الاثنين، 26 يناير 2015

أردوغان.. رجل المواقف الخالدة

أردوغان شخصية أبهرت العالم، وأجمع محبوه ومبغضوه أنه الشخصية الأهم في العالم الإسلامي، والسياسي الأكثر حضورا في أروقة السياسة وفي ذاكرة الشعوب ومجالسهم ولسانهم في العقدين الأخيرين، لمعت شخصيته على سماء العالم الإسلامي الذي كان يمر بداية الألفية الثالثة فترة عصيبة، أحجبت فيه غيوم اليأس والإحباط جميع الأفق، وأغتال السياسيون البلهاء الأحلام المشروعة للشعوب في رحم الغيب، وأستعبدت القوى الغربية البشر  وحتى الحجر، وأنعدم في الساحة قائدا ملهما تعلق عليه الأمة آمالها، ويمثل الشعوب المغلوبة بمواقفه ومبادئه..
بزوغ نجم أردوغان الذي كسر عن الصورة النمطية لتركيا العلمانية التي تحمي تراث الأتاتوركية، وتلهث وراء الغرب، وتنكر الثوابت والمقدسات من أجل أن تكون عضوا في الإتحاد الأوروبي لم تأت من فراغ، بل كان تخرجه عن مدرسة الإئمة والخطباء لها أثّر كبير في قراراته السياسية ونظراته الإدارية، لأنها أصقلت ذهنه وأثّرت شخصيته لاحقا، حيث تركت النشأة الدينّية بصمات واضحة من التّديّن والإنتماء الإسلامي قلبا وقالبا، والإقتفاء بأثر الرسول والصحابة الكرام، وهذا مما ساهم أن تعود الدين الإسلامي إلى مكانتها الطبيعية في تركيا الحديثة، وجعلته رجلا في زمن قَلّ فيه الرجال، رجلا بتمسكه الكبير لتعاليم دينه، ورجلا بسلوكه القويم، ورجلا بصمته، ورجلا بكريزميته الخاصة، ورجلا بوفاء عهده، ورجلا بصدقه وحنكته، ورجلا بقلبه النابض حبا وعشقا للإسلام وأهله.
جعل تركيا دولة محترمة عالميا، وقائدة سياسيا، وكبيرة إقتصاديا تقارع الكبار والدول الغنية، بعد أن كانت دولة منهكة إقتصاديا، وعملاقا مريضا يجرى وراء أوروبا، ويدير ظهره للشرق الإسلامي والعربي الذي كان يوما من الأيام ولايات عثمانية تحميها الأتراك، ولو بصفة الخلافة الإسلامية التي إنهارت بفعل المؤامرات الصهيونية والصليبية والضعف الداخلي، والتغير الكبير الذي طرأ على السياسة الخارجية التركية بعد مجئ حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان ورفيق دربه غول، والشوط الكبير الذي قطعته تركيا نحو التطور، والتنمية، والرفاهية، والإنتماء الواضح إلى الشرق والجذور الإسلامية، ندرك من خلال كلمة الرئيس أردوغان في مؤتمره الصحفي مع الرئيس إسماعيل عمر جيله في جيبوتي:
(تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، وفي العديد من المنظمات، فلماذا لا يتم قبولها في الاتحاد الأوروبي؟ إذًا ثمة سبب آخر لذلك، إنَّ تركيا اليوم قوية، وإن كنتم تظنون أنها ستقف على عتبة بابكم، وتتوسل إليكم الانضمام، فتركيا ليست بالدولة التي تتوسل، بل هي دولة تعرف كيف تنهض بذاتها، تركيا دولة تتطور يوميًا من خلال صناعتها، وزراعتها، وطاقتها، وتعليمها، وصحتها، وغيرها من المجالات، فإن قبلوها بهذا الإصرار في الاتحاد، انضمت، وإلا سترسم طريقها بنفسها) .
قائد يثق قدراته ويؤمن رسالته ويحقق أهدافه النبيلة، ويسعى إلى نشر أهدافه ومبادئه، لم يغتصب السلطة، ولم يسرق الأصوات، ولم يصدر الحقوق، ولم يكمم الأفواه، ولم يقفز إلى رأس السلطة، ولم يبدأ مشواره السياسي عن رأس الهرم، بل هو زعيم محنك تدرج في العمل السياسي والكفاح الوطني منذ شبابه حين كان يافعا في حزب الخلاص الوطني بقيادة الزعيم أربكان، وحتى بعد إغلاق الحزب وإنضمامه إلى حزب الرفاه في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم، إلى أن أصبح عمدة إسطنبول التي كانت مدينة شرقية غارقة في الزحمة والقمامات فحوّلها إلى عاصمة عصرية، ومدينة تستقبل سنويا أكثر من 13 مليون سائح من مختلف العالم حسب تقرير صدر عام 2013م.

