الأربعاء، 25 يناير 2017

بين إهانة المعابر وفقدان الأوطان (2)

كان الشرق بأديانه وتناقضاته وحضارته يعني له أماكن مقدسة وتراثية حد الإبهار، وكان يعشق افريقيا بتضاريسها ورقصاتها الشعبية وثروتها المنهوبة من قبل الأعداء والأبناء. حدثته بلغة سويدية ممزوجة بالصومالية، حدثته عن قريتنا القديمة وإبل أبي، ونظرات جدتي للحياة وتعويذتها التي تجزم أنها تقي العين وتدفع الشر وتبدد الحظ السيء، وعندما حدثته عن عمي الشاعر الذي وصف الحروب والميثولوجيا الصومالية والجواد الأصيل والمحيط والأنهار والحسناوات الصومالية بشعره اللطيف ولغته الرزينة شعرت في عيونه العميقة نشوة الأدب وتاثير الفن ومسح صلعته وفغر فاهه المائل إلى الصفرة.

عمي كان الناطق الرسمي للقبيلة في زمن الحروب القبلية وإعلامها المؤثر في ذاك الزمن ، في تلك الفترة الزاهية بالأقواس والسيوف والأتراس لم يكن المجتمع بحاجة إلى القناة الثانية السويدية، ولا سي إن إن، ولا الجزيرة، ولا القنوات الصومالية الضعيفة التي تستقوى بكلمة "العالمية" وكأن الكلمة تنقلهم من الضعف الانتاجي والاداري إلى مصاف القنوات الرائدة إعلاميا، بل كان الشعر يتكفل على نشر محاسن القبيلة وبث الرعب في صفوف الأعداء بهجائه اللاذع وذمه القاتل للقبائل.

الحياة في المنطقة صعبة وباردة، والطقس لا يسمح بالتجول وركوب ناصية الأحداث، إفترقنا السويدي العجوز على أمل اللقاء. غمرتنا الحياة ورجعت إلى الملجأ المجاور للحنين والجبال الجليدية، كنت أفكر دائما أن أتسلق وأجلس على قمة الجبل ولكن هذا غير مسموح مطلقا ويعتبرونه مغامرة غير محسوبة العواقب، أما متمرد يحمل في جيناته مناهضة التقيد والروتينية فكانت أمنية غير مستحيلة أجلتها إلى زمن غير مسمى، أو على الأقل إلى أن يصفو الجوّ وتنتهي البرودة. من بين جميع خلق الله يتذمر الصوماليون من السجن الكبير إذ يعتبر الخيمات المتناثرة على البقعة الجليدية النائية سجنا مفتوحا إلى السماء، ومنذ أن خلق الله في القرن الإفريقي لم يخصع الصومالي الأسلاك الحدودوية ولجام الطبيعة ولا مضايقات الجغرافيا والحدود المصطنعة، بل يرحل بعيدا نحو الماء والكلأ والحرية يترنم بأشعار الرعاة ويستعد للقتال من أجل حفظ مقدراته ومبادئه.

خضع للإستعمار الاوروبي وتعرض للتبعثر الجغرافي ورغم ذالك لايهاب ولا يعترف القيود الوهمية ولا يستسلم لنظام المعابر والتأشيرات، يتنقل في داخل أرضه التاريخي بكبرياء البدويين ويتمسك بهويته الصومالية ويتبختر بمظهره ولا يخفي معتقداته وإن كان في البيت الأبيض أو قصر الإتحادية في بريتوريا، وكتبتِ التاريخ ان الصومال التي خضعت للإستعمار الأوروبي بدأً من البرتغال ونجدتها إبّان جهاد الإمام أحمد جري مرورا بالإستعمار الرباعي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين لم يوجد صومالي أثرته جزرة الإستعمار ولا سطوة المحتل!، لم يؤثر لغويا ولا دينيا ولاثقافيا، بل رحل المحتل فرحلت معه لغته وتاريخيه وتراثه.

