الاثنين، 16 أبريل 2018

الصومال .. حكايات الحروب والتاريخ (1)



الصومال وطن تلفه التاريخ وتحيطه المحيط والحروب، الأنهار تداعب جبينه، والمناطق الأثرية تستقبل زواره مع لمسات إستوائية مميزة. روائح الثقافة عابقة في أزقات مساجده الشاهدة على الحضارة الإسلامية العريقة، والمدن القديمة تشكل صندوقا مليئا بالأسرار وماضي أمة كانت همزة وصل بين أفريقيا والبلاد العربية وما ورائها من البلدان والشعوب.

وصل العرب إلى الصومال عبر موجات متتالية من البشر منذ انهيار سد مأرب، وبعد بزوغ فجر الإسلام توثقت أواصر العرى بينهم وبين سكان ساحل الصومال فأسسوا الممالك والمدن والمراكز التجارية، وبنو القلاع والموانئ وانسجموا مع القبائل، وانتشرت ثقافتهم وحضارتهم وساد فنونهم، وبذلك أثّروا على اللغة والملامح والتركيبة السكانية، وفي غضون سنوات قليلة ذابوا في المجتمعات المحلية وباتوا عنصرا مكونا من اللوحة الصومالية.

على أطلال حيّ شنغاني في مقديشو تحيطني جروح لاتندمل، وانهزمت أمام أطلال التراث الصامد، قصور السلاطين على كتف المساجد، ومتاحف تقبّل الرمال، وذكريات الرحالة كريستوفر كولومبس، وكتابات ابن بطوطة، وآثار المؤرخين والكتاب الذين مرّوا على بلاد بونت وهم يبحثون مجد الكلمة أو متعة السياحة في أجواء مقديشو "ساحرة شرق أفريقيا" فهربت أداوي جروح الحروب بالكتابة رغم صعوبة نسيان ذكرياته المترسخة في الذاكرة الجمعية للشعب.

كلما أتوغل أقترب إلى معالم قديمة، وشوارع اختفت، وتراث طمرها النسيان، وملامح مآسي بامتداد مقديشو، وتبدوا المحيط الهندي على صفح الأفق وكأنها تراقب مدينة تنام على وقع الإنفجارات وتصحو على دوامة سحب الثقة من أحدهم، وإذا توغلت في الحس الشاعري والهوية الحضارية المميزة ل"حَمَرْ" سترى طلاً من إبتسامة تبرز بعض مفاتنها وإن علاها غبار ثلاثون سنة كان خنجر الفرقاء مغروسا في جسدها.

نحو العبور إلى  تاريخ طمستها المعارك، وأمام مقر البرلمان الصومالي الذي يعاني من تضاريس الأزمنة تعيدني مقديشو إلى بداية السبعينيات من القرن المنصرم، المبنى الشامخ شهد مؤتمر القمة الإفريقية عام 1974م وضمّ في جدرانه زعماء أفريقيا العظام قبل أن تنال يد الغدر وتحوله إلى أطلال باكية وثكنات للجيوش المتصارعة على المدينة.

في تلك الحقبة كان الصومال مزدهراً ويشهد جهوداً حثيثة من أجل لحاق قطار التقدم والاكتفاء الذاتي، تصدّر العساكر في الجمهورية الثانية وانغمسوا في السياسية بعد دولة مدنية تنخرها الفساد وتقودها الدستور، في الوهلة الأولى بدا الجيش وكأنه يلبي مطالب الكادحين، تضافرت الجهود وتكاتفت جميع فئات الشعب من أجل صومال جديد، فبدأت موجات البناء وإنشاء التعاونيات والمشاريع الوطنية التي مازالت ماثلة إلى يومنا هذا.

