الثلاثاء، 28 مايو 2019

أركيولوجيا الموت !

على امتداد طريق قديم ومليء بالقاذروات والأشواك كانت مشاعر محمود ممزقة، وأهدافه ضائعة، ومبادؤه مهتزة مثل معظم شريحة الشباب الهائمة في متاهات مجتمع يعيش تحت وطأة حياة متناقضة وثقافة أبت أن تواجه تساؤلات المراهقين بثبات ومنطقية.

كان رقيق المشاعر، رومانسي التفكير تجرحه الابتسامة العذبة في الأمسيات المترعة بمثاليات الشباب والأنا المضخمة التي تستبدّ به قبل أن يدمن المخدرات التي باتت ملجأ لمشردين عاندتهم الحياة على ضفاف مفاهيم تمثل تابو غير محكي في مجتمعاتنا الشرقية. والمخدرات مثل الإرهاب والتطرف تنتجها البيئة المغرقة بالبطالة والعنف والفقر والفوارق الطبقية، وتطاردها البيئات المحصنة من الأمراض المجتمعية.

البيوت القريبة للملعب الكبير كانت مقراً للحشيش وأصحاب الهلوسات والأمزجة الفانتازية. في المساء وقبل انطلاق مباريات كرة القدم كانت الطرقات تتحول إلى ساحات مفتوحة للسكر وشجار العصابات، وتتحول الأزقات الجانبية إلى ميادين للعراك ومشهد مقزز من معارض تقدم للمراهقين لفافات الحشيش، وأقراص من المخدرات الثقيلة، وكوكايين رديئ، وأنواعاً من الكحوليات القادمة من الحدود الجنوبية عبر الطرق البرية أو المحيط الهندي، وجرعات من خمر محلي.

في ليلة خانقة بالبرد وتحت كوابيس الحقن كان يجر خيالاً مغرقاً بأماني التحرر من المخدرات وهو على سطح بيت مطل على أطلال قاعدة عسكرية عتيقة في مدينة تتوسد ثروات خامة وموقع حيوي وتصحو على وقع الفاقة والتشريد. 

المدينة لاتقدم سوى الحروب وحياة مغمسة بالفقر والسطو المسلح، ولا يجد المرأة فيها سوى أكواخ عائمة فوق بحار من الدموع الصامتة، وقناعة تشكل نواة صامدة ومذهلة لفقراء يحلمون بغد أفضل بعيدا عن الألم وجرح الذات.

كان أصغر من أن يقيّم الوضع، ويحطم قيود الواقع، ويفهم المنطق المعكوس للصراعات دون أن يرتكب حماقات قاتلة. عن كثب كان يراقب أطلال دولة هدمها معول القبلية وصواريخ المليشيات الثائرة على الاستبداد العسكري رغم ما تحملها من الأجندات الخارجية، والمفاهيم السطحية، والخطاب ذات الطابع الإقصائي والجهوي في وطن ظل قابعا تحت بطون متشاكسة وقبائل متصارعة وريفيون تقودهم الأناركية البدايئة إلى محاربة الأنظمة وتعليق الدساتير وتقويض الدول والتنقل عبر الحدود بكبرياء البدويين وجسارة حملها الصوماليون في جيناتهم بامتداد الأجيال والأزمان.

النياشين العسكرية تومض وراء بقايا مباني جرفها الزمن بعيداً نحو النسيان، والجبال الرسوبية المحاذية للثكنة العسكرية تواجه المغيب بثبات مشرقي مهيب وتضفي على المشهد رونقا استوائياً متفردا قبل أن تتوغل في عمق مياه تتكسر على أهداب المحيط، وتلامس مقابر الهنود، وأطلال العرب، ولوحات رسمها الحرب بإتقان موغل في مأساة شكّلت الذوات والإنسان وغيّرت المفاهيم والطباع، وأصابت الأوتار الحساسة للمجتمع حتى جعلت الحياة سلسلة من الخيبات والمخاوف والهجرات المتعاقبة نحو الدول المجاورة والمنافي الباردة.

من الصعب أن نعبر عن مأساة الحروب ودمويتها الموحشة في الأوطان والأشخاص والقيم الحميدة للمجتمعات المنكوبة، إنها تحمل ثيمات قاتمة تغيّر الأفكار وتشوّه الطفولة البريئة وتغذي الفقر وتنهك الاقتصاد، وفي ظل جحيمها يستخدم الزعماء أموال الشعب، وممتلكات الدولة، لشراء الأسلحة، والذمم، والتحالفات، وتدمير المدن، والتاريخ، واغتيال كل الفروق والاختلافات التي كانت تثري حياتنا وتمنحنا ألواناً من الاتساق والانسجام، وبعد سنوات من عبث الصراعات الصفرية يهدرون الأموال بعقد مؤتمرات عقيمة، ومصالحات وهمية هدفها إطالة أمد الحروب، ودغدغة مشاعر المجتمع، والاستثمار بخيباته.

المصالحة والمؤتمرات الخارجية والداخلية لا تستطيع ــ رغم كثرتها ــ أن تصل بنا إلى بر الأمان، بل في ظلها تتكاثر المليشيات، وتتفرع الصراعات، وتتوالد المأساة هندسيا، ويتأزم الوضع، ومن رحم مأساة مهلكة تنشأ أخرى أكثر فظاعة وأعمق إيلاما من سابقتها لأن المفاهيم الأساسية التي نستمد منها مفهومي "الحرب والسلم" قد غيب تماما وأبعد عن المسرح السياسي والاجتماعي فتبحرنا في عالم من الدموع وآهات ممتدة بلا نهاية.

