنّني كنت في أشدّ فترات حياتي التزاماً! ابتسمت لهن وواصلت سيري نحو المكتب المتواضع. جلست أمام رجل خمسيني باسم الثغر وذو وجه يشع نوراً ويتلألأ من العبادة. وبعد محادثة قصيرة قدّمت أوراقي وسجّلت اسمي في كلية التربية قسم الرياضيات والفيزياء وحضرت عدّة محاضرات عن النظريات الفيزيائية والمبادئ الأساسية للرياضيات وتطبيقها في الحياة إضافة إلى مواد أخرى دينية. اكتشفت سريعا أنني لا أستطيع مواصلة جامعة النخبة السلفية وأنّ وسطاً ثقافيا لا يوجد فيه اتجاهات فكرية مختلفة ومنابر طلابية عامرة بالنقاش ولا تنوع في المظاهر والاهتمامات لا يلائمني، وغادرتها نحو البحث عن جامعة أخرى ترضي ذائقتي أو بالأحرى نحو المجهول والانقطاع الدراسي الذي دام سنوات. ومن باب الانصاف وبعيداً عن ميول شاب عشريني مفرط برومانسية العقد الثالث كانت الجامعة تعج بأساتذة محترمين ومعلمين متميزين وشيوخ من الطراز الرفيع.

وبعد مغادرتي لها بدأت بالبحث عن الجامعات الخارجية، وكانت بلدان مثل السودان، سوريا، مصر واليمن وجهة مفضلّة لديّ وإن كان صديق الطفولة أحمد عبدي متان الذي كان طالبا في أقدم الجامعات الهندسية في باكستان «جامعة الهندسة والتكنولوجيا» في لاهور يحثّ عليّ الالتحاق بها والانضمام إلى أسرة المهندسين. ورغم عزيمتي التي لا تقهر إلا أنني كنت في حيرة من أمري ذلك أنني لم أكن أعرف ماذا أفعل ومن أين أبدأ وكيف أتواصل مع الجامعات الخارجية؟ وبعد مراجعات وتفكير عميق إضافة إلى نصيحة من أحد الأصدقاء عزمت الذهاب إلى اليمن لألتحق بجامعة الإيمان التي كانت قبلة لكثير من الطلاب الصوماليين آنذاك لقرب اليمن الجغرافي أولاً وتشابه العادات والتقاليد ثانياً إضافة إلى سهولة الالتحاق بها. وفي صيف غير سعيد في الصومال كنت في طريقي إلى اليمن السعيد. لم أكن أهرب من الحرب الذي عشنا فيه حتى بات حدثا عاديا لا يثير في النفس أي رهبة ولم يكن ثمّة ميزة خاصة لجامعة الإيمان غير أنني كنت أريد الخروج من قوقعة المدن الصومالية الموبوءة بالحروب وداء القبلية.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...