الأربعاء، 28 فبراير 2018

رسالة إلى سالم .. المولود البريء


أهلا وسهلا بك يا صغيري في هذا العالم، ودّعت اليوم بطن أمك الذي كنت تجول فيه بدون منافس يفسد حياتك الطرية وينكد مزاجك الجنيني، وجئت إلى عالم مختلف، شعاره التحدي والبحث عن البقاء في حقل من الألغام والانتهازية والجمال الممتد بامتداد الحب والطيبة في كوننا الفسيح.

يوم قدومك احتفل كاتب هذه السطور الذي بدأ مع والدك رحلة الحياة من مهدها، كنا أطفالا في نعومة أظفارهم، تسعدهم الكرة وتبغضهم الأفلام الرديئة في عطلة الأسبوع، إختطفت الحروب الأهلية طفولتنا البريئة واختفت الآمال وراء معضلة القبلية في وطن ظل مأزوما منذ عقود، ذاكرتنا الطفولية كانت ملطخة بألوان من الماسي، وعيوننا الناعسة كانت كاميرا تسجل الأحداث والمؤتمرات العبثية للفرقاء الصوماليين في العواصم العالمية.

في خضم الصراعات وفي كنف اليتم المبكر عشنا حياة بلا طفولة ولا أبوّة، بل بلا ملامح ولا طلاء، حيث كانت المدافع تزهق الأرواح وتخطف الابتسامة، والمليشيات الجهوية والدينية تنهك الأعراض وتشوه التاريخ والدين والقيم والأخلاق، التعليم كانت ردئية أو معدومة، والصحة حدث ولا حرج، والسلام الداخلي كان في كف عفريت.

ورغم ذلك كنا نضحك ونتوغل في دروب السعادة نلعب ونمارس الحياة بشغف الطفولة وعناد الأيتام الطامعين في تغيير مجرى التاريخ نحو الأفضل، أو على الأقل المساهمة في تخفيف الأعباء عن كاهل البسطاء، كنا ننافس بل نتغلب على أطفال الحي الذين كانوا يتلقون دعم الأب وحمايته، في المدارس كنا الصفوة، وفي المستطيل الأخضر كنا نرهق المنافس بسيمفونية كروية وحماسة منقطعة النظير.

كنتُ أكبر منه سنا وهو أكبر مني حيوية ونشاطا، أو قل إن شئت حماسة وإتقانا، أتذكر كيف كان سريعا مراوغا ماهرا في التسجيل والشجار والطبخ، كان كريم المشاعر باسط اليدين مبتسما يحب مساعدة الأخرين، وهذه صفات أتمنى أن تجري في دمك وأنت في المهد صبيا هناك في نيروبي لندن أفريقيا وعاصمة القرن الأفريقي بمشاكله ومساوئه وإمكانياته الهائلة، نيروبي التي شهدت صرختك الأولى يا سالم ضمت قبر أمي وجسدها الطاهر! وتعتبر نبض إفريقيا ومن أكثر مدن القارة نشاطا وحيوية وتلتقي فوقها آلاف السحنات والمصالح والمؤسسات، وتطبخ في فنادقها ومكاتبها السياسات وبنار هادئة وحارقة أحيانا.

كان في بالنا أننا سنتغلب على الصعاب، ونستمتع بغد أفضل طال انتظاره بسبب غباء المسؤلين وغياب زعماء يحملون كاريزما القيادة والتأثير على الآخرين، بتنا ندور في المربع الأول وتراجع بصيص الأمل الذي لاح في الافق القريب بعد ظهور المحاكم الإسلامية الذين اعتقدنا في غمرة الهلوسة أنهم المنقذون الحقيقيون لبلدنا، كانوا الوجه الآخر لعملة التيه فكدنا نفقد الأمل وابتعدنا كثيرا عن مسارح طفولتنا وميادين حداثتنا هربا من الحركات الاجرامية والجهل الذي أطبق أطنابه على الجميع، ذهبنا معا إلى السودان في رحلة العلم والمعرفة، كانت تجربة جريئة وماتعة في ظل الثقافة والنيل وطيبة أهلنا السودانيين، دار الزمن وتوالت الأيام إلى أن ودّعنا النيل وكلية العلوم، مفارقة المالوف مشقة يا صغيري! ربما تمنيت وأنت في رحلة الولادة من رحم أمك إلى عالمنا المشحون بالكراهية والبارود وأنغام الحياة أن تترك القوة الدافعة جسدك لتكون عالقا في عالمك المثالي، كنتَ سعيدا يقضم أصابعه برومانسية الأطفال في داخل مشيمتك، وبعد سنوات ستصبح شابا مفتول العضلات مليئا بالحيوية والنشاط، ستضحك كثيرا وتحمد ربك إذا عرفت أنك مررت في ضيق الرحم وظلام البطن باكيا.