من الغريب أن يصر البعض على استنساخ التجارب وتوريد الحلول الجاهزة، والتمادي في البلاهة بحيث يهمشون نقاط قوتهم ويروجون لمصالحة غامضة وبمفاهيم طوباوية لاتبحث الحلول، ولاتحقق المطلوب، ولاتردم الهوة بين الفرقاء، ولاتمت للمفاهيم المحلية ولا الأعراف القبلية بأي صلة. فبينما نستمد تعاليم الدين والتقاليد القبلية مفهوم السلم والحرب والمصالحة، يستمد رعاة المؤتمرات العبثية أفكارهم من الفكر الغربي الذي يموّل مسار السلام في الدول الفاشلة، وعلى ضوئه استوردوا مصالحة بمقاييس غربية تكرس الانقسام الداخلي ولا نعرف عنها شيئا مما ساهم في إطالة أمد الصراع وتقديم الوطن بتاريخه وإرثه الحضاري والثقافي على الآخر بشكل قاتم يصعب مسحه عن الذاكرة الجمعية لسكان المعمورة الذين لايعرفون عنا سوى الجوع والقرصنة.

وأخشى أن تترسخ هذه المفاهيم في المخيلة العالمية حتى وإن وجدت الإرادة الحقيقية والكوادر الوطنية الموهوبة التي تحاول حسب قدرتها تغيير القالب النمطي الذي يروجه الإعلام الغربي والعربي عن وطن لم يجد من ينصفه أو ينبري لدحض تلك الصورة المشوه بعد أن انخرط كثير من شعرائه وكتابه ومفكريه وأدبائه الكبار "المسرح العبثي" ووحل الإنقسامات الحادة في المفاهيم والجغرافيا، ومجّدوا الحروب الأهلية ودول الكانتونات بأقلامهم وأشعارهم وآدابهم وإنتاجهم الثقافي.

في عمق المباني الأثرية كان يبحث كعادته شيئا يدفئ معدته الخاوية قبل أن يمتلكه الحنين وتجتاحه "النوستالجيا". قلاع الدراويش ومسرح جهادهم البطولي، وآثار ممالك الطراز الإسلامي الذين نشروا الإسلام حتى في الأعماق العبيدة للقارة السمراء، ومقار المستعمر الأورروبي وبعثاته الاستكشافية، ورحلات المستشرقين عبر القرون، ومسجد القبلتين في زيلع المنسية، ومنابر هرر الخاوية، ومدن الحضارمة، وممالك العمانيين في المشرق الأفريقي منتشرة على طول الساحل وأعماق مناجم حضارته الخامة التي لم تجد حظها من الأبحاث والدراسات.

ذهب محمود بعيداً وتجاوز المناظر المحيطة به إلى سحيق التاريخ قبل أن تقطع النشرة المسايئة ل"هيئة الإذاعة البريطانية" تفكيره. كان يخطط وهو يصغى السمع إلى الراديو الذي يتحدث عن مآسي العبودية الجديدة في ليبيا كيف يهرب عن وطن غارق بالدموية والفوضى الإدارية حتى أصبح مسرحاً مفتوحا للقوى العالمية؟ لقد سئم مراقبة شروق الشمس وغروبها، والأيام الخالية من الإنتاج والإنجاز والإثارة، وكان يمني النفس الهجرة إلى أوروبا دون أن ينسى طول المسار، ووحشية تجار البشر، ومتاهة الرمال المتشابهة.

عبر فلم وثائقي لقناة عربية مرموقة كان الموت يطل أنيابه من كل مكان، والمسافرون يتساقطون عبر طرق سحقتْ أحلامهم، ولاحت أجسادهم فوق حرارة الصحراء هشيما تذروه الرياح. الشجيرات المتناثرة على المنطقة شاهدة على بؤس المكان المفروش بالهياكل، والجماجم، واغتيال الآمال. هزّته جثّة إمرأة لم تتحلل، الملامح الصومالية كانت واضحة على جبينها الذي بدأته البكتيريا في تفتيت ما تبقى من سمرته، ربما كانت إثيوبية أو إرترية أو سودانية أو حتى تشادية من يدري، ولكن آلمه المشهد وترك في وجدانه جرحاً لايندمل.

وسط مزيج من الأعراق المختلفة كان "الصحراء الكبرى" صامتا بعظمته، وكانت الرياح تلعب بقايا عظام الكادحين، وتبدد آثار الحكايات، والذكريات، والملامح، وربما الآهات التي تركها الراحلون قبل أن تنهشهم أنياب المنية، ويذيبهم هجير الشمس أثناء عبورهم صحراء إفريقيا نحو أوروبا وتحقيق الأحلام الوردية الراسخة في مخيلتهم.

في غمضة عين تشكّل الرمال تلالاً متفردة، وجبالاً ذهبية مترامية الأطراف، وهضاباً راسخة على خارطة الصحراء، وفي غضون دقائق تتلاشي التلال، وتختفي المعالم، وتذوب الجبال وتتوارى عن الأنظار، وتبدأ تضاريس الصحراء تتشكل من جديد، إنه شبح في عمق الطبيعة الجافة وأركيولوجيا قاتمة لبسطاء طردهم استبداد تحكم على مصيرهم وماتوا وهم ينشدون حياة كريمة تليق بهم.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...