حكومة العساكر لمست الوتر الحساس للشعب عندما ركزت الجوانب الثقافية والتوعوية والتاريخية، نفضوا الغبار عن تاريح الأبطال، وألفوا الأغاني، ونظموا الأشعار لدغدغت المشاعر، وبعد قطع أشواط نحو التطور ودولة تواكب العصر وتستطيع استعادة استقلال قرارها حدثت نكسة غيّرت البوصلة! العساكر اختاروا الأيديولوجية الشيوعية ومحاربة الأصالة والهوية الدينية المترسخة في الوجدان، ومن أجل تعميق الماركسية في أوساط الشعب أصدروا قوانين مجحفة بحق الدين فبدأ صراع العلماء والسلطة، ودارت مساجلات فكرية وثقافية تطورت إلى إعدام العلماء وإراقة الدماء!

كانت خطوة جريئة نحو الإنهيار تَعَمّق بعدها الشرخ بين الشعب والحكومة الصومالية الاشتراكية، وتوقفت عجلة الاقتصاد، وضاع الشعب وفقدت الدولة هيبتها على القلوب وسيطرتها على الأرض، وبعد سنوات من إعدام العلماء والهزيمة المؤلمة في جبهة أوغادين عام 1977م بدأت المعارضة المسلحة تشن حروبا على الدولة، وبين انتهاكات الدولة البوليسية وعمالة الجبهات المتمردة ضاع الوطن، لقد دمره الحروب وبقي تاريخه دفينا تحت عباءة القبلية و ركام المعالم وغباء المهووسين بالحكم، وقصص شفهية لشعب تواق إلى السلام ونشر المحبة بعد عقود من الإرهاب والكراهية.

على بعد أمتار قليلة من مجلس الشعب يطل تمثال ثائر الصومال السيد محمد عبدالله حسن بهامته الممشوقة وتقاسيمه الدقيقة، السيد ورفاقه الأشاوس الذين قادوا الجموع نحو الحرية والكفاح المسلح في زمن كان الوعي السياسي الصومالي في أدنى مستوياته واجهتم مصاعب جمّة كتفكك الوطن، وتأليب رأي العام واغتيال المعنويات عبر وكلاء الاحتلال، وعدم الحصول على الأسلحة والذخائر بسبب الحصار الأورروبي المفروض على السواحل الصومالية، ورغم ذلك حاربوا الترويكا المحتلة ( بريطانيا، إيطاليا، فرنسا) إضافة إلى الحبشة، وكابدوهم خسائر جسيمة طيلة عقدين كان نار الجهاد يومض على ربوع القرن الأفريقي.

السبت، 7 أبريل 2018

إفريقيا .. ظلم الجغرافيا



كنت في مدينة صومالية تصافح المحيط عندما انهالت عليّ الذكريات وأنا أتأمل حياة أفريقيا الملتهبة من أقصاها إلى أقصاها، في أعماق الألم حلّقت بعيدًا فوق القارة الغنية بمواردها وبؤسها أراقب أحلام شعوبها وتطلعاتهم في ظل القهر وتكميم الأفواه الذي جعل الشعب كتماثيل حزينة لا إرادة لهم، إضافة إلى العبودية الجديدة المتسترة وراء رداء الهيئات العالمية.

منذ ربع قرن وشعبي الصومالي قابع في أوحال الحروب وفواجع التشريد، وصوَبوا بنادقهم صوب صدورهم بعد أن كانت تدافع المقدسات والمعتقدات عبر سلسلة من النضال الطويل من أجل المبادئ والمقدّرات، فقد حاربوا البرتغال في عمق البحار، واستحوذوا على أجزاء واسعة من أراضي شرق أفريقيا ينشرون الإسلام ويحاربون الجهل، وتوغلوا جنوبًا نحو السافانا والتلال المغطاة بالثلوج والسمرة الغامقة، وفي بداية الحملات الأورروبية قسّم الاستعمار أراضي الصومال إلى خمس أجزاء تجمعهم الأمنيات، وفي سبيل تحقيق مطالبهم سقط الملايين وجرح مثلهم، ولم يكن الطريق مفروشًا غير الدماء ومقارعة نصارى أوروربا وأباطرة أباسينا وسياستهم التوسعية عبر التاريخ.