وكذا الحياة يا ولدي سلسلة من التجارب والمحطات، بعد التخرج رحلنا جنوبا نحو بلاد الشعر وفي بالنا أمنيات هرمت وشاخت، الطريق لم يكن مفروشا بالورود، بل كان مترعا بالتنقلات في القرن الأفريقي بحثا عن لقمة العيش، واصلنا الكفاح من أجل المستقبل وتأمين سبل الحياة الكريمة لفيلق قادم من المحاربين الأشاوس أنت قائدهم، حاولنا أن نؤسس لكم حياة أحسن من تلك التي عشناها نحن، وأن تمارسوا الحياة مع أترابكم جنبا على كتف، وإن لم نصل إلى مطالبنا فأنتم اليوم في ظرف أحسن بكثير من وضعنا في جميع المستويات، قُدر لجيلنا التعاسة! وأن يكون وقودا للصراعات، وقّدر لجيلكم ـ كما نتمنى ـ الريادة وإعادة المياه إلى مجاريها.

الوضع لم يكن مثاليا، كان الوطن في قعر الخوف والمجاعة رغم الموارد الاقتصادية المتوفرة، لم نستسلم بل صرنا أكثر قوة، وبدأنا رحلة الحياة وإعادة الوعي الغائب منذ عقود، فتحنا مراكز تعليمية ووجهنا الشباب نحو التثقيف الذاتي، والدك صار "الجندي المجهول" في مدينة ظلت متقلبة في أحضان الدماء والدموع، مع أصدقائه رسم الابتسامة على وجوه الأطفال، والسعادة على جبين السمراوات، وغرس الطمأنينة في قلوب الكبار فأصبح محبوب الجميع، اليوم كسمايو سعيدة تنافس المدن العالمية وترفع ذؤابتها من جديد.

ستنخرط في دنيا جميلة بطبيعتها ومجانينها وعرق كادحيها، مخيفة بتصرفات مجرميها وجشع أغنائها، من الغرابة أن قلوب الفقراء ناصعة البياض، القناعة تسعدهم، والفاقة تعلمهم الصبر ومغالبة الأحزان، وقلوب الأغنياء شاحبة قاتمة تغمرها الكآبة والأحزان القاتلة، يعانون من الأرق ويبحثون النوم ويمشون كثيرا من أجل هضم الوجبة الدسمة في بطونهم!، ستكبر على كنف أمك ـ إن شاء الله ـ وعين الله ترعاك وترشدك إلى الدروب الصحيحة بعيدا عن الغواية والضلال، وربما ستصبح طبيبا ماهرا أو مهندسا بارعا أو صحفيا متألقا أو أديبا مفوها أو عالما مشهورا أو جنديا شجاعا، أو سياسيا لبقا يعيد للصومال مجدها فاطلق العنان لنفسك ولاتخف، وليكن شعارك القادم أفضل لامحالة، وكن مرحا يحب الترحال واكتساب المهارات وطرق أبواب العلم ماستطعت إليه سبيلا.

إنطلق نحو الخير ونشر المحبة، واغرس في ذهنك حب الوطن وعشق المسيرة الطويلة من أجل حماية الدين والجغرافيا، إبحث الإلهام في سيرة العظماء، الرسول الأعظم وصحابته الكرام، أجعل سيرة المجاهد أحمد الغازي نبراسا لك، وكفاح الدراويش مثلك الأعلى، حاربوا ضد الظلم والعبودية ونهب التاريخ والثروات فعاشوا كراما وماتوا أبطالا.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...