الاثنين، 5 يناير 2015

صدى الأيام (2)



جئنا إلى المدينة الفاتنة بكل أضوائها وتعقيداتها ونمط حياتها الصارم والمغاير لما ألفنا به في البوادى والقرى الموغلة في جغرافية الوطن المترامي، وأبهرتنا ردهات المدن المجهولة وعيشها الصعب، والمدينة ليست مثل البادية بل تتطلب معرفة دقيقة لكنهها، وعلما واسعا لتفاصيلها، وفي مجارات إيقاعها السريع ونبضها الحيوي المتدفق ما يدعو إلى التعب والتحمل الشديدين، وهذا ما رسبته الجموع الصومالية إلا قلة نادرة، ولم يتكيّف بها الشعب الصومالي الذي يحمل في جيناته تمردا واضحا للتمدن والمدنية بشكلها المعروف عالميا.

 تخبطنا في المدينة وحياتها، وتهنا في سراديب الدولة الحديثة وأجهزتها، وفشلنا في إدارتها وقيادة سفينتنا العملاقة نحو المراسئ الآمنة، وفقدنا الإنضباط الذي هو سمة الدولة، لأننا في مرابعنا النائية، وقرانا المتناثرة على طول البلاد وعرضه، ومدننا المطلة على المحيط، أو تغفو على حضن الشواطئ، أو الوادعة في جبين السهول مارسنا الحرية المطلقة بأبهى صورها، حيث عشنا ونحن لا تصل إلينا رقابة الدولة، ولا قوانين الحكومة، ولا عين الشرطة، بل يعيش المرأ في باديتنا حرا طليقا لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ويمارس الحياة بطريقته الخاصة في داخل حكومة القبيلة ودولة الحيّ.

وعند الصومالي المتمرّد فالحرية أهم شئ في حياته، ولا يستطيع أن يعيش إذا سلب منه هذا الحق الأصيل، أو شعر مصادرة حقوقة الأساسية، وإنتهاك حرمته وفقد الحرية التي تشكل تاجا يومض على هامة هذا الشعب الجامح، والوصايا الإنجليزية في هذا الشأن إبّان الإستعمار والحقبة الكولونيلية الأوروبية معروفة ومتداولة في أروقة الحكم والمتاحف الإنجليزية.

توالت الأيام وسار بنا الزمن حتى وقفنا عتبة عام التسعين الميلادي، الذي حمل إلينا الحروب، والتشرذم، والمجاعة، وأطنانا من السوء والسواد، ووصلنا الحال إلى أن دمرنا وطننا شبرا شبرا، وميلا ميلا، وفرسخا فرسخا، وأن نبيع كرامتنا عيانا ودون تأنيب الضمير، وأن نقتل الأرواح بأتفه الأسباب وأوهى الحيل، ونزهق النفوس البرئية بلا سبب!، ولايعرف القاتل بم يقتل ولا المقتول بم قتل،! هرج ومرج، دماء ودموع، دمار وركام، آهات وآلام، وهموم الحزانى يملأ المكان، وأنينهم يوجع القلوب، وبكاء الأرامل يذيب النفس، وفوضى عارمة، وجنوح نحو القتل والإبادة ومص الدماء بطريقة بربرية بشعة لا تمت أي صلة بتعاليم ديننا الحنيف، والموروثات الثقافية والعرفية للشعب الصومالي.

وتمادينا في الحيل اللئيمة والطرق الملتوية، نبقر البطون بجنون، ونشرب الدماء بنهم، ونمزق الوطن بوحشية، ونصادر الحريات والحقوق بعجرفة، ونقبر الأحلام بعنجهية، ونتلذذ في القتل وإيذاء الضحية كاننا مردة الشيطان أو كائنات غريبة جآت من الكواكب الأخرى أو الضفة الأخرى للحياة!،حولنا المدن  إلى ركام من رمال وأكواما من رماد، وجبالا من المزابل والقمامات، وأنهارا من البالوعات النتنة، وأزقات مخيفة ومرعبة، وجعلنا مرح الطفولة ميادينا للموت وساحات تقطر منها الدماء والدموع وتتصرم بين ثقوبها أحلام الشعب والحياة الكريمة.

الجمعة، 2 يناير 2015

صدى الأيام (1)

كانت الصومال منذ القدم مكانا لأنبل الرجال وأجمل النساء، وموطنا يحضن رجالا نحيلي الأجسام، بيضي العمائم، سمر الجباه، مزركشي الأثواب،  الإبل كان مفخرتهم وأساس حياتهم في مضاربهم الممتدة بإمتداد شرق أفريقيا، ومجالس الشعر، ونوادي النثر والسمر على ضوء القمر قرب مبارك الإبل أو مشارف الحي متنفسهم الأجمل. الروابى المعشبة، وهامات الجبال أو الصحاري المترامة هي تكاياهم في زمن الحرب والترحال، وفي موسم الرخاء والسلام.

