السبت، 8 أبريل 2017

الصومال .. أدب برائحة الإبل

في مجتمع شديد الخصوصية وظل حاجزا ثقافيا بين العرب في الشمال وأفريقيا في الجنوب كان الصوماليون منذ القدم يملكون أدبا برائحة الإبل وعبق اللبان وتعاريج التاريخ. شكل رافدا للثقافة والملامح والحياة والتاريخ الفني والحضاري للصومال التي طالما وُصف أمة الحرب والشعر، وبلدا رائدا في محيطه حضاريا وأدبيا قبل أن تنهار حكومته وبالتالي إنهار معها الأدب وكثير من المظاهر الحضارية، حتى بدت الصومال في المخيلة العالمية دولة الفشل والمجاعة والقرصنة، وأمة لاتملك ماضيا مشرقا وثقافة بامتداد المحيط وأدبا بقدسية الشعر والحِكم في بلاد البونت.

رغم إقتران الأدب بالشعر في المخيلة الشعبية الصومالية لكونه بعيدا عن التأثير الغربي الذي أدخل القصص والروايات في الأدب الأفريقي الحديث إلا أن الأدب وبمختلف أنواعه يعتبر ورقة شفافة تعكس الخيال الملئي بالجمال والشعر وبحر الصراعات وأنهار الأغاني والألحان المعبرة بالإيقاعات المتأصلة في عمق التراث الذي يتكؤ لغة زاخرة بالجمل والألفاظ والمفردات والتراكيب، كما يعبر عما يدور في أوساط الشعب وتصوراته للحياة والواقع والمستقبل والماضي وطريقة تفكيره وأحاسيسه وتعاطيه للأحداث والتغيرات التي تطرأ في محيطه.

ومما يجعل الأدب الصومالي مهما في هذا الظرف الدقيق كونه يعتبر متحفا لوطن كان مدخلا شرقيا لأفريقيا، وأمة ظلت وبحقب مديدة شفهية تعتمد الكلمة في نقل الأدب والفنون والألغاز والألعاب والأساطير وسرد الأحداث. وكونه يحمل في طياته الشيء الكثير من التراث وحقائق عن الإنسان الصومالي وأصله الذي لانجده في أروقة الكتب وبطون القصص المكتوبة، إذ كان الشعب الصومالي يحفظ تاريخه وعاداته وأنسابه وأيامه عبر قوالب أدبية قاومت على المتغيرات وبقيت ماثلة إلى يومنا هذا. والقصص المروية في بطون الشعر والحكايات الشعبية توثيق لحضارة أمة وماضي شعب ترك بصماته الواضحة في منطقته.

ورغم تنوع الأدب الصومالي إلا أن الشعر يعتبر عموده الفقري ومنبعا مهما للحضارة الصومالية ومن أهم أنواع الأدب شيوعا واستخداما في الأوساط الصومالية منذ قرون، حتى أصبحت الصومال بلد الشعر والقافية، وكان الشعر وسيلة هامة يستخدمها الشاعر ليصل صوته إلى الجماهير، كما كان متنفسا مُهمّا يبث في طياته همومه ومشاكله والمشاعر التي تختلجه، وتارة كان سيفه التي يدافع بها قومه وعشيرته ووطنه أو القضية التي يؤمن بها، ولذلك كان الشعر في التاريخ الصومالي ترسا يحمي القبيلة أو الدولة، وبريدا للحب، وعنوانا للجمال، ولافتة للترحيب، وطيفا سابحا من الخيال الذي يبث فيه الشاعر القلائد الشعرية المزركشة بأجمل الأنغام وأشجاها وأصدق المشاعر وأدفئها.

والشعر الصومالي متفرد بطبعه ومتميز بكونه جزأ لا يتجزأ عن الأدب الإفريقي الذي له خصائص أدبية معينه تفرضه الحياة والواقع والميثولوجيا الأفريقية العريقة، كما هو أدب مشبع بالتراث والتأثير  العربي بحكم الموقع وروابط الدين والدم والوجدان والهجرات العربية المتعاقبة نحو المشرق الإفريقي منذ إنهيار سد مأرب وما تبعه من التغيرات مما جعل الأدب الصومالي عربيا بطريقة الأسلوب والإستهلال والأداء وتناول الأحداث.

