الاثنين، 13 نوفمبر 2017

الصومال.. جذور تمتد نحو التاريخ

كان الجو صحواً والأشعة ترسل دفئها على جنبات الكون، الأجواء مترعة بمرح الأطفال ووجوه جذلة بزغاريد الأعياد والحفلات الدينية في قُطر يعتبر الدين نبضه الأكبر والمكون الأساسي للثقافة والانتماء. بعد الثالثة ظهرا وصلت إلى مدينة جالكعيو، كانت منهكة منذ أن أصبحت ضحية للمزاج السياسي وصراع القبائل وشبح الاغتيالات، في وسط هذه المدينة الحزينة يرهقني التفكير، كيف حوّلها تجار الحروب من مدينة باسمة تعتبر شريان الصومال إلى مدينة يفصلها خطوط الموت وشوارع مغلقة بالمتاريس والأحجار تقسم الشعب وكأنها برلين الحقبة الباردة!

شجن الأيام وعلى وقع مدينة علّق الصوماليون عليها آمالا جساما رغم التشظي يجعلني أبكى بصمت وأراقب عبر نافذة السيارة التراث والإبل والجبال، الطريق معبد ويخترق جبال من كالكوارتز الذي يدخل في صناعة الكهرباء والمجوهرات والسيراميك إذا وجد الأدمغة المتعلمة، توقفنا قليلا على مشارف قرية ريفية صومالية الطابع والملامح، وبعد لحظات من احتساء الشاي بدأنا المسيرة وتعمقنا نحو الجمال الذي يغفو على جبين الثروات والانكسارات، هنا أغنام تسرح، وهناك راعي على الهضبة المجاورة ينشد لإبله، وسمراء تمضغ صمغا وتضحك بلذة فاتنة، والنساء الصوماليات لهن ضحكات مثل الأجراس سلاسة وإيقاعا.

الصوماليون رعاة مهرة، وصيادون من الطراز الأول، ومحاربون أشداء، يمتد وطنهم التاريخي من رمال المحيط شرقاً إلى هضاب الحبشية غرباً، ومن وراء نهر تانا جنوباً إلى جوار الدناكل بمحاذات البحر الأحمر شمالاً، ولم يكونوا طيفا واحدا في المهنة والحياة، بل كانوا رعاة رحل في الريف والأدغال، وتجارا في السواحل، ومزارعين على السهول وعلى ضفاف الأنهار، والسبب الذي جعل أرضهم مترامية مقارنة بأعدادهم هو التنقل والبحث عن القطرة والعشب، وإذا ما وصلوا إلى أرض تسودها المياه والكلأ كانوا لايعودون منها أبداً، وقد أجبرتهم الظروف أن يكونوا متمرسين في الحروب والنجدة والسير لمسافات طويلة على الأقدام.

وقفت على أعتاب بلاد البخور والعطور والممالك التي حكمت على المنطقة ووصل صداها إلى الهند والسند والصين وبلاد العرب وسوفالة وزنجبار وموزامبيق. كان الاتصال دائما لاينقطع بين الصومال وبين الشعوب وخاصة سكان شرق الأوسط من الكلدانيين والكنعانيين والآشوريين وغيرهم، وتروي الكتبُ الرحلات التاريخية للقبائل العربية إلى شرق أفريقيا منذ فجر التاريخ.

وعندما بزغ فجر الإسلام عرفت المدن الساحلية الإسلام قبل أن يصل إلى المدينة المنورة، وذلك عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه الهجرة إلى القرن الأفريقي، ومنذ هذا التاريخ كان التداخل العربي الإسلامي مع سكان شرق أفريقيا والقارة عموما يتم بطريقة حضارية، ولم تكن الطبيعة تقف دون العرب ونشر دينهم وممالكهم فشيّدوا المدن وأثّروا على الملامح واللغات والفن والتركيبة السكانية.

لقد أسس العرب حضارات وحكموا على المنطقة ومازال أطلال مدنهم باقية على شواطئ المحيط الهندي لتدل على التطور العمراني والحضاري للعرب، كانوا قادة العالم في القرون الوسطى من حيث الحراك الثقافي والكشوفات، واتسموا بدقة النقل والأمانة العلمية، ويعتبر ابن بطوطة والمسعودي والادريسي والحمداني وياقوت الحموي وعلي بن سعيد المغربي الذين زاروا الصومال وكتبوا أنها كانت من أكثر البلدان الإسلامية رخاء، كما كانت الممالك الصومالية تحمي المقدسات الإسلامية وتسيطر على الطرق الرئيسة للملاحة البحرية روّاد هذا المجال.

كانت ملاحظاتهم مذهلة وانخراطهم في الشعوب الأصلية تتيح لهم معرفة الخبايا والتغلغل في نفوس الأفارقة ومعرفة البلدان والقبائل، وتعد مراجعهم في غاية الأهمية خاصة وأن العرب كان لهم أكبر الأثر في الصومال منذ أن هاجرت إليها القبائل العربية بعد انهيار سد مأرب وما تبعه من الهجرات.

كنت غارقا في وحول التاريخ ومطبات الجغرافيا، حيث المعالم الأثرية ومجالس سلاطين ورسنجلي تفوح منها رائحة العراقة. سلطنة ورسنجلي تأسست على المناطق الشمالية للصومال في القرن الثالث عشر وذاع صيتها بعد بروز حركة الدروايش كقوة محلية قوية عام1897م، وخاضت السلطنة ضد الحركة حروبا من أجل البقاء، ورغم صراعها ضد الدراويش والقبائل لم تستسلم السلطنة نهائيا، بل استمر حكمها إلى أن تربع على عرشها السلطان محمود علي شري الذي نفاه الإنجليز إلى جزيرة السيشيل مع الثائر المصري سعد زغلول خوفا من تنامي قوته وتأثيره بعد هزيمة الدراويش عام1921م.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...