سجيتهم الشهامة، وإكرام الضيف، والبأس عند الوغى، والشجاعة، والذود عن المحارم والمقدسات صفاتهم، تجري الحماسة في عروقهم النابضة بالإيقاعات التأريخية للأيام المشهودة والوقائع المتناثرة على ممرّات التأريخ، وحب الرحلات والتنقلات مجبولة في طبعهم البدوي الأصيل، فهم يتنقلون بحرية تامة عن مضاربهم الوادعة ومنازلهم إلى الأدغال البعيدة والأحراش المخيفة والسهول الواسعة، ويركبون الزوارق الشراعية، وقوارب الموت وهم يذهبون إلى البلاد البعيدة طلبا للأرزاق وكسبا للأمول وتحسينا لمستولى المعيشة دون خوف أو وجل، عيونهم تشع بالحيوية والصرامة، وقلوبهم ملئية بالثقة والتجلد، وخلاياهم دافقة بالحب والحنين، والصراحة تجري على لسانهم ولا يخفون وجوههم بأقنعة زائفة ومكاييج للي عنق الحقائق.

في مجالسهم الذي يتحول صدى للأيام، وسجلات خالدة للنسب وتأريخ القبائل والشعر والشعراء، يتحدث أكبرهم فيصغي الجميع وهم قد إحتبو بردائهم على فناء القرية وتحت شجرة وارفة الظلال،على بعد أمتار قليلة لإصطبلات الخيول، أو لمرابط الأغنام، ويلقى أديبهم كلمات الشعر،  ويطلق عنان الحروف المشحونة برائحة الحاضر ويرسل دولة القوافي إلى أبعد الحدود ويتناول الأحداث الموغلة في القدم والعقود الغائرة والأحداث الجديدة، وهو يهدر كالأمواج الهائجة يرعد ويزبد، أو يلقي النثر السلس فيتفاعل الجميع ويدخلون موجات من النشوة النادرة ولحظات من الصفاء السعيد، لأن الشعر طُبع في مكنوناتهم وتداخل مع نفسيات الإنسان الصومالي الذي ينضح شعرا وأدبا، أو يقول الشيخ كلمته الوعظية وآياته القرآنية وأحاديثه النبوية فينصت الجميع ولايتحركون كأن على روؤسهم الطير.

وميض غامق ينبثق من عيونهم الغائرتين فيشق أصداء السنين، ويتلاشى حواجز الحاضر وهم يجلسون تحت الأشجار الوارفة بحلق مغلقة توارثها الأجيال كابرا عن كابر، وأصبحت ثقافة في عمر الوطن، وعمر الوطن قديم، حيث دلت الأحفوريات الجديدة أن أقدم إنسان في الكون عاش في القرن الإفريقي قبل ملايين السنين، وقبل أن تتشكّلت بعض القارات التي تعتبر نفسها أنها الرائدة اليوم.

في هذه الجلسات المترعة بقصص العابرين، وأحاديث السمار، وأناشيد الحرية، وأغاني الوصال، وحكايات الماضي، وحل المشاكل القبلية الطارئة، وعقد القران وعقود الزواج، كانت أكواب الشاى تدور ولا تهدأ، والضحكات المتقطعة حينا والمجلجلة تارة أخرى تصدح وتخبو كأغاني إفريقيا وطبولها، ولبن النوق الذي غمرته الرغوة يعتبر زينة الجلسة، وحركات الرجال الذين ينضمون إلى الجلسة والمغادرين منها لاتهدأ وإن طالت الجلسة وتمددت.

هنا الجلسات والحلق المتوارثة تحت الأشجار وعلى فناء البيوت الصومالية التقليدية يعتبر بمثابة البرلمان، ومركزا ينقل إليه الأخبار وعيون الشعر، ومحطة يتزود بها القوم الثقافة والأدب وكل جديد في عالمهم البسيط، الأخبار تأتي من كل حدب وصوب تجاه هذه المجالس، ويأتي إليها الجميع ليبرزوا محاسنهم أو ليقدموا نظرياتهم أو ليجدوا مآربهم، وهنا تتوصل القبيلة الحلول الناجعة وتحل المشاكل، على وقع القصص الدائرة حول أسراب الخيول، وقطيع الإبل، والزوجة الجميلة التي تستطيع طهى الطعام بإتقان شديد وترحيب القرابة في البيت، وأخبار الأسواق التجارية في المدن الكبيرة، وحكاوي موغلة في التراث الصومالي، والصعود إلى هامات الجبال ومراقبة الشروق والأصيل، وكل ماذكرنا متعة لايضاهيها أي متعة عند البدوي الصومالي الأصيل.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...