وخلال المسيرة الطويلة للأدب الصومالي كان الشعر رمانته ولحنا يعزفه الحكماء والأدباء والسلاطين والعشاق في مختلف الأعمار والأمصار الصومالية، حتى أصبح الشعراء مفخرة القبائل وحفظت الذاكرة الجمعية أسمائهم، وأصبحت السلاسل الشعرية مشهورة تتناولها الألسن والأجيال وتتناقلها السمار في المجالس الثقافية والأدبية والفكرية والدينية.

كان الشعر الأصيل يحمل الذكريات والحنين للأطلال، ويصور الملاحم البطولية وملامح الحياة، ويصف الكون والحياة والإبل، والمرأة التي أبدع الصوماليون في وصفها سواء بلونها الأسمر الأنيق وقامتها الهيفاء وثغرها الباسم وجيدها الطويل وشعرها الأسود الفاحم، والجواد مفخرة الرجال، ومما حفظت التاريخ أن السيد محمد عبدالله حسن فاق الشاعر الجاهلي امرؤ القيس في وصف ومدح الحُصن، إذ كان مدح قائد الدراويش لحصانه المفضل حِينْ فِنينْ أبلغ وأكثر عمقا من وصف امرؤ القيس لجواده في معلقته الشهيرة قفا نبكِ.

لم تكن الصومال دولة هامشية في تاريخها، بل كانت مسرحا للأحداث ونضال الأدب والقوافي والنصال، ولكن وبعد الحروب والتشريد ووجود أجيال جديدة ولدت في المهجر بعيدا عن الأصالة والتقاليد من المطلوب دراسة الأدب الصومالي وخاصة الشعر والتعمق في الجوانب الغامضة للتاريخ والتراث، واستقصاء ما حوته الكتب القديمة، وأرشيف المستعمر، وألسنة المعمرين الذين يشكلون مكتبة عامرة وبموتهم تموت المعرفة والعادات التي كانت بعيدة عن الكتابة إلا النزر القليل المكتوب باللغة العربية التي معظمها أوراد وترانيم صوفية واشعار دينية ووطنية تنتمي إلى حقبة الإمام أحمد الغازي وثورة الدراويش وامتدادهما، إضافة إلى بعض الأدب الصومالي الذي وجد في المكتبات الأوروبية.

في عهد المستعمر الأوروبي كان القطر الصومالي الكبير يعيش حياة البداوة والإرتحال والإعتزاز بالنفس والحروب سواء كانت ضد أباطرة أباسينيا أو فيما بينهم، أو ضد الغزو الأوروربي، وحارب الصوماليون ضد أربعة دول أوروبية ومنعوا من الإختلاط والتمازج الثقافي والفكري مما أدى إلى عدم وجود أي أثر كولونيالي في الصومال، حتى بعد مكوث أورروبا في الصومال الكبير أكثر من 400سنة بدأ من النجدة البرتغالية في القرن السادس عشر حتى مغادرة آخر جندي أورروبي من الأراضي التاريخية للصومال عام 1977م .

وفي تلك الفترة ومقارنة بالأدب في أفريقيا الغربية أوالجنوبية لم يجد الأدب في شرق أفريقيا عموما والصومالي خصوصا رواجا من قبل المستعمر الأوروبي الذي ألّف كثيرا عن الغرب والجنوب الأفريقيين، ولا نعرف سبب هذا العزوف ولكن كون غرب أفريقيا الموانئ التي تشحن العبيد إلى أوروبا والكثافة القبلية والسكانية، ووصول أوروبا قديما إلى الجنوب، إضافة إلى عنصر الدين ونظرة الإنسان الصومالي للأوروبي، وانطباع الأوروبين لاسيما بعد مقتل الرحالة الألماني فون دير ديكن K.K.Vonder Decken الذي قتل بطعن حربة في مدينة بربرا شمال الصومال، والمضايقات التي لقيها الرحالة الإنجليزي ريتشارد بارتون  Richard Burton صاحب كتاب "أول أقدام في شرق أفريقيا"First Foot-steps in east Africa  جعل الأدب الصومالي بعيدا عن الإهتمام الأوروبي.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...