عندما كنت في الصومال كان حرق الغابات من أجل إنتاج الفحم وبيعها من أمتع الأشياء التي أمارسها في حياتي، لم تكن مصدر رزقي الوحيد فحسب، بل كنت أظهر رجولتي وحيويتي لبنات الحي وأتراب القوم. على الضفة الشرقية للنهر التاريخي الذي ارتبط اسمه بالمكون الثقافي والزراعي والنضالي للصومال كانت الغابات الإستوائية تشكل حاجزا منيعا بين الغزو الجارف للجبال الرملية المحاذية للمحيط وبين المراعي الطبيعة والقرى الممتدة بامتداد الطريق الذي يشق الغابات الإستوائية نحو العاصمة، كانت الحكومة الصومالية تكافح هذه الرمال عبر التشجير الكثيف، وبعد إنهيار الصومال إنهار معها الأمن والإهتمام البيئي والإنساني، وأصبح تأمين لقمة العيش من أصعب الأشياء، بل تحتاج إلى نضال بطولي وكفاح لايقل ضراوة ذاك الذي خاض الأجداد من أجل إنتهاء الليالي الحالكة للكولونيالية الغربية على الأراضي الصومالية.

كنت أستخدم مهارتي السابقة في تسلق الأشجار وحرقها، في خاطري ووجداني الصبياني كنت أعتقد أنني أساهم في التصحر والقحط وتدمير وطني وتغيير المنظومة البيئية والتناسق الطبيعي، وكان الضمير يؤنبني ويعذبني في حلي وترحالي، ورغم ذلك لم أستطع  أن أتوقف عن هذا الفعل التدميري حرق الغابات ومحاربة البيئة من أجل الفحم وتصديرها إلى الخارج وخاصة دول الخليج والهند والصين، لأنها كانت العمل الوحيد الذي كنت أتقنه إضافة إلى أنه كان منظرا رهيبا للتسلية!، نعم للتسلية والإمتاع حيث كان منظر الغابات وهي تحترق وتلتهب وقعقعة الأغصان والشرر المتطايرة وألسنة الدخان المتصاعد من الجذوع والأغصان الرطبة جميلا يستحق العناء في مخيلة طفل نشأ في الفوضى والتدمير.

البقع الداكنة بعد نقل الفحم إلى المدينة والأكوام الرمادية كان يذكرني بمبارك إبل جدي في مرابعه النائية في السهول المتاخمة للهضاب العريقة غرب مدينة هرر، جدي سكن البادية من أجل متعته الخاصة ومبادئه الصارمة، في صغره هاجر إلى عدن وسكن الحي الصومالي الذي كان يعج بملايين الصوماليين العدنيين الذين سكنوا المدينة منذ قرون حتى أصبحوا من المكونات الثقافية والسياسية البارزة للمدينة، وبعد سنوات كان ضيفا على حوافي عدن وتاريخها ذهب إلى الحج، وفي صيف عام 1956م رجع إلى الصومال عبر مقديشو.

الثلاثاء، 17 يناير 2017

بين إهانة المعابر وفقدان الأوطان (1)