من مقديشو اتجهت غربًا نحو بلاد الشعر (أوغادين) وكأني ألاحق الشمس وهي تعزف لحن الغروب خلف روابي إقليمٍ جرى فيه صراع عالمي مصغر منذ أن منحته بريطانيا الإقليم الغني بالثروات لإثيوبيا نكاية على الشعب الصومالي الذي أبى أن يعيش الإنجليزُ بسلام في أرضهم، كنت أحث الخطا نحو تاريخ أمتي وأمجادها الضاربة في عمق التاريخ، الألحان الشجية، وأريج اللبان، ورائحة الإبل الممزوجة بالأدب، وتكايا السلاطين والمدن التي تحاور الثروات تثير في وجداني مشاعر عتيقة وتشكل «زوايا غير محكية» تنتظر حكّاء ماهرًا يقدمها للعالم.

الصومال العريق بتاريخه منذ مملكة بونت وما تلاها من الممالك والحضارات اشتهر في السنوات الأخيرة بأزمته الإنسانية المتكررة! ولكن ما لا يعرفه العالم أن هذا البلد يعني قرابة مليون كم مربع من الإبل والمحيط والملاحم. والجريمة الوحيدة التي اقترفناها أننا أردنا أن نعيش أحرارًا يحملون لواء الإسلام وأنفة ورثناها عن أسلافنا، وأرادت الكولونيالية أن نعيش بلا وطن ولا هوية ولا انتماء، وأن نكون موزعين على البلدان المجاورة لكسر شوكتنا وتمزيق وحدتنا!

توغلت في أفريقيا وتجاوزت الحدود المصطنعة بعد نكسة برلين 1884-1885، وتعمقت الجرح الأفريقي النازف منذ قرون، في صغري كنت أحمل همّ قارة المستقبل، أعجبني لحن المناطق المرتفعة، وأبهرني قوة ساكني الأحراش، وسحر الحلم القابع وراء الحناجر التي تهتف بالحرية ولو بصوت متهدج خلف ضجيج الجغرافيا ومونولوجيا الذات، كنت أكتب قصصهم وأحكي عن أشواقهم عبر مداد قلمي الحامل بفيض من اللذة والألم ومحاربة الركود الثقافي للمجتمعات.

في قلب حيّ كابيرا الكارتوني في نيروبي وعلى جدار مقابل للبيوت المطلة على المزابل التقيت شابًا في مقتبل العمر، كان يتحدث عن مأساتنا وهو ينفث دخان سيجارته: «لقد حوّلت الأدمغة العفنة أفريقيا إلى أوكار للفاقة والجريمة، الاستعمار لم يذهب بل بقي في بلادنا يجثم على صدرنا، ويقتل أبناءنا تارة عبر وكلائه الذين أوصلهم إلى رأس الهرم، وتارة بالتدخلات، ومرات عبر السيطرة المطلقة على الإنتاج وتحديد أسعار الخامات، ليأخذ الغرب الأموال ونحن لعنة الثروة.

في المعابر والمطارات لا صوت يعلو فوق الترقب وهاجس الجنود والأسلاك والجدران الفاصلة بين الأفريقيين. المؤسسات المدنية الفاعلة والتحول الديمقراطي باتا ضربًا من الخيال في ظل جيوش ذابت في السياسة وتحمي عرش الطغاة، القوات المسلحة في أقطارنا هي اليد الباطشة للأنظمة المستبدة، فبدلا من ابتعادها عن السياسة وانغماسها في المهام الرسمية انخرطت  فيما لا تتقنه فتاهت في مسالك القمع والإرهاب، وبامتزاج رغبة العساكر مع أطماع المؤسسات المدنية المأزومة تكونت دولة المافيا، وأجهزة بلا كفاءات تغرق في الشبر الأولى من مشاكل الوطن بعد أن هربت الأدمغة المثقفة إلى الخارج خوفًا من السجن أو القتل.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...