الأحد، 11 أغسطس 2024

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم



 

بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- في مدينة اشتهرت بالنزاعات القبلية وخرائط الموت، لمعت في رأسي فكرة الذهاب إلى ميناء "غَرَعَدْ" الذي كان بارقة أمل في وسط الهزائم. كنت متحمساً للمشاريع الرامية إلى الاعتماد على الذات في مجتمع فقد الكثير من الإيمان بنفسه واستسلم للإحباط والاتكالية، ولكن كيف أصل إلى منطقة صعبة الوصول، وتبعد عن جالكعيو مئات الكيلومترات والطرق وعرة والمواصلات شحيحة جداً؟ لم أستسلم رغم العوائق ولم تحبطني قلة الخيارات، بل ذهبت إلى مدينة "غَرُوي" عاصمة ولاية بونتلاند الصومالية مرافقة أصدقاء يسافرون إلى غرعد عبر طرق موحشة، لمشاركة افتتاح أول ميناء تجاري في الصومال يملكه القطاع الخاص.

ومما زاد حماسي للسفر إلى جانب اللغط الذي أثير حول مشروع قيل إنه لا يمكن تحقيقه ولشدة غرابته وصف بأنه وهمي أو كذب مريح، أن الفترة التي عملت فيها كمستشار للمبعوث الرئاسي للشؤون الإنسانية والجفاف، لمست الإهانة التي يتعرض لها الصومالي في المحافل الدولية، وكيف سئم العالم من أخباره ومشاكله وانقساماته. في قاعات المؤتمرات وردهات الفنادق واللقاءات الثنائية على هامش الاجتماعات، كانت تعابير الوجوه وانفعالات العيون والنظرة التي تعبر عن الشفقة أو الاستصغار؛ ترهق ضميري وتهزّ كل خلية من خلايا كرامتي.

على مشارف مدينة "غروي" وفي أعماق الطبيعة الحزينة بدأ المطر ينهمر والسماء تبكي بغزارة. كنت سعيداً بانتهاء الجفاف والمياه المنسابة في الجداول وبطون البوادي، في حين كان الرفاق يخافون من السيول التي تقطع الطرق الترابية وتعيق السفر. كنت مقتنعاً وأنا في المكاتب العالمية ومقار الهيئات الأممية -وبعد سنوات كنا نعتمد على المساعدات الإنسانية والإغاثة العاجلة، ولم نستطع حتى في بناء مرحاض يسع لشخص واحد إلا بمساعدة خارجية- أن المساعدات الانسانية لا تنهي الجفاف، وانتظار الأيدي الخارجية تعني الاستسلام للواقع الذي نعيشه، وأن انتظام الأمطار، وتغيير العقلية الصومالية هما المخرجان الوحيدان من أخطار الكوارث المتكررة

كان الطريق وعراً والسيارة تسير ببطء شديد وهي تقطع الفلوات والقمم ومنحدرات الوديان، وكان صديقي زكريا ربيعة الذي يتمتع بموهبة كتابية اغتالتها مشاغل الحياة يغط في نوم عميق حتى في الطرق الوعرة التي تكاد فيها السيارة أن تنقلب لفرط الأحجار، لتعوّده على الطبيعة ومعرفته الجيّدة للمنطقة، فيما كان صديقي حوش عُردن الذي لا يفقد شيئاً مضحكا ليقوله حتى في أحلك الظروف يلحن الحكايات، ويحدثنا بحماسة عن المشروع الذي استحوذ على اهتمامه في السنوات الأخيرة؛ وهي مجلة (بِعِيد) المهتمة بالتعقب على خيوط التاريخ والاهتمام بالذاتية الثقافية التي كانت سياجاً منيعاً وحصناً تحطمت على أسواره أطماع الشرق والغرب.

ورغم مشقّة الطريق إلا أن الوضع لم يكن قاتم برمته، بل كان مشبعاً بالفكاهة وعبقاً كنت مشدودا إليه، إضافة إلى المشاهد التي أعادتني إلى رحلاتي البريّة بين مدينة "كسمايو" و "حَمَرْ" في بداية هذا القرن. كنا نعيش في كسمايو الغارقة في بطش المليشيات وقهر القبائل، وكنا ننتهز الإجازات المدرسية للسفر إلى مقديشو بحثاً عن مزايا العيش في عاصمة أنهكها الحرب وشوهتها الصراعات. في ذاك الزمن وإن كان المجتمع الصومالي هشاً فقيراً وغامرا بالبؤس، إلا أنه لم يذق بعد عذاب الحركات المتطرفة والضياع في أضابير التطرف، والشعور بالحرمان الشديد في أحياء المدن المحاصرة.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...