 
في إحدى العواصم الأوروبية المتطورة التي هاجر إليها الصوماليون بعد أن غمرتهم الحروب والسجون القبلية، كان الجوّ باردا قارسا وأشعة الشمس تكاسلت عن الشروق منذ شهرين، عمارات شاهقة تصدح عنها إيقاع غنائي أوروبي متدثر بالثلوج والرتابة، وشوارع غافية فوق تلال ابتلعتها العتمة اللذيذة. ضمن صوماليين كبلتهم الغربة وأبردهم الصقيع أحبطتني البطالة وسئمت عن مراقبة المارة والسمر مع زرائب الشجن الجامح نحو الجنوب المثقل بالاحتراب الداخلي، ونحو وطن يمتد آلاف الكيلومترات على محاذاة الساحل وحضارة تتأمل وجه المحيط وترانيم القوافي بعمق وامتنان.
منذ أن وصلت إلى السويد أو جنة الدنيا كما يحلو لعشاقها بعد أهوال ومتاعب ملونة بالموت عطشا في الرمال، أو غرقا في أمواج البحار، أو إهانة في داخل زنازين الاستبداد، كنت ألازم المخيمات الإنتقالية للاجئين الفارين من بلاد أثخنتها التقلبات السياسية والأزمات الإجتماعية والكوارث الاقتصادية إلى بلاد الضباب ونحو أوروبا التي تدفق سكانها نحو إفريقيا منذ القرن 15م لنهب ثروتها وتقزيم إنسانها واحتلال أرضها.
في المنافي الباردة وفي طي الأحزمة الجغرافية البعيدة عن أرض الأجداد والحياة الرعوية كنت أستأنس أحاديث الأفارقة وملامحهم الهادئة في العتمات الأوروبية الباهرة بالحكايات وقصص الهاربين من جحيم الاستبداد، ما أشبه حكايات المعاناة وفصول الألم في جبين كل إفريقي، فقراء أنهكهم التعب وقبائل متناحرة على أطلال أوطان تحولت إلى شظايا ورماد، الأجداد رَوو التراب بالدماء والتضحيات وأنقذوا الوطن من الاحتلال وأنياب التسلط الأوروبي وجعلوا أرواحهم مهرا للأرض والإنسان، أما الأحفاد فلم يكونوا من طينة الأباء أبداً، بل بات همهم جمع الثروة ونهب المقدرات وطمس المعالم الحضارية والثقافية بعنجهية وسذاجة قاتلة.
عنف يضج بالهمجية، وتعذيب في أعماق السجون، أحاديث جُونثان القادم من تامالي المدينة الواقعة في شمال غانا والسدود المنتجة للكهرباء ذكرني عن الحكايات الصومالية والمشاهد الملئية بالمعاناة وانتظار الفرج، أخبار أسرته الكبيرة صادمة ومذهلة، ومصير أترابه الذين انخرطوا منذ الصغر أطفال الشوارع تقطع نياط القلوب، أما السوداني النبيل هاشم بابكر الدومة المهاجر من كردفان المنسوجة بجمال الطبيعة وجحيم المعارك إستطاع أن يؤرخ للوجع السوداني!. تحدثنا عن افريقيا وتفردها، وتجولنا في شرقها المأزوم منذ قرون، وتصفحنا أروقة الألحان الكلاسيكية والسلم الخماسي المشترك بين الصومال والسودان. 
كان الليل مظلما وفيض الندى يهاجم الأبدان السمراء في صقيع الشمال، كنت أقرأ الكتاب الثري للاجئة البولندية باربرة بورايسكا من المرتفعات إلى السافانا (From the Steppes to the Savannah) يعذبها الحنين في أدغال إفريقيا ويوجعني الشجن في أحراش أوروبا!. الكتاب في معظمه توثيق للعادات والتقاليد وأنماط الحياة ومعاناة اللاجئين في قلب افريقيا الماطرة، وخاصة أوغندا التي احتضنت الجالية البولندية المهاجرة من أوروبا إلى شرق افريقيا بعد أن إحتل الجيش الأحمر بلدهم وأصبحوا بين مطرقة النازيين وسندان السوفييت، اللجوء ..التشريد.. والموت جوعا كلمات من قاموس المعارك التي أهلكت البشرية دون أن نرى بصيص أمل للخروج من شرنقة الصراعات التي تقودنا نحو الهلاك الجماعي وانقراض البشرية عن الوجود، ما أصعب إهانة المعابر وفقدان الأوطان وميادين الذاكرة!.
طالما سألت نفسي وأنا اراقب لقاء الثقافات من شرفة خيمتي ثلاثية "الفقر، الجهل، المرض" وعلاقتهما بالتخلف والأمزجة العفنة للقادة الفاسدين، وكيف يمكن أن تعطيني دولة أجنبية الحنان وتغدقني مالها العام وتمنحني اللجوء والصحة والتعليم أنا ومن كل المهاجرين الذين جاءوا من كل حدب وصوب؟. بلادهم تهجرهم والغريب المغاير يعطيهم اكسير الحياة والأمان، والطبيعة تمنحهم برودة وسلاما فقدوهم منذ أن أصبحت بلادهم قاتمة كئيبة تقطر من جبينها البؤس والدمار والتشظي.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...